عن أسلحة الدمار الشامل... عن الاغتصابات في أزمنة الجنون
تحية إلى نساء الثورة السورية وإلى من أُجْبِرن على تذوق طعم المرارة
مساء الخير سيداتي وسادتي، هذا المساء لن يكون خيراً….
بهذه الكلمات افتتحت الصحفية الألمانية ماريا فون فيلسر الخبيرة بشؤون النساء برنامجها الشهير في التلفزيون الألماني "موناليزا" عندما همّت بالحديث عن الفظاعات التي ارتكبتها القوات الصربية النظامية بحق آلاف النساء في البوسنة والهرسك إبان الحرب الدامية التي اجتاحت دول البلقان على خاصرة القارة العجوز في تسعينات القرن الفارط. كانت الاغتصابات الفردية والجماعية على يد الميليشيات الحربية بعد كل عملية تطهير عرقي (وقبلها أيضاً) تعتبر من أعتى الأسلحة التي استخدمها الصرب في حربهم الشاملة ضد البوسنيين والتي كادت تقترب من تخوم الإبادة بعد مرورهم بطور المجازر، التي يبدو أنها لم ترْو ظمأ الجنود المسعورين. ليس هذا وحسب، بل لقد كانت أقلها "كلفةً". ففي إحدى الشهادات يروي أحد الضباط الميدانيين الصّرب بأنّ الاغتصابات لم تكن أقلّ كلفة من البنزين والدبابات وراجمات الصواريخ فقط، بل كانت أرخص من أيّ طلقة أيضاً. بعد انقشاع غمام الجنون، كان هناك ما يزيد على الـ 20 ألف إمرأة من البوسنة والهرسك جرّبن ذاك "السحر الشيطاني" وبعضهن لمرات ومرات.
قبل ذلك التاريخ بحوالي نصف قرن لم تكن القوات الألمانية الشّرسة "تحصد" الأخضر واليابس في ربوع المدن والقرى الشرق-أوروبية الممتدة من بولونيا حتى السهول الروسية فقط، بل كانت تنصب "ضوارب الجنود" في فروج مئات الآلاف من النساء في جُلّ مناطق الإجتياح، وكان للنسوة الروس نصيب "الأسد" منها. يخطرنا خبراء توثيق الحرب العالمية الثانية بأنه في أرجاء السيادة الألمانية العسكرية الضاربة كان هناك ما يقارب المليونين من حالات الاغتصاب من جميع ضروب ألوان الرعب والفظاعة. بالمقابل، لم يجد الجيش السوفييتي "الأحمر" غضاضة في ردّ الدين "الثقافي" تحت سطوة النصر و"الفودكا" في حفلات مجون فاقت كلّ تصوّر، لم تسلم منها حتى العجائز والطفلات الصغار! مع سقوط الرايخ الثالث كان لدينا أكثر من 250 ألف إمرأة وفتاة ألمانية تذوّقن طعم الفودكا "قانية اللون" بمرارة لا مثيل لها، رافقتهنّ حتى الممات.
ويسجل تاريخ "السلاح المنوي" حادثة أخرى على قدر كبير من الوحشية والفظاعة الممنهجة، هي تلك التي ارتكبتها القوات اليابانية سنة 1937 في عاصمة الصين الأسبق والتي عرفت بـ"مذبحة نانجينغ". ففضلاً عن استباحة المدينة بالنار والحراب ووصول عدد القتلى إلى أكثر من 300 ألف مدني وعسكري "غير مسلح"، تم على مدى ستة أسابيع اغتصاب أكثر من 20 ألف إمرأة وفتاة وطفلة بطرق سادية لا تخطر على بال إنسٍ ولا جان، فجّر فيها جنود الساموراي، عابسو الوجوه، فحولتهم بخسّة حفظتها لهم أجيال وأرواح حتى يومنا هذا.
تكفي نظرة عابرة على النزاعات والحروب الأهلية والقومية التي زيّنت العقود الأخيرة حتى نعرف أن الاغتصابات كانت ولمّا تزل إحدى أعتى الأسلحة الفتاكة التي يلوذ بها الجنود والمتمرّدون وميليشيات الموت المتنقلة في مشاريع "إمحاء" الآخر/العدو. وهذا لم يقتصر على الحروب الطاحنة بين القوميات والشعوب فقط، بل تعدّاها إلى الحروب الأهلية والنزاعات المسلّحة بين المجموعات البشرية والثقافية، بالإضافة إلى قمع الانتفاضات والثورات في بلدان عدة: لقد "فعلها" التوتسي كما الهوتو في حرب الإبادة المتبادلة في أرجاء راوندا، و"مارسها" "الجنجويد" العرب في دارفور، "تعاطتها" كل الأطراف المتحاربة في الكونغو-يتين (برازافيل وكنشاسا)، "لم تنسها" كتائب القذاقي في اقتحاماتها لمدن وبلدات الغرب الليبي في إطار محاولاتها المتكررة لإعادة المنتفضين إلى عتبات بيت الطاعة عند أقدام و"هذيانات" العقيد، لا بل وجربتها ميليشيات الأسد أيضاً.
لم يمض عام على الثورة السورية حتى رشحت أنباء من مصادر مختلفة عن قيام بعض الجنود من الجيش النظامي وأفراد من الأمن والمخابرات باغتصابات طاولت عديد النساء والفتيات في بقاع مختلفة من القرى و البلدات السورية الثائرة المقتحمة. فبناءً على معلومات لم تقتصر على نشطاء الثورة فقط، هناك ما يقارب العشرات من حالات الاغتصاب، كان أكثرها وحشية تلك الرواية التي تحدثت عن اغتصاب طفلتين في العاشرة والرابعة عشر، أسفرت كلتا الحالتين عن حمل في موقف يستدعي مشهد يليق بالفانتازيا عالية المرارة: طفلات يحملن أجنّة…!! في تقارير أخرى هناك شواهد على حدوث حالات اعتداءات جنسية و اغتصابات طاولت العديد من المعتقلات والمعتقلين من نساء ورجال وحتى أطفال في مراكز التحقيق وأجهزة الأمن و المخابرات. بعضها كان يتم بطابع تلذذي وساديّ الهوى، بينما اتّسم البعض الآخر بمحاولة إرضاء الشهوة من قبل بعض المسؤولين عن هذه الأجهزة كنوع من الترويح عن النفس بعد شهور من "فلتان الأعصاب" الذي تسببت به صيحات آلاف السوريين الصامتين الذين تجرأوا على الكلام!
في حرب البلقان، على الأقل، وفي بعض الحروب الأهلية في إفريقيا، هناك ما يشير إلى أن "قاذفات الجنود الحيوية" كانت جزءاً حاسماً وممنهجاً من الإستراتيجية العامّة لتدمير العدو وسحقه، خاصة عندما تكون مشاريع "التطهير العرقي والإثني" موضوعة على طاولة الجنرالات وقادة التمرد، بينما تتكفل ضلالات التفوّق العرقي وآلام التاريخ السياسي، القريب والبعيد، المتخيل والواقعي، بتحفيز مخيلات الجنود وعناصر المليشيات المتقدمة، ممهدة الطريق لـ"بركنة" البيولوجيا الفردية والجمعية تنتهي بانفلات غرائزي فائقٍ ومُدمّر، لتنطلق أعتى الأسلحة ذات الدمار الشامل…! تعتبر ظاهرة "الاغتصاب السياسي" في الصراعات والحروب مدعاة كبيرة للنظر. لماذا تنطلق غرائز الجنسية بتلك القسوة والهمجية ما دام الحسم العسكري والسيادة على الأرض قد بلغا أوج ما يصبو له قادة "الشّر" الميدانيون؟ بعض الآراء تحدثت عن بيولوجيا-إجتماعية تفعل فعلها الضارب لدى الجنود والميليشيات المحرومين والموعودين، تتضافر فيها عوامل هرمونية تتلبس بالمنتصرين "الذكور" وتستنفر هممهم بمستويات عالية من التستوسيترون، الحالة التي تدعمها "هيستيريا" جماعية تذوب فيها ملامح الفرد وتنتصر روح الجماعة الذكورية الهمجية. في النهاية يقبل جحافل "المسعورين" على ضحاياهم الأضعف تاريخياً وجسدياً، في موقعة تكون فيها النساء و كل ما يمت إلى الجنس الآخر بصلة "موضوعات" تستقرّ فيها أكثر السلوكيات البشرية بدائية وعنفاً.
ولكن هذا ليس بكافٍ لفهم طبيعة "الاغتصاب السياسي" وخاصة في أجواء الحروب الأهلية حيث يبلغ العنف مستوياته الأعلى على طريق إمحاء الآخر، سحقه، وإذلاله بلا هوادة. وهنا بيت القصيد! لو تفحّصنا المعاني الكامنة لعمليات الاغتصاب في أجواء الحروب والصراع وقمع الانتفاضات سوف نجد أن لها صلة وثيقة بجانبين مهمين: الجانب الأول على علاقة بصورة "الآخر" للضحايا في مخيلة "الأنا" الفردية والجمعية للجناة؛ إنها الـ"من أنتم" تلك، شهيرة العقيد في أوج هذياناته ونظراته الممزوجة بالوعيد القيامي المرعب. أما الجانب الثاني فيتصل بالإحساس العميق بالقوة والسلطة، مضافاً إليه إحساس أعمق بضرورة ممارسة هذه القوة وإظهارها على قدر كبير من القسوة، حتى تعرف الضحية حق المعرفة مع من تتواجه، إنها الـ"بدكِن حِرية"، تساؤل القوة المنفلتة، ممزوج بسطوة الحساب الوحشي المسعور.
الحديث عن الآلاف والمئات والعشرات يجب أن لا يعمي الأبصار عن المعاناة "الفردانية" فائقة الألم للحدث. تتميز جريمة الاغتصاب عن غيرها من أنواع السلوكيات العنيفة ضد المرأة بقدرتها الفائقة على إحداث إغراق إدراكي عالي القسوة، تحاط فيها الضحية بكل "حراب" الحواس، يتم فيها استحواذ كامل للجسد، الحالة التي تنتهك فيها حدود الذات "المتجسدة" وتنتفي تماسات هذا الوجود باستحواذ قسري يجهد فيه الجاني لإحداث أكبر قدر من الألم، النفسي والجسدي الماحق. ورغم الفيضان البصري، السمعي والحسّي، فائق العدوانية، إلا أن الانتهاك الناجم عن حاسة الشم هو بحق أعتى ما ينحته الموقف في أعمق طبقات ذاكرة الضحية. بعد انجلاء المعارك تذهب روائح البارود والنار، أما في حالات الاغتصاب فرائحة الجاني/الحدث تظل حية لا تكل ولا تملّ عن مطاردة الضحية متحلية بأخلاق الذئاب!
جعلونا نجثو على الأرض حول الساحة، وقاموا بنزع العصابات عن أعيننا … وصعقنا عندما رأينا شابة في مقتبل العشرينات من العمر . مقيدة إلى فراش وهي عارية تماماً... يقوم باغتصابها مساعد من الأمن… بدا على المرأة أنها منهارة تماماً... لم تكن تبكي أو تصرخ… وكأنها قد فقدت الإحساس… فلم تعد تشعر بما يحدث لها
تشير أدبيات الصدمة النفسية بأنه في حالات التعرّض لموقف مُهدِد ومحفز على الخوف الشّديد مثل الاغتصاب تحدث عملية نفسية لاواعية تقوم فيها دفاعات الأنا عند الضحية بنوع من الإنسحاب الذاتي من الموقف، يتبدى على شكل إستسلام كامل تجاه المعتدي ومراقبة الموقف كحادثة منفصلة عن الذات. تعرف هذه الظاهرة بإسم "التفارق" أو "الانشطار النفسي (dissociation) " وتكمن أهميتها في محاولة العقل الباطن التخفيف من حدّة الموقف الصّادم ومحاولة حماية الذات من الانهيار. أثناء ذلك يقوم الدماغ بإفراز مواد كيميائية مخدرة (مثل الأوبيات والإندروفين) وذلك لرفع عتبة الشعور بالألم الناتج عن الموقف المرعب. في غضون ذلك تتعطل المراكز الدماغية المسؤولة عن تخزين المعلومات في الذاكرة قصيرة المدى و ذلك بسبب إغراق المنطقة الدماغية من الدماغ الأوسط "في الهيبوكامبوس تحديداً" بتراكيز عالية من هرمون الكرب أو الكورتيزول المعروف بإعاقته للمعالجة المعرفية الخاصّة بالحدث الصّادم. ورغم أن الذات مجهزة بمحور الكرب الحيوي (المهاد-النخامة-الكظر) استعداداً للمواجهة في أوقات الخطر عبر تشكيل إستجابة اضرب أو اهرب، إلا أن حالات الاغتصاب بكونها أعلى درجات العدوان الشامل، لا تسمح للضحايا بتفعيل هاتين الاستجابتين ذاتيْ التاريخ الإنساني الموغل في القدم. هنا، لا يبقى أمام الضحية سوى الإستجابة التفارقية كحل أخير للتخفيف من آثار الصّدمة والألم النفسي والبدني الناتج عن الاغتصاب قدر الإمكان. لذا يجب علينا جميعاً ألا نفاجأ بسلوك الضحية كالسذج ونسائل أنفسنا والضحايا لماذا لم يتم فعل كذا وكذا وإلا شرعنا بفعل اغتصاب ثان، الضحية في غنىً عنه حتماً.
وأخيراً، يوما ما سيغدو الوطن السوري، كربوع ألمانيا وروسيا وسهول إفريقيا، التي تحتل فيها الأزهار مدّ البصر. ولكن، حالما يأتي ذاك اليوم علينا التمهّل وتخفيف الوطأ قليلا، علّنا نطأ أرضاً أو حواري كنّ يئنُّ فيها من لاحول لهُنّ ولا قوّة، عندها علينا جميعاً أن نسائل أنفسنا: ماذا فعلنا كي نحد من انتشار "أسلحة الدمار الشامل"، علّ تلك الأرواح الأحياء-الأموات تشفع لنا صمتنا العميق في حضرة صمتهن الأعمق… والسلام عليكم!
* نشر هذا المقال على موقع (الأوان) بتاريخ 10 حزيران 2012 ويعاد نشره هنا بموافقة من الكاتب