إنّ تصرفات النظام السوري تجاه حركة الاحتجاجات والتظاهرات التي سادت البلد منذ ثلاثة أشهر وحتى اللحظة الراهنة، تثير الحنق والاستغراب، ليس لجهة عنفها اللامقبول بأيّ شكل من الأشكال فقط، بل لجهة الجدوى السياسية منها، إذ تكاد النتائج التي سيحصدها النظام السوري من قمعه للاحتجاجات تكون صفرا حتى إذا نظرنا للأمر من مصلحة النظام كنظام، لأنّ ما سيقدّمه النظام من "تنازلات" سيجد نفسه مضطرّا لتقديمه بحكم الضرورة لاعتبارات علمية وواقعية صرفة لا تحتمل الجدل أو وجهات النظر، بعيدا عن حسابات السياسة ومتاهاتها التي تحتمل وجهات النظر، فكيف بعد أن تلوّثت يداه؟
 ما جرى في سورية على مدى العقود الخمسة الأخيرة من جمود فكريّ وعقائديّ وإداريّ وقانونيّ جعل من سورية/النظام كائنا سياسيا خارجا عن العصر، لم يعد بإمكانها الاستمرار على تلك الحال تحت أيّ ظرف كان، دون أن يعني ذلك إغفال بعض الحراكات التي جرت اقتصاديا وإداريا وسياسيا منذ تحرك النقابات في الثمانينات إلى إعلان دمشق في 2005 مرورا بحراك المجتمع المدني في عام 2000، ولكن هذه الحراكات على أهميتها لم تستطع أن تلغي عقلية الجمود التي هيمنت طيلة خمسة عقود.
 
يمكن القول إنّ الدولة أو حتى النظام يشبه الكائن الحيّ الذي يتطوّر وفق مراحل عمرية معينة، حيث لكل مرحلة أدوات عملها وكيفية إدارتها، وقوانينها الخاصة التي تراعي ما يحدث في العالم من تطوّر في مستوى القوانين والتكنولوجيا والعلم ونظريات الحكم السياسي، وإنّ أيّ نظام أو دولة لا تأخذ بهذه التطورات ستجد نفسها ذات وقت أمام استحقاقات كبيرة وكثيرة، لن تستطيع النظم القائمة احتواءها إلا عبر الاعتراف بالمشكلة وحلّها بشكل جذريّ ومسؤول، هذا إن بقيت إمكانية حلّ، وهذا ما ينطبق على سورية التي تكلّست فيها السياسة منذ خمسة عقود تقريبا، ودخل الاقتصاد في نفق مظلم، وانهار التعليم وتراجع البحث العلمي، وتحولت الدولة إلى مجرد نظام وأجهزة يبتلعان الدولة والبشر والمؤسسات والاقتصاد والسياسية والجيش والحيز العام لمصلحتهما، ومن هنا يمكن القول إنّ التغيير في سورية تفرضه قوّة العلم وضرورته إذا نحّينا استحقاقات السياسة ومتطلباتها، لأن النظام يحصد أخطاء خمسة عقود دفعة واحدة، فالأمر في سوريا يشبه تماما من يقتني مسجلة كاسيت قديمة تعمل وفق أشرطة الكاسيت، وبقي يستعملها دون أن يبدّلها رغم كل التطور الهائل في مجال الصوت والكمبيوتر والأقراص المدمجة، هذه المسجلة ستبقى تعمل عند صاحبها إلى أن يأتي وقت لن يجد فيها شريط كاسيت قديما في السوق، عندها ستلغى الحاجة لوجودها بحكم الواقع والتطوّر العلمي الحاصل، عدا عن الفوات الحضاري والعلمي الذي سيفقده هذا الشخص نتيجة تمسكه بما هو قديم في الوقت الذي يتطور فيه كل من حوله ويحصد ثمار هذا التطور، وهذا ما يحصل تماما للنظام السوري الذي وجد نفسه فجأة أمام استحقاقات تفرض نفسها بقوة العلم والعصر، فالتغيير لا بد منه علميا وواقعيا قبل أن يكون سياسيا، ولا يمكن بطبيعة الحال أن يكون"تغييرا ديكوريا" كما جرت العادة، لا بد أن يكون تغيرا جذريا باتجاه الانتقال إلى الدولة الوطنية الديمقراطية، بما يعني ذلك تفكيك بنية النظام كليا، هذه البنية التي أصبحت معيقا أمام بناء الدولة.
وللتأكيد على أن تفكيك بنية النظام بشكل كلّيّ هو ضرورة تحتاجها سورية الحديثة بشكل علمي قبل أن يكون سياسيا، سنسلط الضوء على مجموعة من العناوين التي يتم طرحها إعلاميا، لنرى أن الضرورة العلمية قبل السياسية هي من يفرض ذلك، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الأنظمة الشمولية لا يمكن إصلاحها بتاتا، لأنها هي كبنية تقوم على الضد من الدولة، فبناء الدولة لا يستقيم مع إصلاح النظام وبقائه، لا بد من تفكيك النظام باتجاه إلغائه كليا وفق تعبير جورج طرابيشي.
 
يقوم النظام السوري على فكرة الانغلاق وتسوير الدولة/ النظام/ عبر أجهزة مخابرات تراقب كل شيء، وتضبط كل شيء، خانقة أنفاس المواطنين، ومجيّرة كل شيء لصالح الدولة، بما فيها الإنترنت والقضاء وأجهزة الإعلام التي تبث وجهة نظر النظام فيما يتعلق بكل ما يحدث في المعمورة.
هنا انطلاقا من التطور العلمي الحاصل في العالم، بشكل علميّ لم يعد بإمكان هذا النوع من الدول المغلقة والمسوّرة أن تكون قادرة بعد اليوم على ضبط مكوناتها الداخلية عبر الكذب والتزييف، لأن التطور العلمي وصل إلى درجة يجعل مايسمى بـ"شنطة الإنترنت"، يخلخل الدولة ككل، والشنطة هي عبارة عن حقيبة يحملها مسافر عادي ويدخل بها إلى الدولة، فيحل الإنترنت المحمول محل الشبكة المحلية بعد اختراقها، إضافة إلى أنّ هاتفا محمولا مزوّدا بكاميرا وشريحة دولية يبطل خلال دقائق معدودة كل كذب الإعلام الرسمي. هنا إذن نجد أن كل إجراءات النظام الحاجبة التي تصرف عليها مليارات الدولارات يلغيها شخص واحد وسلاحه مجرد شنطة !
من جهة ثانية، يشكل الفساد في سورية واحدة من أخطر المشاكل التي باتت تهدد النظام نفسه كنظام، مما يعني أن استمرار الحال على ما هو عليه، هو السير باتجاه تفكك الدولة ومؤسساتها بفعل فساد النظام نفسه، لأن النظام الذي استخدام الإفساد عبر تاريخ حكمه المديد كآلية لإدامة قبضته على المجتمع، وصل إلى مرحلة أصبح فيها الفساد يبتلعه ويغرقه في رماله المتحركة، وفق مبدأ أن الفساد يعمل في خدمة الاستبداد ولكن إلى حين!
 
ومشكلة الفساد في سورية هي مشكلة مركبة بين الفساد والإفساد، فإذا كان الفساد تعريفا في كل دول العالم هو تلك الألاعيب الإدارية وتزوير البيانات المالية للتهرب من الضرائب والرشوة والعمولات و..وهذا ينخر كل المؤسسات ولا تنجو أي دولة في العالم منه بما في ذلك الدول المتقدمة، ويكافح بأساليب إدارية واقتصادية وقوانين وقضاء، فإن الإفساد هو من صنع أجهزة النظام والحكم حيث تستخدم الإغراءات السياسية والمالية والجنسية والإدارية والإعلامية لإدامة السيطرة على الأحزاب السياسية والنقابات ومؤسسة الجيش والأمن، بهدف الإخضاع وشراء الولاء.
وهذا النوع من الإفساد لا يحل عن طريق الإجراءات الإدارية والقضاء أو وفق نماذج "الإصلاح الديكوري" الذي تروّج له أجهزة السلطة الإعلامية، لأنه إفساد سياسيّ متعمّد بقوة القانون الذي فرضه النظام، فلا حل له إلا عن طريق فكفكة النظام باتجاه إلغائه، لأن هذه الأنظمة لا يمكن أن تستمر بدون الإفساد كآلية عمل ومكون أساسي من مكونات وجودها، وإلغاء الإفساد يعني عمليا إلغاء النظام تدريجيا.
وللتدليل على حجم الضغط الذي يعاني منه الناس من الفساد والإفساد، هناك مقولة يتداولها بعض الخبراء في سورية، مفادها أن الفساد أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد كان فسادا عادلا وموزعا بالتساوي على المواطنين، أما حاليا فأصبح فسادا محتكرا لقلة من الناس، ويشير هذا الكلام إلى السطوة التي أصبح يتمتع بها رجال المال بالشراكة مع رجال الأمن في النظام الجديد.
 
وثالث نقطة تفرضها تطورات العلم، هي تطوير عمل الأجهزة الأمنية وظبطها كمؤسسة ضمن مؤسسات الدولة بدلا من أن تكون هي الدولة، حيث إن مجرد الاطلاع على التهم التي كانت توجهها هذه الأجهزة للمتظاهرين، ستكشف مدى قصور هذه الأجهزة بما يحصل في العالم من تطورات، هل يعقل أن تكون التهم الموجهة للبعض هي "فايسبوك" واشتراك في خدمة "الجزيرة الإخبارية" وتصوير مظاهرة أو النية بالانتحار(هذه حقيقة، أحد الموقوفين كانت تهمته أنه ينوي الانتحار؟) هذا إذا تغاضينا عن تهم "التحريض على الفتنة الطائفية، ووهن نفسية الأمة، والتحريض على العصيان المدني" التي ذهب ضحيتها زهرة شباب سوريا، ليقضوا سنوات من أعمارهم في السجون، وإذا تغاضينا أيضا عن المحاكمات الشكلية التي خضع لها أولئك الذين حملوا جمرة الحرية سنوات طويلة في قبضات أياديهم العارية إلا من الأمل حتى تصل لنا.
إن المؤسسة الأمنية تُحكم بعقيلة رجال الدولة الشمولية، الذين يفصلهم تقريبا ثلاثة أجيال عمريا على الأقل، عن جيل الشباب المندمج كليا بثورة التكنولوجيا والانترنت والفيسبوك وتويتر، وهنا نجد شرخا كبيرا، بين شباب منغمس بعصره حتى الثمالة، ويجد نفسه متهما لأنه مندمج ومتعلم، وبين وعي جيل قديم مازال يرى في كل وافد إعلامي أو تكنولوجي عدوّا، والمشكلة أن هذه التكنولوجيا لم يعد بالإمكان الاستغناء عنها لأنها باتت تشكل عصب الاقتصاديات الحديثة, وإعاقتها تعني إعاقة الاقتصاد عن النمو والتطور والانفتاح، عدا عن انحدار مستوى الوعي لدى موظفي هذه الأجهزة، خاصة العناصر المتطوعة في رتب دنيا، ويضاف لذلك فقرهم المادي الشديد إذ بالكاد تكفي رواتبهم طعاما لهم.
 
وذات الأمر ينطبق على الدستور السوري والقوانين المعمول بها، لأن الدستور مثله مثل الكائن الحالي لا بد أن يتطور ويتعدل وإلا سيصل إلى مرحلة يصبح فيها بلا معنى، فالعالم من حولنا متبدّل متغيّر، وإن لم يكن الدستور مستجيبا لتلك التغيرات، سنجد أنفسنا بعد فترة أمام قوانين قاصرة ودستور متخلف لا يعبر عن تطلعات الشعب، فما بالكم بدستور وضع في ظروف استثنائية منذ أربعين عاما تقريبا؟
 
وأخيرا، بقي موضوعا القضاء والإعلام، حيث أنه لا معنى لأي قانون إعلام مهما بلغ تطوره، وكذلك لآليات عمل القضاء وسلطاته ، إن لم يكن الأمر ضمن خطة لبناء دولة دستورية تعتمد فصل السلطات بحيث يكون فيها فعلا لا قولا للقضاء السلطة العليا المطلقة، وللإعلام السلطة الرابعة التي تراقب وتفضح وتساهم في بلورة رأي عام حقيقي حول كل ما يتعلق بالداخل السوري، ويضاف لذلك معالجة ملف المعتقلين والكشف عن المفقودين وفق صيغة تشمل تعويضهم ماديا ومعنويا عن سنوات السجن والانتهاكات التي تعرضوا لها، وإعادتهم إلى وظائفهم مع احتفاظهم بحق محاكمة الأشخاص الذين اعتدوا عليهم.
 
مهما بلغ منسوب العنف الذي ستقدم السلطة على اقترافه، فإنه يستحيل عليها الاستمرار بنفس آلية الحكم، لأنها آلية ساقطة حكما بقوة التاريخ والعلم، فهل يتوقفون قبل أن تغرق البلاد بمن فيها؟

المراجع

alawan.org

التصانيف

تاريخ  أحداث  أحداث جارية