إذا حاولنا قراءة ما وراء الحدث الثوري المباشر في سوريا وتأملنا في عمق أهداف هذا الحراك الثوري ـ وهذا ينطبق على الواقع الثوري العربي عموما ـ سنستنبط حقيقة جوهرية لم تصبح يوما جزءا من وعينا الباطني أو من حياتنا العملية.. حقيقة تعبّر عن فلسفة جديدة مازالت في طور التكوين ألا وهي فلسفة الاختلاف.. يقول المفكر الألماني أدورنو : "أن نفكر في الاختلاف يعني أن لا نفكّر حسب منطق الهوية وأن لا نُرجع الآخر والمتعدد إلى المثل والشبيه"…
يكمن المعنى الحقيقي للثورة في سوريا ـ وبطبيعة الحال في العالم العربي ـ في إزالة شكل السلطة القائم بشكل أساسي على قاعدة التفرد والاستفراد في ممارستها.. أي القائم على مفهوم الأنا دون الآخر.. أي على مفهوم ضد الطبيعة الإنسانية ذات الماهية المختلفة والتعددية.. فحينما يثور الشعب السوري على سلطة العائلة الواحدة والحزب الواحد والعقيدة الواحدة والقائد الأوحد والإعلام الوحيد والثقافة التوحدية المنبثقة عنه إنما يرتبط هذا بحقيقة أن المجتمع ليس عائلة واحدة ولا حزبا واحدا ولا عقيدة واحدة ولا دينا واحدا ولا شكلا ولا مضمونا واحدا وإنما هوـ كما كل المجتمعات الإنسانية ـ بنى وعلاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية مختلفة ومتعددة وهيئات وأحزاب وتيارات ليست متماثلة وأديان ونظريات وأفكار غير متشابهة وأفراد ونساء ورجال وأطفال ومسنّون ذوو هويات مختلفة يكون كل فرد آخرا أمام غيره..
إذن، الاختلاف هو من طبيعة الوجود البشري والحياة الإنسانية سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الجماعات والمجتمعات.. والاختلاف بمعناه العميق هو فقه الحياة.. وعندما يُمارس الضغط والإلغاء على هذا الاختلاف الذي هو الحقيقة لأنه يعبّر عن طبيعة الشيء حتى يبدو المجتمع بمجمله عبارة عن كتلة لزجة من الهارموني والانسجام.. ويصبح الجميع حاملين لنفس الأفكار والمواقف: كالولاء للسلطة والانتساب لنفس الحزب أو لحزب ينضوي تحت الحزب القائد والتفكير بلغة الممانعة والقومية والصمود والتصدي وإلى ما ينتمي إلى منظومة السلطة المهيمنة.. عندما يصبح كل مختلف حاملا لتوجهات ومواقف وأفكار متشابهة أو متطابقة فهذا ليس دليلا فقط على أن شكل السلطة المهيمن لا يعترف إلا بحقيقة وجوده وحقه الاستثنائي في التعبير عن ذاته وتذويب كل الذوات الأخرى في المجتمع في كيانه المتفرد، وإنما يعني أيضا وهذا هو الأخطر، أن المجتمع بكلية منظوماته الاجتماعية المختلفة وبأفراده غير المتشابهين تحولوا قسرا إلى عقل أداتي مجرد وأدوات لا تنتمي إلى الواقع الحقيقي الحيّ.. تُنفي فيه حيوية علاقة الأنا باللاأنا والفرد بالآخر.. وهذا يؤدي إلى إفقار المجتمع من التجربة والعقل النقدي.. إن تحويل المجتمع بمنظوماته وأفراده إلى أدوات تخضع لمعايير وقواعد التفرد والاستبداد بالسلطة وذوات متشابهة - حتى في طرق الطاعة والإذعان للسلطة المتفردة- يؤدي بالضرورة للهدف المنشود وهو السيطرة على كل شيء حتى على التفكير والنقد.. ولأن الإبداع هو حالة تمرد على ما هو قائم فلا مكان له في مجتمع يقتات من سلطة تريد أن تشبه الله لأنها تريد أن تكون السيد والعقل المطلق في المجتمع.. في مثل هذا الحوض الاجتماعي والسياسي يتحول الأفراد إلى كائنات تعرف جدا كيف تُطيع وتُدرك تماما أن النقد والتعبير الحقيقي عن الذات أمر يهدد وجودها، لهذا يدافع باطنها عن تهديد هذا الوجود بتبني أفكار ومواقف ورؤى السلطة المهيمنة، فيصبح الجميع يشبه الجميع في مكان ما، ويغترب الجميع عن مجتمعهم الذي صنعوه وصنعهم، ويغترب كلٌ عن ذاته سواء تم الشعور بهذا الاغتراب أم ترسب باللاشعور.. وتصبح حرية الإنسان هو أن يختار الموالاة للسلطة أو التزام الصمت واللافعالية.. وهذه ليست حرية حقيقية، لأنه وكما يشير أدورنو أن الحرية ليست في أن تختار بين الأبيض والأسود بل هي في أن تبتعد عن الاختيارات المحددة مسبقا.. وهذا ما لم تسمح به سلطة "حافظ بشار الأسد" في سوريا أو سلطات الأنظمة العربية الحاكمة الأخرى .. فالمواطن السوري يستطيع أن يختار بين أن يكون بعثيا أو تابعا لحزب موال من جهة، أو أن يكون صامتا غير فاعل في مجتمعه ولا يستفيد من امتيازات الموالين من جهة أخرى … وهو محكوم بثنائية الوطني أو الخائن ولكنه لا يستطيع أن يكون شيئا آخر .. أن يكون مثلا تابعا لحزب مستقل غير موال أو أن يكون راصدا لتناقضات المجتمع وناقدا لسلطتها دون أن يكون خائنا.. وهذا ينطبق على أحادية الفكر وإلغاء حق الاختلاف في مجالات اجتماعية أخرى مثل الدين والعائلة وغيرها.. فلا يكاد الإنسان المختلف أن يُطلق ملكته النقدية لمنظومة دينية أو ثقافية سائدة حتى يسقط في ثنائية المؤمن والكافر، أو المنضبط والمنفلت، مما يؤدي إما إلى كبت الحريات في النقد أو التعبير عن رؤية تشبه رؤى الآخرين ..
أن نفهم فكر وفلسفة الاختلاف نظريا وعمليا يعني أن لا نُرجع الآخر والمتعدد ـ بغض النظر عن طبيعة الآخر إن كان فردا أو فكرة أو جماعة أو حزبا أو دينا أو قومية أو غير ذلك ـ إلى منطق الهوية أي أن لا نطابقه أو نرغمه على التطابق مع الأنا ..
إن فكر الاختلاف الذي يمكن أن يُقمع أو يُمارس القهر عليه ولكن لا يمكن أن تقوم الحياة الاجتماعية بدونه يعني أن يكون الإنسان مختلفا ومخالفا وليس واحدي الرأي والموقف والذوق والتفكير ..
أن تكون حرا بالمعنى الحقيقي للحرية يعني أن يـتأصَل مبدأ الاختلاف ويتجذر في صميم علاقة الأنا بالآخر في المجتمع .. أي أن لا يجعلك انتماؤك لدين معين أو للادين أفضل من الآخرين أو في وضع أسوأ.. أن لا تدفعك قناعاتك وموقعك الاجتماعي إلى الاستعلاء وإنكار الآخر .. أن لا تُفقدك انتماءاتك القومية الشعور بإنسانية الآخر .. أن تفهم الاختلاف كجزء لا يتجزأ من كينونتك وهويتك الخاصة ..
ليس المقصود إذا المعنى السطحي للاختلاف أي الاختلاف في الآراء أو الأفكار أوفي تفاصيل معينة فحسب .. وإنما الاختلاف بمعناه الأشمل والأعمق .. الاختلاف كفكر وفلسفة وممارسة .. الاختلاف الذي يعبر عن قانون كوني ينطبق على الطبيعة وعلى المجتمعات الإنسانية .. الاختلاف الذي يُعتبر الدافع والمحرك الأساسي لأي تطور حقيقي في أي مجتمع سواء كان تطور في التفكير أو تطور في مجالات الحياة المادية .. لأن التفاعلات المركبة والصراعات المختلفة التي تنشأ عن الاختلافات والتناقضات الكبيرة والصغيرة في المجتمع هي التي تُولد الحاجة للتغيير وتُحفز الأطراف المختلفة على بلورة رؤى أو حلول أو مخارج تُؤدي إلى إعادة ترتيب وإنتاج الواقع وتطويره وهي بذلك تُحرك عجلة الإبداع في المجتمع ..
فلا حياة بلا اختلاف ولا حياة بلا تناقضات وصراعات ..
إن فلسفة الاختلاف الحقيقية هي التي تعتبر أن كل الأطراف المختلفة تملك جزءا من الحقيقة الكاملة .. إن إرث علاقات السلطة التي تُثقل كاهل مجتمعنا وكاهل الأفراد فيه والتي لا تُحرض على الاختلاف ولا تسمح به بل ترفضه خوفا من المشاركة في السلطة وتُكرس أسلوب التشابه في التفكير والمواقف استولت على عقلنا العربي وعلى أنظمة الحكم المهيمنة وجعلت من السلطات السياسية المستبدة حقيقة ممكنة ..
لقد كانت فكرة الولاء والطاعة من أهم انعكاسات التفرد بالسلطة ورفض أشكال الاختلاف عنها والتي عبرت عنها جدلية العلاقة بين التطابق والاختلاف.. بين الولاء والطاعة من جهة والقدرة على المعارضة والتمرد من جهة أخرى.. بين الواحد والمتعدد.. إن ماهية ثورات الشعوب العربية بشكل عام والثورة السورية بشكل خاص ـ ربما لأنها الثورة الأكثر بلورة ونضجا كفعل ثوري ـ تتميز في كفاحها العنيد ضد سياسة إلغاء المختلف.. فكانت انطلاقاتها محاولة لقلب الواقع وتفكيك علاقات ومقولات السلطة فيه ـ بغض النظر إن كان القادم سيكون محققا لأهداف الثورة أو بديلا آخر من الاستبداد ـ فنجاح الثورة أو عدم نجاحها محكوم بعوامل متعددة تعود خصوصيتها لكل مجتمع على حدة..
وإذا عدنا للثورة السورية الفريدة لأنها الأطول زمنا وعليه الأكثر تنظيما واستقلالية حتى الآن والأكثر تعرضا للعنف والهمجية والآلام مما يعني الأكثر دموية والأكثر كلفة في دفع فاتورة الحرية والكرامة وحق الاختلاف.. فإننا نجدها ثورة تزداد كل يوم وهجا وزمجرة كلما زاد نظام الأسد القاتل الهمجي في استبداده وتفرده.. إنها ثورة تدفع رجالها ونساءها وأطفالها وقودا لتقول للأسد الطاغي نحن مختلفون.. نريد أن نكون أحرارأ عزيزين ومختلفين عنك.. هذه حقوقنا وهذه إنسانيتنا..
إن نظام الأسد الذي لم يكن يوما إلا نظام المارد الواحد ليس قادرا ـ حتى من أجل إنقاذ نفسه ـ أن يتخلى عن جزء من السلطة لشعبه لأنه لم يكن يوما إلا نافيا للآخر.. فحتى يومنا هذا لا يزال يُصدر بشار الأسد مراسيم وقوانين جديدة بشكل منفرد ومازال يُنكر الحقيقة الحية بأن هناك شعبا يريد أن يختلف عنه وعن نهجه.. ومازال لا يعترف إلا بقوته الوحيدة المتوحشة وبأحلام البقاء في السلطة وحيدا لا شريك له.. إن عقلية القائد الواحد التي سادت أربعين عاما ونيف أصبحت عفنا بفعل الثورة وانتهت صلاحيتها موضوعيا وذاتيا وتاريخيا.. إن الحياة بدأت تفارق جثة النظام المتفسخة وهذا النظام تُوفي منذ شهور مضت والشاهد على هذا الموت السريري دماء أبناء الشعب السوري الثائر كما لم يثر أحد من قبل..
إن لم تستوعب التاريخ يا بشار فسيستوعبك التاريخ ..
فارحل إلى غير رجعة لأن بطن المجتمع لفظك من أحشائه والتاريخ قذف بأحاديتك واستبدادك خارج صفحاته ..
ولتحي ثقافة وفلسفة الاختلاف في مجتمع أفرزت تناقضاته وأزماته ضرورة استبعاد الأصنام الثقافية والايديولوجية وتأليه الحكام..
المراجع
موسوعة الاوان
التصانيف
فلسفة تاريخ الفلسفي