بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أوحى إلى عبده ما أوحى من آيات الكتاب والسنة التي فسرتها و شرحتها شرحا, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تمحو الآثام و تعلي المقام و تبلغ قائلها دار السلام لا يجوع فيها ولا يعرى ولا يضمأ فيها ولا يضحى, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله و صفيه وخليله بعثه للمؤمنين مبشرا و نذيرا وداعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا, فآته جوامع الكلم فأصبح أفصح الخطباء و قدوة الأدباء وخير من نطق بالفصحى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه و من سلك سبيلهم وذب عن منهجهم مسالك الضلال و سوء فهم الجهال ومن رام فيه لثما أو قدحا وسلم تسليما.
لقد من الله - تعالى -علينا فهدانا لدينه القويم وجعلنا من أمة سيد المرسلين, وامتن علينا بتمامه و كماله فلا نقص يعتريه و لا زيادة فيه و لم يدع ديننا القيم شيئا من الخير إلا حث عليه و رغب فيه, و ما ترك شيئا من الشر إلا بينه وحذر منه فديننا أكمل دين و نبينا أفضل نبي و لغتنا أفضل لغة {تبيانا لكل شيء و هدى ورحمة و بشرى للمسلمين} .
و من فضل الله علينا ورحمته بنا أن لم يقصر الدين على الصلاة, والصيام, والزكاة, والحج فحسب بل نوعه و كثر طرق الخير فيه فمن تلاوة, و تسبيح, وذكر, وحسن خلق إلى أرفع من ذلك من مال أو بدن حتى عرفت عبادته باسم جامع لكل ما يحبه ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة وأن طلب رضى الله - تعالى - بترك الذنوب أحبه إليه من عبادة العابدين و صلاة المخبتين, والدين فعل و ترك, و من تأمل نصوص الو حيين وجدها تحمل في طياتها ما يصلح أمور العباد في ديناهم وأخراهم إذ بها تستقيم أمورهم و تصلح شئونهم و تقضى حاجاتهم .
و في بعض ما يرضي الله - تعالى - ما يظهر للمؤمنين أن المراد منه مصلحة العبد فردا كان أو مجتمعا, كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وفي بضع أحدكم صدقه. قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته و يكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر) رواه مسلم.
فتأمل هذا القول الجليل لتعلم أن مصلحتك وجلب المصلحة لك و دفع الضر عنك هو مراد الشارع الحكيم في الدنيا قبل الآخرة, وإن ثواب الآخرة أعظم وأكبر.
فإذا علمت أن ما شرع الله - تعالى -من أحكام أنت من يقطف ثمرتها و ينعم بتطبيقها سعادة دنيوية و فوزا أخرويا فإن منفعتك تشمل مجتمعك كله لينعم بما تنعم به, و يستظل بظل الشريعة السمحة كل مسلم متبع منقاد لأمر الله مجتنب نواهيه. إن المجتمع الذي ينعم بتطبيق الشريعة بين أفراده يسوده الأمن ويعمل فيه النظام و تسود فيه الفضيلة, و تقل فيه الرذيلة تحفظ فيه الأموال, و تصان فيه الأعراض, وتحفظ فيه العقول من كل ما يضر بها من مسكرات أو أفكار منحله, و تحفظ فيه القلوب من كل ما يضلها كالأهواء والشبهات .
المجتمع المسلم الحق محفوظ بالشريعة من الغيبة و من النميمة لا كذب فيه, ولا فجور, و لا رشوة أو شهادة زور, تنتشر فيه الأمانة, و تعظم من فاعلها الخيانة, فيتكافل المجتمع فيواسي فقراءه أغنياءه, و يرحم صغاره كبرائه, و قل ما شئت من الكيل بالقسطاس المستقيم, والحرص على حفظ مال اليتيم, وبر الوالدين, وحق المسلم على أخيه, والجار على جارة, والمحبة والتعاطف والتواد بين المؤمنين.
أيها المسلم: هذه الكلمات و تلك التوصيات تندرج تحت حديثه-صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده).
تأمله وقف عنده واحفظه واجعله نصب عينيك و ملء فؤادك. فلو عملت به كفاك. ولو وقفت عند معناه وقاك وحزت في تطبيقه وصايا جامعة من خير البشر. و تلحقك بركب السادة الغرر محمد - صلى الله عليه وسلم - و أبو بكر وعمر.
فمن كان هذا الحديث له منهجا ونورا أبلجا فاز بالجنة و من النار نجا, إذ لا يمكن أن يخون أو يسرق, أو يقتل, أو يحقد, أو يغتاب بل هو مع المسلمين يعاملهم كنفسه يحب لهم ما يحب لها - نصب عينيه (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) نصب عينيه (والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) وقوله ( لا تغضب), و في الحديث الأخر( الدين النصيحة) مجتنب للشبهات, طيب مطعمه يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه - مؤمن إيمانا بتركه مالا يعنيه, واضع أمام عينيه أن المسلم كله حرام دمه, و ماله, و عرضه, لا يحقر أخاه, ولا يسلمه, ولا يخذله, و لا يهضمه فإذا ذكر عنده أخوه المسلم قال خيرا أو صمت, يكرم ضيفه و يؤدم جاره, يتقي الله حيثما كان, و يتبع السيئة الحسنة, و يخالق الناس بخلق حسن, مدرك تمام الإدراك أن الحياء شعبة من الإيمان, و أن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى (إذا لم تستح فاصنع ما شئت), وأولى المستحى منه مولاك - جل وعلا - الذي يراقب حركاته و يعلم سره و نجواه, فيستحي منه أن يعلم في قلبه غشا لمسلم, أو غلا لمؤمن, أو حسدا, أو خيانة أو سعيا لضرره فيستحي من مولاه أن يراه حيت نهاه أو يفتقده حيث أمره.
أيها المسلم: إن سلامة المسلمين من لسانك و يدك يوجب عليك العمل بقول ربك: {إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدٌّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهلِهَا}, وفي قوله: {خُذ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَن الجَاهِلِينَ}. و بقوله :{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسناً}, وبقوله: {وَاخفِض جَنَاحَكَ لِلمُؤمِنِينَ}, وبقوله: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ}, وغير ذلك من آيات الكتاب الحكيم, ويحدوك امتثال ذلك إلى الاتصاف بهديه - صلى الله عليه وسلم - في قوله: { وكونوا عباد الله أخوانا}.
فكما يسلم أخوك الشقيق من أذاك و يحوز من الرضى والستر والذب عن عرضه والغيرة على محارمه وغير ذلك, فكذلك أخوك المسلم ينال مثل ما ينال أخوك الشقيق منك تماما.
ثم تأمل الحديث النبوى: ( كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس, تعدل بين اثنين, و تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة, والكلمة الطيبة صدقة, وبكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة, و تميط الأذى عن الطريق صدقة) متفق عليه.
وإن من الصدقة أن تلقى أخاك بوجه طليق, وإن من الصدقة التسبيح والتهليل والتحميد, و ضمان ذلك كله شمل اللسان عن عورات المسلمين وأعراضهم و ترطيبه بذكر الله.
مزية دين الإسلام أنه دين السلام و يقود أتباعه إلى دار السلام لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما تحيتهم فيها سلام - فدين السلام الذي جعل من دخول الجنة مربوطا بالإيمان والإيمان مربوطا بالمحبة والمحبة مربوطة بإفشاء السلام على من عرفت و من لم تعرف.
ولما كان ديننا كذلك جعل تمامه و حليته سلامة المسلمين من لسانك و يدك, وأنت في النهاية الرابح, فالمفلس من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من جاء يوم القيامة ولم يسلم المسلمون من لسانه ويده, فيأتي وقد شتم هذا, و ضرب هذا, و سفك دم هذا, وأكل مال هذا, فيقتص منه يوم الدين بحسناته التي اتخذها من عبادته, و طاعته و من سلم المسلمون من لسانه و يده - سلم هو من تبعات ذلك يوم يقوم الناس لرب العالمين, و تنشر الدواوين, و توضع الموازيين فلا ينفع نفس شيئا, والوزن يومئذ الحق, فكن أيها المسلم ممن ثقلت موازينهم و حذار من الذين خفت موازينهم فؤلئك هم الخاسرون .
فالمسلم الحق صادق في أخوته, مخلص في مودته, عضو صحيح في جسم أمته مستمسك بهدي نبيه - صلى الله عليه وسلم - يتبع قوله: (لا تحاسدوا, ولا تباغضوا, ولا تناجشوا, ولا تناظروا, ولا يبع بعضكم على بيع بعض, وكونوا عباد الله إخوانا, وإياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث).
هذه هي الشريعة التي جاء بها الوحي المنزل وكلام من لا ينطق عن الهوى, وعلمنا الأدب فما أحسن تعليمه, وما أكمل دينه وصدق الله - تعالى -حين امتن علينا به ووصفه فقال: {لَقَد جَاءَكُم رَسُولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتٌّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
جمعني الله وإياكم به في جنة عالية يقال لأهلها: { كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية}
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.