المسلم لا يشغله هَمٌّ عن هم، فهو يجمع خرزات الهموم في خيط واحد، وهو إرضاء الله تعالى، مندرجة تحته الهموم الجزئية الموصلة للهم الأعظم، ألا وهي سبيل تحقيق هذا الهم، مثل إحقاق الحق، ومدافعة الباطل، وإقامة الخلافة في أرض الله، وهكذا.
ولعلك تفاجأ معي إذا علمت أن سورة الروم سورة مكية، نزلت في أيام الاستضعاف في مكة قبل الهجرة، تحوطها أسوار السجن في شِعب أبي طالب!فلو تخيلت نفسك مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الشِّعب، تُعَد عليك الأنفاس، قد تفاجأ بانقضاء عمرك جوعًا أو عطشًا أو إعياءً، لا يعدو بصرك كفك في وضح النهار، من جَهد الجوع والنَّصَب، فإذا أخرجت يدك لم تكد تراها. وفي وسط هذا الاستضعاف تنزل السورة: \”الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللهِ لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ\”.
ما هذا ؟!! أليس المسلم في همٍّ شاغل يشغله عن قضاء حاجاته الأساسية من المعيشة؟! بل لا يأمن أحدهم الذهاب لقضاء حاجته منفردًا؟
والإجابة: بلى!! فما الداعي إذن للحديث عن الممالك الكبرى في العالم آنذاك؟ وما يخصنا من ذلك؟
وذلك العجب يزول إذا علمت أن المسلم الذي يتكون لديه الهم الدعوى لا يقنع بما دون الثريا، بل الجنة.
لا يكتفي المسلم بهمومه الحالية، بل يخطط، وهو في ظل الظلمات الحالكة لمستقبل زاهر منير يحدوه الأمل والثقة بالله رب العالمين.
القرآن يربي المسلمين من البداية على بُعْد الرؤية واكتمال التصور لحقيقة الصراع بين القوى الكبرى، وأن يتمتع المسلم بقدرة فائقة على تحليل الأحداث وصدق التوقع؛ لأن هذا يخصه.
أليس الإسلام دينًا عالم דָ يا؟ أليس من واجبه أن يرسل إلى هؤلاء \”أسلِم تسلَم\”؟ أليس هو الخليفة لله في هذه الأرض؟
بلى.. بلى
إن هموم العالم الإسلامي الطارئة لا ينبغي أن تشغل المسلم عن هدفه وهمه الأكبر، وهو أسلمة الكون وأستاذية العالم.
والمسلم وهو مُحَاط بالهموم يجب أن يتابع موازين القوى العالمية، ويرصد عِبَر الزمان بدقة، فهذا مقعده، ولكنه اليوم يرقبه من بعيد، ومن تحت الأنقاض، إلا أنه غدًا سيشرف عليه من عَلٍ، ويرسلها مدوية في آذان الوجود: \”جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل
كان زهوقًا\”.
فلا تعجب أن تنزل سورة الروم باسم أعظم إمبراطورية آنذاك على النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الظروف الحالكة، فإذا توارد الهم الأكبر أنسى الهم الأصغر. وكأني بالأمل والثقة بالله أحس بأن سورًا وإشارات تتنزل على المسلمين: أن اهتموا
بنشر ديني واسعوا لتحقيق مآرب الحق بتوجيهاتي. تشير إحداها بكيفية التمكين للإسلام في بلد الرأسمالية، والأخرى تحكي خطة التمكين للإسلام في البلاد غير الرأسمالية وهكذا.. والأمل في الله كبير والحمد لله.
نرى بجميل الظن ما الله صانع **** وإنا لنرجو الله حتى كأننا فالمسلم مسلم وإن ضعف يومًا، والحق حق وإن احتوته عواصف التزوير- فلابد يومًا أن يسود وينتصر، والباطل باطل، لا بد يومًا أن يعود إلى أصله حيث لا أصل. \”فأما الزَّبَد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض\”.
والمسلم المستعبد الآن، عند الله عظيم، وهو بإذن الله خليق أن يتسلم الراية من جديد، طالما أن معدنه براق، وإن غطاه التراب شيئًا ما، فالأسد أسد وإن كان بداخل القفص.
والأُسْد في قفص الحديد أسود **** إن الجواهر في التراب جواهر فلا تحقر نفسك أيها المسلم، واشغل نفسك بمعالي الأمور، فأنت أحق بها وأهلها، فأعداؤك يريدون أن يشغلوك بما تحت قدميك من عراقيل، ولكنك تتجنبها، وفي نفس الوقت ترمق سير الأجرام في السماء، وحركة الشموس الكبار التي تناسب أفق تفكيرك.. فهذا ما يحاولون إشغالك عنه، وهم أعجز من ذلك، إلا أن تعطيهم أنت الدنية من نفسك.
ما يبلغ الجاهل من نفسه **** وما يبلغ الأعداء من جاهل
وقد سار عجب الملوك والرؤساء في العام السادس الهجري من كتب وسفراء الرسول صلى الله عليه وسلم ، الذي ترجم عالمية الرسالة.. والتي يدعوهم فيها إلى الإسلام، إذ كيف يدعوهم رجل بدوي ويقول لكل منهم: \”أسلم تسلم\” ؟ يتساءلون: من هو حتى يقول للقياصرة والأكاسرة ذلك؟ وسرعان ما انقشع هذا الغرور، وفوجئوا بأن الذي يخاطبهم بذلك جاء غير لاعب ولا مُتسَلٍّ.
ولا عبرة لعجبهم أو رضاهم أو سخطهم، فمنذ متى وهؤلاء يرضون عمن يعتبرونهم أقل منهم منزلة، ولكن العبرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقدر نفسه ودعوته، ويؤمن بها ويثق في نصرها وتأييد الله لها. وعندئذ لا يعتبر لقوة الباطل وزنًا؛
لأنها زاهقة لا محالة، فلا تفقد الثقة في نفسك. \”ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين\”.
المراجع
archive.albiladdaily.com
التصانيف
فنون أدب أدب إسلامي مجتمع