هي الذكرى السادسة لاستشهادك في الثاني من شهر حزيران، لكنها ليست ككلّ ذكرى، لا تأتي رتيبة، روتينية أو مجرّد أداء واجب أو محطة لتجديد الأحزان على رحيلك المبكر، بل تأتي في زمن خاص جداً، زمن ليس ككلّ الأزمان، ضاجّ بتفاصيلك، وصاخب بفرح طالما بشّرت به، فالعرب كسروا الطوق يا صديقي، ولم يعودوا يحتملون لعب دور الضحية، بل باتوا حاضرين في هذا العالم وهاهي ثوراتهم تترك بصماتها في كلّ مكان، وهاهي الناس تهزم يأسها وتشاؤمها، وتقرّر كما كنت قد قرّرت لها، بأن الشقاء الأبديّ لم يكتب لها وبأنّ العجز والإحباط هما أشبه بلحظات قصيرة وعابرة في حياتها، وما ينتظرها ليس مستقبلاً مظلماً بل حياة حرّة وكريمة تستحقّها!.
قلت لها، لم يفت الأوان، ويجب أن نظلّ مؤمنين بأنّ الأوان لن يفوت مهما حصل، وبأنه سيظلّ ممكناً استدراك هذا البؤس، ولم يفت تكرار اعترافك بقوّة أسباب التخلّف و"الشقاء العربي" من عضد ثقتك بما تمتلكه المجتمعات العربية من طاقات كامنة أجهض فرص تطورها العقل الاقصائي والوصائي والديكتاتورية والتفاوت الاجتماعي المريع، أو من ثقتك بأن المعاناة المريرة والمزمنة مع القمع والقهر والحرمان، هي ما سيمكّن الشعوب من النهوض، وتجاوز مخاوفها وتردّدها!.
سلوكك الصادق يتناغم مع صدق الثورات العربية ووهجها كأنها استعارات، أخطر ما فيك هو أنك تسمّي الأشياء بأسمائها، ولا تتردّد في كشف الزيف والمزيفين والفساد والمفسدين ومقاومتهم، أو ربما لأنك لا ترضى إلا التسلح برؤية مستقبلية ومسلكية سوية، تربط الأخلاق بالسياسية، وتعتبر الأولى حصانة للثانية، والأوضح أن بعضاً من شعاراتك كنا نجدها تنتقل من يافطة الى يافطة ومن جدار إلى جدار، فهل يرضيك يا صاحب "عسكر على مين؟! " ذاك التقارب الكبير بين ما قلته عن العسكر وبين ما رفعه متظاهرون سوريون في جمعة حماة الديار، "ياحماة الديار نحن أهل الديار !!" كأن هذا الشعار النادر يكرر السؤال نفسه بصور متنوعة، ويضع الإجابة برسم كل الأجهزة الأمنية والعسكرية التي ترهب البلاد وتحكمها بقبضة من حديد: "عسكر على مين؟ على المواطنين والآمنين"؟!.
بعض من جرأتك تحضر اليوم في عنفوان الصدور العارية التي تواجه آلات القتل والرصاص الحيّ، ويمتزج صوتك مع صوت كلّ متظاهر ينادي بالحرية والكرامة، ولعلّ صرخات المحتجّين المطالبين بالديمقراطية وإسقاط أنظمة القهر والفساد، تبدو كأنما هي استمرار لصرخاتك، لقد جاءت إليك متأخرة قليلاً، لكن أن تأتي متأخّرة خير من أن لا تأتي أبداً، ونعرف جميعنا أن ما يهمك هو أن تأتي إليك، إلى حيث تريد لها أن تبدأ، بإيمان لا يهتز بالحرية، بالحرية السياسية والاجتماعية، التي تعني مجتمعاً متحرراً مرة والى الأبد من كل صنوف القهر والذل والحرمان، وأساساً من نموذج الدولة الأمنية، ومن العسس المخابراتي العربي، كما كنت تحب أن تصفه، الذي يحصي على الناس أنفاسها ويتدخل في كل تفاصيل حياتها.
وأيضاً إلى حيث تريد لها أن تصل، إلى أرض تفيض بالأحلام والآمال وتتسع لكل ما راكمته الإنسانية من قيم وأخلاق نبيلة، وإلى ما حلمت به، عن بلادٌ تنهل من اختلافاتها لتحولها مصدر قوة وتماسك، بلاد متحررة من قيود الأنانيات الطائفية والمذهبية، بلاد تكون ملك المواطنين جميعاً، محصّنة بقضاء مستقلّ، وبتمثيل شعبيّ لا يرقى إليه الشك. بلاد لا تحبسها الطائفية ولا المحسوبيات، ولا تقيّد حركتها ولاءات مفروضة، ولا يحرس انقساماتها عسس المخابرات، بلاد تضمن تكافؤ الفرص وحقوق الإنسان وحريته.
كم هو الحزن ممضّ أن لا تكون وترى بأمّ عينيك، كيف هو حال ربيع بيروت اليوم في زمن الثورات العربية، كأنّ التاريخ انتظر صاغراً كي يحقق نبوءتك في أن ربيع بيروت لن يكتمل ويزهر إلا إذا بدأ ربيع العرب وأزهر وتفتحت ورود دمشق!.
في تفاغر الشقاء العربي والشقاء اللبناني كان ما صنعته ساحات التظاهر في بيروت جدير بالتقليد والتمثل، وكأن التجربة اللبنانية لا بد أن تجد لها مكانها المتميز في الوعي الجمعي العربي، وكأن صورة لبنان التي أظهرتها التظاهرات والاعتصامات الكبيرة في وسط بيروت حفرت عميقاً في عقول الشباب العربي. وكأننا نرى في كل ساحة تظاهر أو ميدان اعتصام في تونس ومصر واليمن وسورية وغيرها، صورة جديدة لساحة الشهداء وبقربها صورتك تتصدر حائط جريدة النهار!.
كيف لا، وأنت من جمع بين ربيع العاصمة اللبنانية، وربيع عربيّ شامل، ووجدت أن الديمقراطية، وهي ناقصة أصلاً وهشة في لبنان، لا يمكنها أن تعيش في سلام، وهي تواجه أنظمة شمولية تلفها من كل مكان، وهذه الأخيرة لا تبخل أبداً في دعم القوى المحلية القادرة على ضرب هذه الحرية وتشتيتها وإضعافها! كيف لا وأنت من أوائل من رفضوا هذا الشقاء العربي وكشفوا في الوقت نفسه عمق الترابط العضوي والمصيري في عملية التنمية الديمقراطية بين البلدان العربية عموماً وبين لبنان وسورية على وجه التحديد! ثم أليس من أفكارك ما رهن "استقلال لبنان بديمقراطية سورية" وخلصت إلى أن نجاح التغيير الديمقراطي وبناء مجتمع التعددية واحترام حقوق الإنسان هناك يرتبط الى حد كبير بالتخلص من مطامع الكسب الإقليمي وبالتوجه بصورة شفافة نحو الداخل لبناء مجتمع معافى!. وأنت من رأى أنه من المحال تجديد حيوية العلاقات السورية اللبنانية دون انتصار الديمقراطية في كلا البلدين رافضاً الخضوع للديماغوجية الساعية لإسقاط أولوية هذا الاستحقاق أو تأجيله باسم القضية القومية أو تحت عناوين التحديات الوطنية، تقديراً منك بأن تهميش الشعوب ودور الناس هو المسؤول الرئيس عن التردي الوطني العام والعجز عن مواجهة مآرب الخارج ومخططاته وعن تأزم العلاقات البينية العربية وانحسار المشروع القومي.
والأهم أنه من دونك كيف يمكن أن نواجه ونفحم تلك الأبواق الإعلامية المشبعة بالكذب والحقد التي تدافع عن أنظمة لا تزال تعامل شعوبها كالقطعان أو كالجرذان على حد تعبير القذافي، تستسهل قتل ناسها بأعصاب باردة وتدبج الأكاذيب حين تهتز عروشها عن المؤامرات التي تتعرض لها، لنرد عليهم بما كنت تقوله عن أن ثمة مؤامرة كبيرة واحدة هي هذا الاعتقال الجماعي للشعوب وقهر إرادتها وتجويعها، هي مؤامرة الصمت التي حيكت وتحاك من أجل تطبيع التعدي على حرمة الفرد وتأبيد هذا الانقضاض الفظ على أبسط حقوق الإنسان العربي وتسويغ أساليب التعذيب الجسدي والنفسي لإذلاله وامتهان كرامته!. أو لنرد على العجزة والمقتنعين بانعدام القدرة على التغيير، أو الذين يتهربون من مسؤولياتهم ومن أدوارهم تحت ذرائع شتى، أهمها الادعاء بقصور مجتمعاتنا عن إنجاز التحول السياسي والديمقراطي، والذين يتأقلمون ويدعون الآخرين الى التأقلم مع علامات هذا الشقاء المقيت المتشابه والمشترك بين جميع الدول العربية، مع غياب الحقوق والحريات، مع الفساد، مع إنعطاب المواطنة، مع التمييز والترويج لتقاليد العيش في أطلال التخلف وتشجيع النزعات الطائفية والمذهبية، وتكريس الدونية تجاه الشعوب الأخرى!.
تحضر روحك ياصديقي في هذه المعمعة لأنك كنت الأعمق إيماناً والأكثر ثقة بمهمة الثقافة والمثقفين في عملية التغيير.. كنت من القلائل الذين تطلعوا لدور إنقاذي يلعبه المثقفون تجاه مجتمعهم في أوقات المحن والأزمات أو في لحظات التحول العاصفة، ربما كنوع من الإقرار بالوظيفة الخاصة بهم في الرد عما يستجد من تطورات وفي إعادة بناء وعي نقدي وأفكار جديدة يفترض أنهم أقدر المعنيين ببنائها، أمام ضعف السياسة وعجز أو تردد رجالاتها.
فمن غيرك أتعبنا جميعاً بتكرار السؤال عن حال المثقفين اليوم وما يمكن أن يفعلوه مع تسارع انكشاف أزمات مجتمعاتهم والفشل البين للمشروع السياسي في وقف التدهور الحاصل أو الإمساك بزمام المبادرة لبدء رحلة عد عكسي نحو التجاوز والتقدم، مجاهراً برهانه على مهمة أبعد مدى للثقافة اللبنانية من حدود ذاك البلد الصغير نحو حث المجتمعات العربية على التحرّر من الديكتاتورية والتخلص من القمع والاضطهاد، ولاستعادة لغة عصر النهضة والتنوير، ولاستعادة الحلم بولادة إنسان عربي جديد يستطيع أن يحيا ويفكر ويقاوم زوداً عن حقوقه، وبعبارة أخرى لتكريس ثقافة جديدة، ثقافة ديمقراطية تستعيد زخمها لتساهم في تجديد الديمقراطية العربية، ثقافة تنحاز لتحرر فلسطين ولا تخشى حرية سوريا ولا العراق. تبدأ بورشة وطنية حقيقية لوضع أحجار بناء دولة عصرية ومدنية متحرّرة من التدخلات السياسية والمخابراتية.
والحقيقة لا يمكن قبل أن نعيش عيانياً اللحظات الراهنة والحارة التي تمر به مجتمعاتنا العربية أن نفسر ونتفهم شدة نقدك لضعف مقاومة المثقفين العرب للأوضاع القائمة أو تقصيرهم في نصرة الديمقراطية عندما أحجمت غالبيتهم لفترات طويلة ولأسباب متنوعة عن معارضة أساليب الاستبداد وانعدام الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان، ولم تظهر قدراً كافياً من التضحية والشجاعة أمام ما تعرضت له من ضغوط سياسية واقتصادية، للاعتزاز بالحياة الديمقراطية وحرية التفكير والإبداع والتمسك بمعاييرها، وتالياً للدفاع عن التكافؤ والعدالة والمساواة بين البشر وبين الشعوب والأمم ضد مختلف أشكال التميز القومي أو الطائفي أو المذهبي.
أفكارك تحضر اليوم بعد أن أسقطت الثورتان التونسية والمصرية رموز القهر والفساد، وتقفان عند عتبة لمرحلة جديدة من البناء وتحقيق أهداف الثورة في الحرية والديمقراطية، ليس فقط لأنك أنت من اعتبر أن المصدر الأكبر للتململ قد يكون في شعور المواطنين بأن لحظة الانتصار هي لحظة للقطف، وليست لحظة للتأسيس، وإنما أيضاً لأنك صاحب الرؤية الأجرأ عندما دعوت الى "انتفاضة في الانتفاضة" بعد أن تضعضع دور الانتفاضة اللبنانية وخبا زخمها وفاحت رائحة غير مستحبة من بعض قادتها وهم يجيرون تضحياتها وزخمها الشعبي بحثاً عن مكاسب شخصية وفئوية، محذراً من خطر كبير على راهن لبنان ومستقبله في حال اختزل هذا الفعل التاريخي الى حدود مصالح ضيقة وحسابات أنانية، واقفاً بالضد من التركيبة السياسية والطائفية للنظام اللبناني، وحالماً بل داعياً لدولة حرة، تكون ملك المواطنين جميعاً، محصّنة بقوانين عادلة وبقضاء مستقل، وبتمثيل شعبي لا يرقى إليه الشك.
رحلت قبل الحصاد، لكنك زرعت بذارك في الأرض الصالحة، وتبدو الغلال وفيرة وفيرة، لكن يا صديقي ربما ما يحرجني اليوم، وأنت غائب عنا، أن استحضر خصالك وأفكارك، تحت وطأة الحاجة إليها، فنحن جميعنا بحاجة ماسة إليها، والثورات العربية بحاجة ماسة إليها، ولعل ما يخفف هذا الأمر أني أكاد أجزم أن ما يحصل هو أكثر ما يسعدك، ويجعل صورتك وأفكارك أكثر تألقاً، دون أن أنسى أنك صاحب الروح الايثارية التي تأنف الاستحواذ وترغب عن التمتع بنعم الحرية والديمقراطية طالما ليست مشاعاً للجميع، أهلاً وأقارب وجيران!.
هما عبارتان لك تحفران عميقاً في الوعي والوجدان الشعبي العربي الناهض اليوم لنيل حريته وكرامته، عندما خاطبت أنظمة القهر والفساد، بأن "تراكم الأخطاء يقصر المهل" وعندما دعوت القادة السياسيين والمثقفين والرفاق بأن "عودوا إلى الشارع تعودوا إلى الوضوح "!
المراجع
alawan.org
التصانيف
تاريخ أحداث أحداث جارية مجتمع