تعريف الاجتهاد لغةً واصطلاحاً
درج الأصوليون على تأخير مباحث الاجتهاد إلى آخر مباحث علم الأصول، ولا يعني ذلك تقليلهم لشأنه، أو تهوينهم لأمره، بل إن لمباحث الاجتهاد أهمية في الشرع عظيمة، ومنزلة في نفوس العلماء كبيرة، وإنما كان تأخير العلماء لمباحثه من باب ترتيب الثمرة على المثمر، والطريق على الأصل؛ فالاجتهاد ثمرة معرفة علم الأصول، كما أنه طريق معرفة الأحكام الشرعية، فلما فرغ الأصوليون من مباحث الأصول ناسب أن يذكروا ما يترتب على معرفتها.
وقد اعتاد العلماء على بَدْء العلوم والمباحث بالتعريف؛ لأنه يصور المعرَّف قبل الدخول فيه، بل جعله بعض الأصوليين حقًّا من حقوق العلم أو المبحث المطروق؛ قال الآمدي: "حق على كل مَن حاول تحصيل علم من العلوم، أن يتصور معناه أولًا بالحد ..." [1]، وقال الأسنوي: "اعلم أنه لا يمكن الخوض في علم من العلوم إلا بعد تصور ذلك العلم، والتصورُ يستفاد من التعريفات"[2].
وسيرًا على سنة العلماء، نبدأ بتعريف الاجتهاد في اللغة، وبيان حده في الاصطلاح؛ ليكون واضح المعالم، بيِّن المدارك.
المبحث الأول
تعريف الاجتهاد
من المعلوم أن كل فن، أو مصطلح، أو نحو ذلك يمكن تعريفه من جهتين:
الأولى: من جهة أصله اللغوي.
والثانية: من جهة ما اصطلح عليه وتعارف عليه أصحاب ذلك الفن، ولما أن كان الاجتهاد من مباحث الأصول، فإنه يرجع فيه إلى تعريفات الأصوليين، وفيما يلي نعرض لتعريفه في اللغة، ثم لتعريفه في الاصطلاح.
المطلب الأول: تعريف الاجتهاد في اللغة:
الاجتهاد[3]: افتعال من الجهد، وهو مصدر جهد كنفع، وجُهْد كحلو، وهما من المصادر الثلاثية.
والأصل اللغوي لمادة جهد بينه ابن فارس حيث قال: "الجيم والهاء والدال أصله المشقة، ثم يحمل عليه ما يقاربه: جهدت نفسي وأجهدت، والجهد: الطاقة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ﴾ [التوبة: 79]، ويقال: إن المجهود اللبن الذي أخرج زبده، ولا يكاد ذلك يكون إلا بمشقة ونصَب، قال الشماخ:
تُضْحِ وقد ضمِنَتْ ضرَّاتها غُرَقًا ♦♦♦ مِن طيِّب الطعم حُلْو غير مجهود[4]
ومما يقارب الباب الجهاد، وهي الأرض الصُّلبة، وفلان يجهد الطعام إذا حمل عليه بالأكل الكثير الشديد، والجاهد: الشهوان، ومرعًى جَهِيد: جهده المال لطيبه فأكله"[5].
وبالرجوع إلى معاجم اللغة يتبين أنهم ذكروا لمادة: "جهد" عدة معان، ومن أهمها:
(أ) المشقة؛ فكلمة: "جهد" بالفتح والضم، كما قال أبو عبيدة والليث، وقيل بالفتح ليس غيره، وقيل الجهد: بالضم لغة أهل الحجاز وبالفتح لغيرهم، وخصها بعضهم بأهل نجد.
وهي تدل على المشقة، وجعلها ابن فارس أصلًا لمعاني الكلمة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((تعوَّذوا بالله من جَهد البلاء)) [6]؛ أي: مِن الحالة الشاقة التي تأتي على الإنسان يختار عليها الموت، وقيل: تعوَّذوا من كثرة العيال، وقلة الشيء[7]، وهذا المعنى راجعٌ إلى المعنى الأول.
والجهد: ما جهد الإنسان من مرض أو أمر شاق، فهو مجهود، والجهد: بالضم تفيد هذا المعنى أيضًا على قول الليث وأبي عبيدة، وجهدت فلانًا: بلغت مشقته، والجهدان: من أصابه الجهد؛ أي: المشقة، ومنه أيضًا ما في حديث الأقرع والأبرص والأعمى: ((فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذتَه لله))[8]؛ أي: لا أشق عليك.
ومنه الجهاد، وهي الأرض الصُّلبة، وقيل: المستوية الملساء ليس بها أكمة، وقيل: لا نبات فيها، وقيل: الغليظة، وقيل: أظهر الأرض وأسوؤها، وأجهد القوم: أخذوا في الأرض الجهاد[9]، ومنه قولهم مجازًا: أجهدت رأيي؛ أي: أتعبته بالفكر، ومنه حديث معاذ بن جبل: (أجتهد رأيي) [10].
ومنه أيضًا قول رؤبة بن العجاج:
أشكو إليكَ شدةَ المَعِيشِ ♦♦♦ وجهد أعوامٍ نَتَفْنَ ريشي
نَتْفَ الحُبَارى عن قَرًا رَهِيشِ[11]
(ب) الغاية وكل ما يحصل: الجهد بالفتح بلوغك غاية الأمر الذي لا تألو عن الجهد فيه، والجهد: شيء قليل يعيش به الرجل المقل، وأتاني بجُهد له - بضم الجيم - أي: لبن ممزوج، وكل شيء مزجته فقد جهدته، وقريب منه: أجهد لك هذا الأمر فاركبه؛ أي: أمكنك.
(ج) الطاقة والوسع: جهد بالفتح، وقيل بالضم أيضًا بمعنى الطاقة، ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]، قرئت بالضم، وبالفتح[12]، ومنه حديث: أي الصدقة أفضل؟ قال: ((جهد المقل)) [13]؛ أي: طاقته[14]، وأيضًا منه حديث معاذ السابق: (أجتهد رأيي) [15]؛ أي: أبذُلُ طاقتي[16].
ومنه: الجهاد في سبيل الله، وهو: أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمُّل المشقة، ويقال: اجهد جهدك؛ أي: ابذل طاقتك، وهذا جهدي؛ أي: وُسْعي وطاقتي.
(د) المبالغة والجد في الشيء: الجهد بالفتح المبالغة، ومنه قوله تعالى: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 53]؛ أي: بالَغوا في اليمين، واجتهدوا فيها[17]، ومنه حديث: ((ثم جهدها، فقد وجَب الغُسل))[18]؛ أي: دفعها وحفزها، يقال: جهد الرجل في الأمر إذا جدَّ فيه وبالغ[19]، وكل من بالغ في الشيء فقد جهد، وجهدت الطعام أكثرت من أكله، ومجازًا: جهد فيه الشيب إجهادًا إذا بدا فيه بكثرة.
(هـ) الإشراف والظهور: يقال: أجهدنا؛ أي: أصحرنا وبرزنا، قال الفراء: "أرض فضاء، وجهاد وبراز بمعنى واحد"[20]، ومنه:
لمَّا رأيتُ القومَ قد أجهدوا ♦♦♦ ثُرْتُ إليهم بالحُسام الصَّقِيل[21]
ومجازًا يقال: أجهد لك الحق؛ أي: برز وظهر ووضح.
وبهذا يعلم أن المشقة ذاتها لا تفي بمعاني هذه المادة، غير أن هذه المعاني متقاربة تقاربًا كبيرًا، حتى إن بعض تلك المعاني لا تسلم من التداخل؛ ولذا جاز لابن فارس - وهو الضليع في اللغة - أن يقول: "ثم يحمل عليه ما يقاربه"[22]؛ أي: ما يقارب أصل المشقة، وإذا نظرنا إلى المعاني الأخرى وجدناها لا تخلو من مشقة؛ فالغاية والشيء المحصل لا يكون إلا بمشقة تحصل قبل حصوله، أو تكون قبل تحصيل الغاية غالبًا، وعليه فالشيء المحصل عن طريق مشقة ثمرة للمشقة، والمشقة أصل له، ولا غرابة أن يطلق على الثمرة والفرع ما يطلق على الأصل.
وأما الطاقة والوُسْع فهما يدلان على بذل المشقة، فمن بذل طاقته فقد تحصلت له المشقة ولا شك، وأما المبالغة والجد في الشيء فهما أيضًا تلازمهما المشقة، ويتبين ذلك بأن نقول: هما من أسباب المشقة، فالمبالغة في الشيء والجد فيه يكونان بتعب ومشقة، ولو قلَّت وضعُفت تلك المشقة.
ولا يبعد عن ذلك الإشراف والظهور؛ إذ هما مما يوجد المشقة، ويظهر هذا بقولهم: أجهدنا؛ أي: أصحرنا، فمن دخل في الصحراء وبرز فيها، ناله مِن أتعابها بقدر بروزه فيها، وكذلك إبراز الحق وإظهاره يحتاج إلى نوع من المشقة.
وعمومًا لا تخلو معاني كلمة: "جهد" من المشقة، وقد تأتي للمشقة ذاتها، أو لِما هو محصل لها وسبب لوجودها.
وما سبق من المعاني هي المعاني الممكنة لكلمة: "جهد" عند أهل اللغة، وأما علماء الأصول، فإنهم تطرقوا لمعنى كلمة: جهد، وشاركوا أهل اللغة في إبراز معنًى جامع للاجتهاد في اللغة، ومما قيل في ذلك:
• استفراغ الوُسْع في أي فعل كان[23].
• بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل[24].
• استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة[25].
• بذل الجهد في فعل شاق[26].
• تحمل الجهد، وهو المشقة، في أمر[27].
• استفراغ الوسع في تحصيل الشيء[28].
• بذل الوسع[29].
• استفراغ الوسع لتحصيل أمر شاق[30].
هذه جملة من تعريفات الأصوليين، وغالب ما لم يذكر من تعريفات الأصوليين لا يخرج عما ذكر.
ولعل من الملاحظ اهتمامهم بجانب ما يحصل المشقة، وهو بذل الوسع أو المجهود، وأيضًا اهتمامهم بأمر آخر نص عليه بعضهم في تعريفه، وعناه بعضهم وإن لم ينص عليه، وهو أن الاجتهاد لا يطلق إلا على ما فيه مشقة وكلفة؛ ولذا لا يقال: اجتهد في حمل رغيف ونحوه؛ لأنه لا مشقة في حمله، وإنما يقال: اجتهد في حمل صخرة ونحوها؛ لملازمة المشقة لذلك[31].
وبذلك يظهر اعتناؤهم بأمر المشقة في تعريفهم للاجتهاد، ومما يؤكد المعنى الأخير أن قولهم: اجتهد فيه تاء، وهي في لسان العرب لفرط المعاناة، وهي تدل على تعاطي الشيء بعلاج وإقبال شديد؛ كاقتلع واقترع، ونحو ذلك[32].
وبهذه المقارنة يحق لنا أن نقول: إن الأصوليين في تعريفهم للاجتهاد في اللغة لم يخرجوا عن تعريف اللغويين لمادة: "جهد".
المطلب الثاني: تعريف الاجتهاد في الاصطلاح:
يمكننا أن نعرف الاجتهاد باعتبارين:
الأول: باعتبار معناه الوصفي:
وهو تعريفه باعتباره وصفًا أو حالًا إذا وجد عليها المرء سُمِّيَ مجتهدًا.
وبهذا الاعتبار تطرق الأصوليون لتعريف الاجتهاد، بل واقتصروا عليه، وأعرض أكثرهم عن تعريفه بالاعتبار الثاني.
الثاني: باعتبار معناه الاسمي:
وهو تعريفه بذاته، باعتباره مَلَكة أو وصفًا منضبطًا يقوم فيمن يؤدي عملية الاجتهاد، ولم يتعرض الأصوليون لتعريفه بهذا المعنى في حدود ما اطلعت عليه إلا بعض المحاولات المتأخرة لبعض علماء الشيعة[33] ومنسوبيهم ولبعض المتأخرين من غيرهم[34].
وقد عرَّف الأصوليون الاجتهاد بالمعنى الأول بتعريفات كثيرة، غير أنها في الجملة متقاربة الألفاظ والمناهج؛ ولذا فسأعرض لتعريف الشَّاطبي للاجتهاد، ثم أكتفي بإيراد أبرز هذه التعريفات مع مقارنتها بتعريف الشَّاطبي، مختارًا بعد ذلك التعريف الأسلم في نظري، وبما أن الشَّاطبي تعرض لتعريف الاجتهاد بالمعنى الأول، فسأقتصر عليه دون أن أتعرض للمعنى الآخر.
رأي الشَّاطبي:
أوضح الشَّاطبي رأيه في تعريف الاجتهاد، وعرَّفه بأنه: استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم[35].
شرح التعريف:
قوله: استفراغ الوسع: استفراغ أصلها فرغ، وهو أصل يدل على خلو وسَعة ذرع، ومن ذلك الفراغ خلاف الشغل[36].
والوسع: مثلثة الواو، ووسع كلمة تدل على خلاف الضيق والعسر، يقال: وسع الشيء واتسع، والوسع يطلق على الغنى والجدة والطاقة[37]، ويقال: استفرغت الوسع؛ أي: استقصيت المجهود والطاقة[38].
وقوله: استفراغ الوسع: كالجنس في التعريف[39]، يصلح أن يتعلق بالمقصود المعرف وبغيره[40]، كما يمكن أن يكون ذلك من الفقيه المجتهد وغيره.
وضابط استفراغ الوسع: أن يبذل الباحث جهده، بحيث يُحِسُّ من نفسه العجز عن مزيد طلب حتى لا يقع لوم في التقصير[41].
وفي اللفظ السابق إشارة إلى إخراج اجتهاد المقصر، وهو الذي يقف عن الطلب مع تمكنه من الزيادة على ما فعل من بذل[42].
قوله: في تحصيل: التحصيل افتعال من حصل، ومادة حصل تدل على جمع الشيء، يقال: حصلت الشيء تحصيلًا؛ أي: جمعته، ومنه يقال: حوصلة الطائر؛ لأنه يجمع فيها[43].
قوله: العلم: أصله من علم: وهو أصل يدل على أثر بالشيء يتميز به عن غيره، ومنه العلم، وهو ضد الجهل، ويطلق على اليقين والمعرفة[44].
أما العلم في الاصطلاح فاختلف في تعريفه اختلافًا كثيرًا، حتى قال الرازي: "المختار عندنا أنه غني عن التعريف"[45]، ولكن أحسن ما قيل في تعريفه أنه: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع عن دليل[46].
قوله: أو الظن: أصله من ظن، وهو أصل يدل على معنيين مختلفين: يقين، وشك.
فأما الأول: فهو كقوله تعالى: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾ [البقرة: 249]، وقوله: ﴿ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴾ [الحاقة: 20].
أما الثاني: فكقوله تعالى: ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ ﴾ [فصلت: 23]، وقوله: ﴿ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا ﴾ [الجاثية: 32].
وخص بعضهم الأول بيقين التدبر، أما العيان فلا يقال فيه إلا العلم[47].
والظن في اصطلاح الأصوليين: تجويز أمرين أحدهما أقوى من الآخر[48]، وقيل غير ذلك[49]، وقوله: بالعلم أو الظن: يشمل بذل الوسع في تحصيل علم، أو ظن في الذوات، أو الصفات، أو الأفعال، أو الأحكام.
كما يشمل بذل الوسع لتحصيل ما كان سبيله الاعتقاد اليقيني الجازم، أو ما كان سبيله مجرد الظن.
وقوله: أو: أوردها هنا للتفصيل؛ إذ قد تكون نتيجة الاجتهاد إما قطعًا أو ظنًّا.
وقوله: "بالحكم": الحكم أصله حكم، وهو أصل يدل على المنع، وحكم بالأمر إذا قضى به، وحكم فلانًا إذا منعه عما يريده وردَّه، وحكم بينهما إذا فصل[50].
والحكم في العرف العام: إسناد أمر لأمر، أو نفيه عنه[51].
وهو عند الأصوليين - على أشهر تعريفاتهم -: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع[52].
وتقييده بـ: "حكم": يخرج العلم أو الظن بالذوات والصفات والأفعال.
إلا أنه أطلق الحكم ولم يقيده، فلا يخلو:
أولًا: أن يريد به الحكم الشرعي المصطلح على تعريفه بأنه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، فيكون إطلاقه من باب اعتماده على عرف الأصوليين، لا سيما وهو يتكلم في فنهم.
وإذا صح ذلك خرج به الحكم غير الشرعي، كالعقلي والحسي والعرفي.
والعقلي: كقولهم: الواحد نصف الاثنين، والجزء أقل من الكل، والحسي: كقولهم: النار محرقة والشمس طالعة، والعرفي: كقولهم: الفاعل مرفوع - في عُرف النحويين - وكالإنسان لا يطير في الهواء.
ثانيًا: أن يريد ما هو أعم من ذلك، وهو إدراك الثبوت والانتفاء، فيكون شاملًا لما سبق من الأحكام العقلية والحسية والعرفية.
فيكون الحد غير مانع حينئذ؛ لأنه يعرف الاجتهاد بالعرف الشرعي، وهو لا يكون إلا في الأحكام الشرعية، بل وليس الاجتهاد المعرَّف يعم جميع الأحكام الشرعية كما هو معلوم، وإنما يخص الفقه دون غيره، وهذا ما عناه الأصوليون حينما أوردوا تعريف الاجتهاد في مؤلفاتهم.
أما عمن وافق الشَّاطبي في تعريفه للاجتهاد فيقتضي بيان ذلك أن نعرض لكل لفظة من تعريف الشَّاطبي، ثم نقارنها بأبرز تعريفات الأصوليين لنرى من وافقه الشَّاطبي واستفاد منه، أو وافق الشَّاطبي في تعريفه، علمًا أننا لا يمكننا تقصي كل ما ورد من تعريفات للأصوليين ومقارنتها بتعريف الشَّاطبي؛ لأن ذلك يقتضي طولًا فائدته لفظية؛ ولذا كان الأولى الإمساك عن ذلك، وعرض ما يناسب المقام دون إطالة مملة، ثم بعد ذلك نخلص إلى التعريف الذي أراه مناسبًا للاجتهاد في اصطلاح الأصوليين، وفيما يلي نبين من وافق الشَّاطبي في ألفاظ تعريفه:
أولًا: فيما هو كالجنس: قال الشَّاطبي فيما هو كالجنس في التعريف: استفراغ الوسع:
وقد وافق الشَّاطبي على بداية التعريف بهذا اللفظ: الرازي، فقال في تعريف الاجتهاد: استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه[53]، وتبعه على هذا التعريف السراج الأرموي[54] والصفي الهندي[55]، واختصره القَرافي موافقًا له في بدايته، فقال: استفراغ الوسع في النظر فيما يلحقه لوم شرعي[56].
واختار هذا الجنس في التعريف: الآمدي، فقال: استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه[57].
وابن الحاجب، فقال: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي[58]، وتبعه التفتازاني[59].
وابن مفلح، فقال: استفراغ الفقيه وسعه لدرك حكم الشرعي[60]، وتبعه المرداوي[61]، وابن النجار[62].
وابن السبكي، فقال: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم[63]، وتبعه البرماوي في ألفيته[64].
وابن جُزَي، فقال: استفراغ الوسع في النظر في الأحكام الشرعية[65].
ومن هؤلاء من وافقه في كلمة استفراغ وخالفه في كلمة الوسع:
كالتاج الأرموي فقال: استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية[66]، وتبعه البيضاوي[67].
وبعض الأصوليين خالف الشَّاطبي في اختيار ما هو كالجنس للتعريف، فاختار كلمة: بذل، وبذل كلمة تطلق ويراد بها ترك صيانة الشيء، يقال: بذل الشيء إذا سمح به وأعطاه غيره، وبذل يمينه؛ أي: ما قدر عليه، والبذل ضد المنع[68].
ومن هؤلاء من خالفه في الكلمة الأولى، وهي قوله: استفراغ، ووافقه في كلمة الوسع:
ومنهم الغزالي، فقال: بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة[69].
والقرافي في تعريفه الآخر، فقال: بذل الوسع في الأحكام الفروعية الكلية ممن حصلت له شرائط الاجتهاد[70].
والزركشي، فقال: بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط[71].
والبرماوي، فقال في شرح ألفيته: بذل الوسع من الفقيه في تحصيل ظن بحكم شرعي[72].
ومن الأصوليين من خالفه في كلمتي الجنس:
كابن قدامة؛ حيث قال: بذل الجهد في العلم بأحكام الشرع[73].
والتبريزي؛ حيث قال: بذل الجهد في تعريف الأحكام الفروعية التي هي مجاري الظنون[74].
والطُّوفي؛ إذ قال: بذل الجهد في تعرُّف الحكم الشرعي[75].
وابن الهمام، فقال: بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني[76]، وتبعه ابن عبدالشكور[77].
وبتأمل ما هو كالجنس في التعريف: يلحظ ما يلي:
أولًا: أن بعض الأصوليين عبر ببذل الجهد، أو استفراغ الجهد، أو المجهود، وهذا لا ينبغي؛ لأنه تعريف للاجتهاد بما هو من مادته، ويلزم من ذلك الدور.
ثانيًا: أن بقية الألفاظ في التعبير عما هو كالجنس - كقول بعضهم: استفراغ الوسع، أو بذل الوسع، أو بذل الطاقة - متقاربة ومؤدية للغرض، إلا أنني أرشح ما اختاره الشَّاطبي، وهي كلمة استفراغ[78]؛ وذلك لما يلي:
أولًا: أن أكثر المعرفين اختاروا هذا الجنس دون غيره.
ثانيًا: أن كلمة "استفراغ" أصلها مادة فرغ، وهي تدل على الخلو والفراغ خلاف الشغل، وفي ذلك إلماح إلى الحالة التي كان عليها المجتهد قبل طلبه وبحثه عن حكم الواقعة؛ إذ غالبًا ما يكون المجتهد فارغ الذهن عن الحكم الذي يطلبه، وهذا يوافق ما يدل عليه أصل مادة: "فرغ".
ثالثًا: أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، ومن المعلوم أن الألف والسين والتاء تدل على الطلب.
رابعًا: أنها أكثر موافقة للحالة التي يكون عليها المجتهد، لا سيما إذا انتهى من طلبه وتوصل إلى الحكم؛ إذ قوله: استفرغ وسعه يدل على عجزه التام عن مزيد طلب؛ فهو قد اجتهد حتى فرغ ما لديه من الجهد، فأصبح فارغ الجهد.
ثانيًا: حذف من يقوم بالاجتهاد:
قال الشَّاطبي في تعريفه: استفراغ الوسع، ولم يقيد ذلك بمن يقوم بعملية الاجتهاد.
وقد وافق الشَّاطبيَّ على ذلك جملةٌ من الأصوليين، كما يظهر ذلك من التعريفات السابقة؛ كالرازي، والسراج الأرموي، والتاج الأرموي، وابن قدامة، والآمدي، والتبريزي، والقَرافي، والصفي الهندي، والطوفي، والزركشي، وابن جزي، والبرماوي.
وخالفه آخرون، فقيدوه بمن يقوم لعملية الاجتهاد.
ومنهم من قيده بالمجتهد: كالغزالي.
ومنهم من قيَّده بالفقيه: كابن الحاجب، وابن مفلح، وابن السبكي، والبرماوي، والتفتازاني، والمرداوي، وابن الهمام، وابن النجار، وابن عبدالشكور.
ويمكن أن يلاحظ:
أولًا: أن تقييد التعريف بالمجتهد يلزم منه الدور؛ لأن المجتهد لا يمكن معرفته إلا بمعرفة الاجتهاد[79].
ثانيًا: أن من الأصوليين من قيده بالفقيه، وهو في اصطلاح الأصوليين: المجتهد العالم بأصول الفقه، القادر على استخراج الأحكام من الأدلة، أما إطلاقه على من يحفظ الفروع فليس من اصطلاحهم[80]، وهذا القيد مخرج للعامي، ومن لا يطلق عليه مسمى الفقيه؛ كالرسول صلى الله عليه وسلم[81]، وقد اعترض على هذا القيد من أوجه:
الوجه الأول: أن معرفة الفقه غير مشترط في المجتهد، فكيف يشترط أن يكون فقيهًا، كما أن غير الفقيه لو اجتهد في الأحكام الشرعية، وقد جاء بشروط الاجتهاد، لصح اجتهاده[82].
الوجه الثاني: ما ذكره التفتازاني من أن الفقيه لا يصير فقيهًا إلا بعد الاجتهاد؛ ولذا فالأولى حذف هذا القيد حتى لا يلزم منه الدور[83].
الوجه الثالث: أنه أخرج اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يسمى في العرف فقيهًا[84].
وأجيب عن ذلك بثلاثة أجوبة:
الجواب الأول: أن القيد في محله؛ لأن استفراغ الوسع جنس قد يقع من الفقيه ومن غيره، ولا يتصور فقيه غير مجتهد، ولا مجتهد غير فقيه، وما شاع من إطلاق الفقيه على غير المجتهد مخالف لعرف الأصوليين واجتهادهم[85].
الجواب الثاني: أن الفقيه يراد به هنا المتهيئ لمعرفة الأحكام، فيكون من باب المجاز الشائع، وهذا ما ذكره التفتازاني بعد إيراده الاعتراض المتقدم؛ حيث قال جوابًا عليه: "اللهم إلا أن يراد بالفقه التهيؤ لمعرفة الأحكام"[86].
ونوقش بأن هذا فيه تكلف، وإنما يُحمَل اللفظ على المجاز عند القرينة، ولا قرينة، والأصل في التعريفات الحقيقة لا المجاز[87].
وقد يقال: القرينة هي العرف السائد المنتشر[88].
الجواب الثالث: أن المراد تعريف اجتهاد الفقيه، لا مطلق الاجتهاد[89].
ثالثًا: مما يلاحظ أن أغلب الأصوليين لم يقيدوا التعريف بمن يقوم بعملية الاجتهاد تمامًا كما فعل الشَّاطبي، ولعلهم فعلوا ذلك؛ لأن المعنى المفهوم من عموم التعريف يدل على ذلك، وغاية ما في تلك اللفظة أنها مخرجة لاجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتهاد العامي، وعلى القول بجواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم فهو أول المجتهدين من هذه الأمة، ولا يخرج بإطلاق هذا اللفظ، وبالتالي فلا داعي لإخراجه من التعريف، أما العامي فإن كان المراد بالتعريف عموم الاجتهاد، وليس المراد هو الاجتهاد بالمعنى المصطلح عليه، فلا حاجة لإخراجه من التعريف، وهذا موافق لرأي الشَّاطبي من إطلاق الاجتهاد على تحقيق المناط بأنواعه، أما إن كان المراد هنا الاجتهاد المصطلح عليه، فإنه يتوجه على التعريف خلوه من قيد يخرج العامي، وهو وإن كان قد يفهم ذلك من مفهوم التعريف إلا أن الأولى في التعريف الوضوح، وعدم الاعتماد على المعنى.
ثالثًا: في الكلمة الثالثة في التعريف: قال الشَّاطبي: في تحصيل:
وقد وافق الشَّاطبي على هذه اللفظة: ابن حاجب، وابن السبكي، والتفتازاني، والبرماوي، وابن الهمام، وابن عبدالشكور.
وخالفه بعضهم، فقال: في النظر: كالرازي، والسراج الأرموي، والصفي الهندي، والقَرافي، وابن جُزي.
وبعضهم قال: في طلب: كالغزالي، والآمدي.
وبعضهم قال: لدرك: كالتاج الأرموي، والبيضاوي، وابن مفلح، والمرداوي، وابن النجار.
وبعضهم قال: في تعرُّف: كالتبريزي، والطوفي.
وبعضهم قال: في نيل: كالزركشي.
والكلمات المذكورة كلها مؤدية للغرض وافية بالمطلوب، إلا النظر، فإنه اعترض عليه بأن النظر إما أن يراد به معناه في اللغة، فيكون تعريفًا بالمغاير، أو يراد به المعنى الاصطلاحي، فيكون تعريفًا بالأخفى[90]، والنظر في اللغة بمعنى: تأمل الشيء ومعاينته[91]، والمراد هنا هو الأول، وهو ما يكون بالقلب والفكر، وهو في الاصطلاح: الفكر في حال المنظور فيه[92].
أما الطلب فهو ابتغاء الشيء[93]، والإدراك يطلق على الوصول إلى الشيء[94]، والمجتهد يصل إلى القول الراجح بعد بذل الجهد.
أما المعرفة فتطلق على سكون النفس إلى الشيء والطمأنينة به، أو تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض[95]، والنفس تسكن إلى القول الأرجح عندها، والعلم به قد يتتابع ولا يكون جملة واحدة.
ونيل الشيء هو بلوغ المقصود منه[96]، والمجتهد باجتهاده يبلغ المقصود، وهو القول الراجح.
وفي نظري أن أنسب هذه الكلمات - وإن كانت كلها مؤدية للغرض - هي كلمة: "درك"، ولعل مما يرشحها أن الإدراك بمعنى الإحاطة، والإحاطة أشمل من المعرفة؛ ولذا يوصف الله سبحانه بأنه محيط، ولا يوصف بأنه عارف[97]، وهذا موافق لحالة المجتهد؛ إذ عليه أن يحيط بجوانب المسألة التي يطلب الحكم فيها، كما أن هذه الكلمة أوفق من بقية الكلمات للحالة التي عليها المجتهد.
رابعًا: في تقييد نتيجة الاجتهاد بالعلم أو الظن: قال الشَّاطبي في تعريفه: العلم أو الظن:
ولم يوافق أحد - ممن ذكرنا تعريفه - الشَّاطبي في طريقة تعبيره لما ينتج عن الاجتهاد، ولكن كثيرًا من الأصوليين عبر بما يفهم منه تعميم نتيجة الاجتهاد للعلم والظن، فقال بعضهم: لدرك حكم شرعي، وقال بعضهم: في تعرُّف الحكم الشرعي، وقال بعضهم: في نيل حكم شرعي:
ويفهم هذا الرأي من تعريف التاج الأرموي، والقَرافي، والبيضاوي، والطوفي، وابن مفلح، وابن جزي، والزركشي، والمرداوي، وابن النجار، وقد ذكر الأسنوي أن قول البيضاوي: لدرك: يريد به الإدراك العام لما كان على سبيل القطع أو الظن[98]، وبقية الألفاظ مقاربة لذلك.
وخالفه آخرون، فقصروه على الظن: كالآمدي، والتبريزي، وابن الحاجب، وابن السبكي، والتفتازاني، والبرماوي.
أما الرازي فإنه عبر بما يفيد قصره على الظن، فقال: استفراغ الوسع فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع، وتبعه على ذلك السراج الأرموي، والصفي الهندي، واختصره القرافي، فقال: استفراغ الوسع في النظر فيما يلحقه لوم شرعي[99].
بينما الغزالي قصره على العلم، فقال: بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة، وتبعه في لفظة العلم ابن قدامة.
ويلاحظ مما سبق ما يلي:
أولًا: أن الغزالي ومن تبعه قيد التعريف بطلب العلم، وفي هذا إخراج للظن عن حيز الاجتهاد، ولا ريب أنه لا سبيل إلى إخراجه؛ لأن الفقه كما قيل ظنون، فلا يكون الاجتهاد حينئذ متناولًا للفقه[100].
وأجيب عن هذا الاعتراض بأجوبة:
الجواب الأول: أن العلم هنا يراد به الظن مجازًا، وعلاقته المجاورة الذهنية؛ لأن العلم مجاور للظن في الذهن، ويتواردان فيه على التعاقب[101].
وهذا الجواب فيه ضعف؛ لاعتماده على المجاز في التعريف.
الجواب الثاني: أن الفقه قطعي لا ظني، وينسب هذا لأكثر الأصوليين؛ فالحكم مقطوع به والظن في طريقه، فإذا ظن المجتهد حكمًا وجب عليه الفتوى والعمل به قطعًا للدليل القاطع بوجوب ذلك عليه[102]، فالفقه حينئذ هو العلم بوجوب العمل عند قيام الظنون.
الجواب الثالث: أن العلم هنا مطلق الإدراك، فيتناول اليقين والظن؛ كقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ ﴾ [الممتحنة: 10][103].
الجواب الرابع: أن أكثر الفقه قطعي، ومنه ما هو ظني، وهو أقله، ويؤيد ذلك أن جمهور مسائل الفقه التي يحتاج إليها الناس ثابتة بالنص أو الإجماع، وإنما يقع الظن والنزاع في قليل منها، وكثير من مسائل الخلاف هي في أمور قليلة الوقوع ومقدرة، وأما ما لا بد للناس منه، فهو مقطوع به، وما يعلم من الضرورة جزء من الفقه، وإخراجه منه قول لم يقله أحد من المتقدمين، وجميع الفقهاء يذكرون ذلك في كتب الفقه، كوجوب الصلاة والزكاة والحج واستقبال القِبلة ونحو ذلك[104]، ثم ما يعلم من الدين ضرورة أمر إضافي، فحديث العهد بالإسلام ونحوه قد لا يعلم وجوب الحج مثلًا، فضلًا عن كونه يعلمه بالضرورة، وكثير من العلماء يعلم ضرورة بوجوب سجود السهو ونحوه، والناس لا يعلمون، وأيضًا: أن الفقه لا يكون فقهًا إلا من المجتهد المستدل، وهو قد علم أن هذا الدليل أرجح، وهذا الظن أرجح، فالفقه هو علمه برجحان هذا الدليل، وهذا الظن، وليس الفقه قطعه بوجوب العلم، بل القطع من أصول الفقه وليس من الفقه، والفقيه إذًا علم رجحان هذا الدليل على الآخر، فهذا الرجحان معلوم عنده قطعًا، وهذا الفقه الذي يختص به الفقيه هو علم قطعي لا ظني، ومن لم يعلم كان مقلدًا لا مجتهدًا[105].
وهذا جواب قوي، ولكنه لا يستقيم مع رأي الغزالي، ونحن إنما نريد بيان التعريف على ما يراه الغزالي؛ ولذا فالأظهر والأقرب إلى مراد الغزالي هو الثاني أو الثالث.
ثانيًا: أما تعريف الرازي، وقوله: "فيما لا يلحقه فيه لوم"[106]، فهو يريد بهذا القيد إخراج المسائل الأصولية؛ لأنه يلحق فيها اللوم إذا لم يصادف الحق، ولو مع استفراغ الوسع[107]، وعلى هذا فهو قد أخرج ما سبيله القطع من حيز الاجتهاد، فيكون بذلك موافقًا للقول الثاني ومخالفًا للشاطبي.
ثالثًا: أن من الأصوليين من قيد التعريف بالظن، ويراد من ذلك أمران:
الأمر الأول: أنهم يريدون بذلك قصر نتيجة الاجتهاد على الظن دون اليقين، وعلى هذا فلا يكون الاجتهاد مفضيًا إلى اليقين، وإنما غايته أن يفضي إلى الظن.
وهذا محل نظر، لا سيما وقد سبق القول بأن الفقه قطعي وليس بظني عند كثيرين، أو على الأقل هو شامل للقطع والظن بإطلاق، وقد اعترض القرافي على تعريف الآمدي، بأنه اقتصر على الظن، وهذا لا سبيل إليه؛ لأن المجتهد يطلب أحد أمرين، فأيهما ظفر به أفتى به؛ فتقييده بالظن يقتضي عدم الجمع، فيبطل[108].
ولذا؛ فالأصح شمولية نتيجة الاجتهاد للقطع والظن.
الأمر الثاني: أن بعض من قيده بذلك رأى أن هذا القيد مخرج للأحكام المتعلقة بالعقيدة وأصول الفقه؛ لأنها أحكام قطعية، والأظهر في نظري أن الظن قد يتعلق بالأصول كما قد يتعلق القطع بالفروع؛ ولذا فهذا القيد لا يخرج الأحكام المتعلقة بالعقائد أو أصول الفقه.
وإذا أردنا أن تخرج هذه الأحكام عن حيز الاجتهاد المعرَّف، فلا بد أن نضيف ما يدل على ذلك، كقولنا: الفروعية، فيختص الاجتهاد بالأحكام المتعلقة بالفروع.
رابعًا: مما يلاحظ: أن الشَّاطبي فصل الجملة: فقال: العلم أو الظن، بينما اختصر بعض الأصوليين ذلك بكلمة واحدة تفي بالغرض، مثل قول بعضهم: لدرك، أو لنيل، أو في تعرف، أو نحو ذلك، فهذه الكلمات شاملة للقطع والظن، وطريقتا الاختصار أو التفصيل لكل منهما ما يسوغها، فالاختصار مطلوب في التعريف، كما أن الوضوح والبيان من متطلبات التعريف.
خامسًا: قيْد الحكم في التعريف: قال الشَّاطبي في تعريفه: بالحكم:
وقد وافق الشَّاطبي في إطلاق هذا اللفظ وعدم تقييده: ابن السبكي، فقال: لتحصيل ظن بحكم، وتبعه البرماوي في أحد تعريفيه، إلا أنهما خالفاه في عدم تعريف الحكم.
ومن الأصوليين من قيده بالحكم الشرعي، ولم يطلقه:
وهؤلاء اختلفوا: فمنهم من قال: بأحكام الشريعة، أو بأحكام الشرع، أو من الأحكام الشرعية، كالغزالي، وابن قدامة، والتاج الأرموي، والبيضاوي، والآمدي، وابن جزي.
ومنهم من قال: بحكم شرعي، أو نحو ذلك: كابن الحاجب، وابن مفلح، والتفتازاني، والزركشي، والمرداوي، والبرماوي في أحد تعريفيه، وابن الهمام، وابن النجار.
ومنهم من قال: الأحكام الفروعية التي هي مجاري الظنون، وهو التبريزي، وقال القرافي: الأحكام الفروعية الكلية.
ومنهم من قال: بالحكم الشرعي، كالطوفي.
وأما الرازي فقال: فيما لا يلحقه فيه لوم، وهو يريد بذلك الحكم الظني، فيخرج بهذا القيد الأحكام العقدية والأصولية، أما القرافي فقال: فيما يلحقه فيه لوم شرعي.
ومما سبق يلاحظ ما يلي:
أولًا: أن من قيد التعريف بالأحكام الشرعية أو بأحكام الشريعة مراده المأخوذة من أدلة الشرع، وقد اعترض على هذه الجملة باعتراضات:
الاعتراض الأول: أن التقييد بها غير مانع، وبيان ذلك أن من قيد بها عمم الاجتهاد في أحكام الشريعة، فيشمل ذلك الاجتهاد في العقائد والأصول، وهي ليست داخلة في الاجتهاد في عرف الأصوليين، إلا إن أريد بالحكم خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع[109].
الاعتراض الثاني: أن هذا اللفظ يدخل في التعريف ما أخذ من أدلة الشرع مباشرة.
نعم، قد يجاب: بأن ذلك يخرج باستفراغ الوسع، أو ببذل الوسع، ولكن قد يقال: بذل وسعه لتحصيل النص الذي يأخذ منه الحكم مباشرة، والبحث عن النص المتضمن للحكم بحث عن الحكم؛ إذ هو المقصود به.
الاعتراض الثالث: اعترض على هذا اللفظ باستفراغ الفقيه وسعه في بعض الأحكام دون بعض إن قلنا بعدم تجزؤ الاجتهاد، وإن قيل بتجزؤ الاجتهاد، فيخرج اجتهاد من لم يكن مجتهدًا في الجميع؛ لأن الألف واللام في قولهم: "الشريعة"، أو في "الأحكام الشرعية" للجنس، وهي تفيد العموم.
وأجيب: بأنه على القول بعدم تجزؤ الاجتهاد، فلا يلزم ألا يكون استفراغ الفقيه في بعض الأحكام دون بعض اجتهادًا؛ لأن عدم التجزؤ شرط لصحة الاجتهاد، وليس داخلًا في ماهيته، والتعريف إنما يخص الماهية، وعلى القول بجواز تجزؤ الاجتهاد لا نسلم خروج اجتهاد من لم يكن مجتهدًا في الجميع؛ فإن العارف ببعض الأحكام يدعى فقيهًا[110].
وهذا محل نظر؛ فقد علم مما سبق من هو الفقيه في عرف القوم، إلا أن يكون اصطلاحًا خاصًّا لا عرفًا عامًّا.
الاعتراض الرابع: أنه يتوجه عليه الاعتراض باندراج الاجتهاد في قيم المتلفات، وأروش[111] الجنايات، وجهة القِبلة، وطهارة الأواني والثياب في الاجتهاد المعرف، وكل ذلك لا يسمى الناظر فيه مجتهدًا بالعرف الفقهي، وإن كان يطلق عليه ذلك لغة[112].
وقد يناقش: بأن بعض الأصوليين يرى أن الناظر في ذلك يسمى مجتهدًا؛ إذ هذا النظر من باب تحقيق المناط، وهو في الجملة من أضرب الاجتهاد في العلة[113].
الاعتراض الخامس: اعترض ابن السبكي على ذلك بأنه تقييد للعلم بأنه من أحكام الشريعة، وهذا غير مفيد؛ لأن المجتهد لا يبحث إلا في أحكام الشريعة[114].
وأجيب عن الاعتراض: بأن هذا أيضًا متوجه على قوله هو في تعريفه: بحكم، وقوله: لتحصيل ظن؛ لأن المجتهد لا يبحث إلا في الحكم الظني، لكن يمكن أن يجاب بأن ذكرهما مع الاستغناء عنهما للتنبيه على أن الحاصل ظن الحكم لا العلم به كما يتوهم[115].
وهذا يتوجه في الجواب عن ذكر الظن لا الحكم، وما ذكره ابن السبكي موضع نظر؛ إذ لا غرابة أن يجتهد في بحث حكم غير فقهي، إلا أن يقال: الكلام في الاجتهاد الفقهي دون غيره، فيكون مقيدًا بالعرف الأصولي.
ثانيًا: من قيد التعريف بالأحكام الفروعية، أراد بقوله: الأحكام الفروعية، إخراج أحكام العقائد والأصول، وقد اعترض عليه القرافي بأنه غير مانع من دخول ما ليس من الاجتهاد عرفًا، كالاجتهاد في قيم المتلفات، وأروش الجنايات، والأواني والثياب، ونصب الأئمة ونواب الحكم، ونحو ذلك، مما يسمى اجتهادًا لغة لا عرفًا[116]؛ ولذا أضاف القرافي قيد: "الكلية": وأراد بذلك إخراج قيم المتلفات ونحوها؛ فإنها أمور جزئية لا تتعدى تلك الصور المعينة بخلاف الفتاوى؛ فإنها عامة على الخَلْق إلى يوم القيامة.
ومع ذلك يمكن أن يعترض على تعريف القرافي بأنه لا يتلاءم مع من يرى جواز تجزؤ الاجتهاد؛ لأن الألف واللام في قوله الفروعية تفيد العموم.
كما يمكن أن يعترض عليه أيضًا بأنه يشمل ما أخذ من النص مباشرة؛ ولهذا استفاد الزركشي من تعريف القرافي تقييده بـ: "الفروعية"، وأضاف إليه ما ينفي الاعتراض السابق، فقال: بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط[117].
فتقييده بـ: عملي: يخرج العلمي، وهو علم الكلام، فالمجتهد فيه لا يسمى مجتهدًا في عرف الأصوليين، وإن كان يطلق عليه ذلك في عرف المتكلمين، وقوله: بطريق الاستنباط: يخرج بذل الوسع في نيل تلك الأحكام من النصوص ظاهرًا، أو بحفظ المسائل واستعلامها من المعنى أو بالكشف عنها من الكتب؛ فإنه لا يسمى مجتهدًا في العرف[118].
ثالثًا: أما قول الرازي: فيما لا يلحقه فيه لوم، فاعترض عليه بأنه غير مانع؛ لأنه يندرج فيه الاجتهاد في العلوم العرفية، والعقلية، والحسية، وفي مثل قيم المتلفات، وأروش الجنايات، ونحو ذلك، مما لا يسمى الناظر فيه مجتهدًا عرفًا[119].
أما تعريف القرافي المختصر من تعريف الرازي فقد فسر الشوشاوي قوله: فيما يلحقه لوم شرعي: بأنه يعني أن يلحقه لوم شرعي على تقدير تركه لتحصيل ذلك الظن إذا تعين عليه، واعترض عليه: بأنه إما أن يريد يلحقه اللوم بترك الاجتهاد فيه، أو يلحقه بترك العمل به بعد حصول الاجتهاد فيه.
فإن أراد بترك الاجتهاد فيه فيكون الحد غير مانع؛ لأنه يندرج فيه كل ما يجتهد فيه من أصول الديانات، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، ونحو ذلك، وإن أريد بترك العمل فيكون الحد غير جامع؛ لأنه لم يتناول على هذا إلا الواجبات؛ لأن الحكم الذي يلحق فيه اللوم الشرعي بترك العمل به هو الواجب دون غيره، فلا يلحق اللوم بترك المحرمات، والمكروهات، والمندوبات، والمباحات[120].
رابعًا: أما من قال: بحكم، أو قال: بالحكم، فيمكن أن يتوجه عليه بعض الاعتراضات السابقة، وهي:
الاعتراض الأول: أن التقييد بذلك غير مانع من دخول الاجتهاد في العقائد والأصول، وهي ليست من الاجتهاد المعرف.
وقد يجاب عن ذلك بأن هذا مفهوم من التعريف؛ لأن الحكم هنا هو الحكم باصطلاح الأصوليين.
ولكن هذا فيه اعتماد على المفهوم، والأولى في التعاريف الوضوح والبيان، لا سيما وأن ذلك المفهوم مما يخفى.
الاعتراض الثاني: أنه يندرج في التعريف ما أخذ من الأدلة مباشرة.
الاعتراض الثالث: أنه يتوجه عليه اندراج الاجتهاد في مثل قيم المتلفات، وأروش الجنايات، وجهة القبلة، ونحو ذلك، وذلك ليس من الاجتهاد في العرف.
ويمكن الجواب عنه بأن بعض الأصوليين يرى اندراجها في مسمى الاجتهاد العام، والشَّاطبي ممن يرى ذلك، وحينئذ يكون تعريفه للاجتهاد ليس بمعناه الخاص عرفًا.
ومما سبق يمكن أن نلخص ما يمكن أن يعترض به على تعريف الشَّاطبي بما يلي:
أولًا: أنه لم يذكر في التعريف من يقوم بعملية الاجتهاد.
وذكر فيما سبق ما يمكن أن يجاب به عن هذا الاعتراض، وهو أن الشَّاطبي حذف ذلك؛ لأن مفهوم التعريف وسياقه يدل عليه، ونعني بذلك أن من قام بعملية الاجتهاد واستوفى شروطه في أي مسألة فقهية فقد اجتهد، ولا يشترط كونه مجتهدًا مطلقًا.
ثانيًا: أنه عمم الحكم ولم يقيده؛ ولذا يدخل في التعريف الاجتهاد في الأحكام العقلية والحسية والعرفية، وأحكام العقائد وأصول الفقه، والاجتهاد في مثل قيم المتلفات، وأروش الجنايات، وجهة القبلة، ونحو ذلك، مما لا يسمى اجتهادًا عرفًا.
وذكر أنه يمكن الجواب بأن الحكم المذكور في التعريف المراد به الحكم في عرف الأصوليين، وهو: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، وأما اندراج قيم المتلفات، ونحو ذلك، فيمكن أن يجاب عنه بأن الشَّاطبي يعرف الاجتهاد الشرعي بالعرف العام، وهو ممن يرى جواز إطلاق الاجتهاد على تحقيق المناط العام[121].
ثالثًا: أنه أدخل في الاجتهاد ما أخذ من الأدلة مباشرة.
رابعًا: أنه أدخل فيه اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، واجتهاد المقلد والعامي.
ويمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن الشَّاطبي يرى جواز اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو ممن يرى دخوله في المعرف.
أما العامي فيمكن أن يقال بأن الشَّاطبي يعرف هنا الاجتهاد بمعناه العام، أما إن كان المراد هنا تعريف الاجتهاد بمعناه الخاص في عرف الأصوليين، فيمكن أن يقال: إن مفهوم التعريف يفيد ذلك، وإن كان الأنسب هو إيضاح ذلك، وعدم الاكتفاء بالمفهوم في التعريف، إلا أن يكون واضحًا تمام الوضوح.
خامسًا: ومما يمكن أن يعترض به على تعريف الشَّاطبي ما اعترض به بعضهم على تعريف ابن الحاجب بأنه لم يذكر الوسيلة الموصلة إلى معرفة الحكم، وهي الدليل؛ لأن الأدلة هي مجال علم الأصول ودعامة المجتهدين، من حيث إن الأدلة هي التي يستقي منها المجتهد الأحكام؛ ولذا كان الأولى زيادة: مِن دليل تفصيلي، في التعريف[122].
وقد يجاب عن ذلك بأن هذا مفهوم من السياق، ومن قول ابن الحاجب: بحكم شرعي، وقول الشَّاطبي: بالحكم؛ لأن الحكم الشرعي لا ينتج من دليل إجمالي.
التعريف المختار:
وبعد هذا فأرى أن التعريف المختار للاجتهاد الفقهي هو:
استفراغ الوسع المعتبر لدرك حكم شرعي فروعي بالاستنباط.
فقولي: استفراغ الوسع: كالجنس في التعريف، فيشمل استفراغ الفقيه أو غير الفقيه وسعه، وهو مخرج للاجتهاد الناقص الذي لم يستفرغ فيه صاحبه تمام وسعه.
وقولي: المعتبر: يشمل كل اجتهاد استوفى شرطه، كاجتهاد من اتصف بصفة الاجتهاد في غالب أحكام الشرع، أو اتصف بصفة الاجتهاد في أحكام معينة من أحكام الشرع، وهو مخرج للاجتهاد غير المعتبر، كاجتهاد العامي والمقلد.
وقولي: لدرك: يشمل الإدراك القطعي والظني، وهو شامل لإدراك الذوات، والصفات، والأفعال، والأحكام.
وقولي: حكم: مخرج لإدراك غيره، كالذوات، والصفات، والأفعال.
وقولي: شرعي: مخرج للأحكام العقلية، والحسية، والعرفية.
وقولي: فروعي: مخرج لأحكام العقائد، وأصول الفقه، وغيرها.
وقولي: بالاستنباط: مخرج لأخذ الأحكام من النصوص مباشرة، أو بحفظ المسائل أو استعلامها من المعنى، أو بالكشف عنها من الكتب.
وهو شامل لاستنباط الفروع القياسية من الأحكام، أو استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الدالة عليها.
المراجع
alukah.net
التصانيف
شريعة إسلامية فلسفة إسلامية مصطلحات إسلامية فقه إسلامي الدّيانات