ثمة ملاحظة أجمع عليها المتابعون للواقع السياسيّ والثقافيّ لليسار في تونس. محصّل أمر هذه الملاحظة يتمثّل في غياب الفعل النقديّ عند اليسار التونسيّ غيابا تامّا. وقد تحوّلت هذه الملاحظة إلى هاجس يؤرّق كلّ اليسار التونسيّ. فليس من المريح أن يغيب النقد عن الممارسة السياسيّة لليسار في تونس. ويعلم الجميع أنّ العامل الجامع بين المنتمين لأيّ كتلة من الكتل السياسيّة اليساريّة في تونس هو جامع إيديولوجيّ بالأساس. لكنّه سرعان ما تحوّل بينهم إلى رابط دوغمائيّ وثوقيّ نتيجة غياب الشرط النقديّ الذي يعدّ أهمّ أسس الفكر الماركسيّ الذي يفترض أن يكون المرجعيّة المركزيّة لتيّارات اليسار على اختلافاتها البراكسيسيّة.
 إنّ العجب والاندهاش ليصيباننا ونحن نرى اليسار التونسيّ مستمرّا على النهج نفسه رغم التحوّلات العاصفة التي شهدها المجتمع التونسيّ منذ مطلع سنة 2011. فمن الغريب أن يسير السيار دائما دون أن يلتفت إلى الوراء قليلا، ودون أن يتشوّف الآتي. إنّه لا يرى إلاّ بين قدميه. وهو يتوهّم أنه يتقدّم. فهو يبدي هوسا عجيبا بالممارسة السياسيّة؛ السياسة باعتبارها مصالح ومكاسب وتحالفات خفيّة وعلنيّة غايتها في النهاية الوصول إلى الحكم.
 لم يقف اليسار التونسيّ وقفة تأمّل. لم يلملم جراحه. لم يستدع كلّ مناضليه في الدّاخل وفي الخارج ممّن شرّدهم ونفاهم النظام النوفمبريّ المخلوع. لم يتناد اليسار إلى الحوار والنقاش بين أطيافه. بل إنّه أصرّ على خلافاته التي ورث أغلبها من الحياة الطلابيّة في مختلف الأجزاء الجامعيّة منذ سبعينيّات القرن الماضي. نرصد هذه الحال ونحن نراقب الدعوات الفاترة التي يتبادلها زعماء اليسار السياسيّ لتكوين جبهات سياسيّة استعدادا لخوض المحطّات الانتخابيّة القادمة.
 منذ انتصار الثورة الشعبيّة التونسيّة في خلع النظام النوفمبريّ الفاشي وفي طرد الجنرال الحاكم من الوطن، لفتتنا أمور كثيرة. من أهمّها مرور اليسار السياسيّ التونسيّ مباشرة إلى أبواب وزارة الداخليّة يدقّها فرقا فِرقًا فرادى طلبا للإذن في ممارسة السياسة الميدانيّة العلنيّة الشرعيّة بعد أن أفنى عقودا في العمل السريّ. أمّا مشاكل اليسار وانقساماته وخلافاته فعالقة مؤجّلة بل مهملة متروكة.
 كما استطرفنا، نحن أبناء اليسار كما كلّ المتابعين للمشهد السياسيّ التونسيّ، تراكض السياسيّين اليساريّين جميعا إلى التلفزات والإذاعات يكتشفون بريقها وكواليسها وماكياجها ذاهلين مذهولين، متأنّقين بربطات أعناقهم، متحدّثين عن "شروط المرحلة" مأخوذين بالصورة المسيحيّة التي ترسم للرموز منهم في هذا الإعلام المصاب باللوثة النوفمبريّة المزمنة.. شفاه الله.
 ما نرغب في تسجيله بإلحاح هو أنّ اليسار التونسيّ اختزل وجوده كلّه في الجانب السياسيّ الميدانيّ الجماهيريّ. وفي المقابل أغفل الجانبين الثقافيّ والنقديّ إغفالا تامّا. ولا نستطيع أن نجزم بالداعي إلى إهمال الفعلين الثقافيّ والنقديّ؛ هل كان ذلك نتيجة ل "شروط المرحلة" كما يحبّ أن يعبّر اليسار السياسيّ؟ أم نتيجة لخيارات استراتيجيّة تُقدِّم الميدان على الفكر؟ أم نتيجة لرؤية نفعيّة براغماتيّة آنيّة تستعجل الصراع الاجتماعيّ ضدّ قوى الردّة والصراع السياسيّ ضدّ السّلطة بعيدا عن السجال الفكريّ؟ أم نتيجة رؤية مغلقة لا تاريخيّة ترى أنّ الفكر الماركسيّ خارج عن الشرط الإنسانيّ وأنّه فكر قد اكتمل ولا مجال لإثرائه ومراجعة مسلّماته في ضوء المتغيّرات الكونيّة، وعلى اليسار التونسيّ حينها أن يلغي ألتوسير وديريدا ودولوز وريكور ولوكاتش وكلّ المجدّدين الماركسيّين؟ أم نتيجة عجز عن المساهمة في التأسيس الماركسيّ بفعل قصور معرفيّ ومنهجيّ واختيار الاكتفاء بالشعارات المدويّة الرّاجمة المفرغة من كلّ محتوى إلاّ سلطة حاملها لاسيما إن كان من الخطباء شأن زعماء اليسار السياسيّ التونسيّ؟
 لابدّ من الإشارة إلى أنّ اليسار التونسيّ ولد في رحم الحركة النقابيّة إبّان الاستعمار الفرنسيّ مع الزعيمين محمد علي الحامّي وفرحات حشّاد خاصّة. ولم يغادر اليسار هذه الساحة. وإنّما تشاركها مع غيره من الأطياف والتيّارات. وهي ساحة رحبة سمحة قادرة على ضمّ الجميع باعتبار طبيعة الصراع فيها. فهو صراع مطلبيّ مهنيّ ضدّ كلّ أشكال الاستغلال والاستلاب التي يمكن أن تصدر عن أرباب الأعمال المشغّلين سواء كانت الدولة أو القطاع الخاصّ. ولم يكن أبدا صراعا إديولوجيّا في الظاهر على الأقلّ. لكنّ طبيعة الصراع النقابيّ هذه لم تخل من حالات التوظيف السياسيّ، كما سنرى لاحقا.
 ثمّ نما اليسار في الجامعة التونسيّة بعد الاستقلال بفعل المدّ اليساريّ الذي عرفه العالم في نهاية الستينيّات وعلى امتداد السبعينيّات بعد أحداث ماي 1968 بفرنسا. ومنها انتشر في كلّ أنحاء الوطن بتفاوت طبعا.
 كما لابدّ من الإشارة إلى أنّ خيارات النظام البورقيبيّ كانت تلتقي في أحيان كثيرة مع الأطروحات اليساريّة لاسيما فيما يتّصل بمسألتي الحداثة والعلمانيّة رغم تفضيله للخيار الليبراليّ اجتماعيّا والرأسماليّ اقتصاديّا مع سيطرة الدولة على القطاع العامّ وعلى مواردها وثرواتها الرئيسيّة.
 غير أنّ هذا التقاطع صار لافتا حين قبل بورقيبة تبنّي النموذج الاشتراكيّ خيارا اقتصاديّا للدولة متجسّدا في تجربة التعاضد في نهاية الستينيّات. كما أضاف بورقيبة مصطلح "الاشتراكيّ" إلى اسم حزبه الدستوريّ. لقد كانت لبورقيبة حساسيّة خاصّة من الإسلام السياسيّ بحكم مشروعه العلمانيّ وتكوينه الفرنكفونيّ. وهو ما جعله أميل إلى اليسار. فبورقيبة هو الذي كان ميّالا إلى اليسار وليس اليسار من كان ميّالا إلى بورقيبة.
 وقد انتهت الفترة البورقيبيّة بمشهد سياسيّ ملتبس بعد ظهور الإسلام السياسيّ ومزاحمته اليسار في الساحة الجامعيّة. ولم يكن النظام التونسيّ يرى اليسار خطرا على المجتمع والدولة المدنيّة. ولذلك لم يقع اضطهاد اليساريّين بسبب أفكارهم أو ولائهم للإيديولوجيّات اليساريّة. فيما كان تعامل السلطة مع الإسلاميّين مختلفا إذ عُدّوا خطرا كبيرا على السّلم المدنيّ وعلى المكتسبات الحداثيّة في المجتمع التونسيّ. ولذلك تمّ التعامل معهم بقسوة وشدّة وعنف. وقد يكون الإسلاميّون ورقة سياسيّة لعبها المسؤول الأمنيّ الأوّل في البلد الموعود بالحكم بن علي لتخويف بورقيبة في آخر أيّامه ولتخوين أعوانه الأقوياء لاسيما محمد مزالي ولمراودة الغرب المذعور من الأرثوذوكسية الإسلاميّة بعبارة محمد أركون.
 اليسار والمحنة النوفمبريّة:
 إنّ الموقف الذي غلب على التونسيّين بعد انقلاب بن علي على تونس سنة 1987، هو موقف الاستبشار. ولم يكن استبشارا بحلول بن علي بقدرما كان تهليلا لزوال بورقيبة. فقد طغى الملل على أنفس التونسيّين. وانتاب الرّوتين الحياة السياسيّة التونسيّة. ومأتى ذلك اتّسام المشهد السياسيّ بالثبات بل بالجمود لاسيما بعد أن غلبت الزعيمَ بورقيبة نفسُه فهانت عليه فانتصب رئيسا مدى الحياة مدفوعا بشعور غامر بالعظمة مأتاه تضخّم صورته عنده بفعل سلوك المحاباة والمجاملة والتملّق والمديح والبندرة الذي كان يسلكه أعوانه ووزراؤه وحاشيته ومدّاحوه وحتى خصومه. فحوّلوا صورته عنده من كائن عابر مائت إلى صنم جامد هشّ آيل للتهشيم والتكسير بعد أن كان يمكن أن يكون رمزا خالدا مقيما في القلوب والأفئدة لا يموت، ولا يدركه البِلى.
 ولم يكن التونسيّون يرون صورة رئيسهم كما يراها. فقد كانوا يرونه شيخا مرتعش اليد عاجزا عن الحركة والكلام. وكانوا يتساررون: كيف لهذا الشيخ أن يحكمنا وأن يسيّر دواليب الدولة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة الآنيّة العاجلة منها والاستشرافيّة؟ لقد تسرّب القلق إلى التونسيّين؛ قلق على حاضرهم وعلى مستقبل أبنائهم في ظلّ حكم الشيخ الصنم. لقد استشرى الفساد. والتبست المقاييس والمراجع والثوابت. وترنّح الاقتصاد. وتراكمت المشاكل. وملأ اللصوص جيوبهم، واستقلّوا الطائرات.
 لذلك، هلّل التونسيّون للتغيير السياسيّ الذي طرأ على بلدهم. وقبلوا الرئيس الجديد قبولا سريعا دون أن يكلّفوا أنفسهم مؤونة السؤال: هل جاء بن علي باجتهاده أم جيء به بأجندات غير وطنيّة؟ لم يشكّكوا في دوافع الانقلاب. ولم يفكّروا في المنقلِب ولا في تاريخه ولا في نواياه. بل لقد أثنى الكثير على فتوّته وصلابة عوده ورشاقة مشيته وخصلات شعره المسدلة على صدغيه. لقد كانوا يرونه ولا يصدّقون أنّهم لن يروا مجدّدا اليدين المرتعشتين والحمل على الأكتاف والسباحة على الظهر في شواطئ المنستير. وقد بدوا على عجل مسرعين لتجاوز المرحلة البورقيبيّة مدفوعين بطموح جارف نحو غد يتمنّون أن يكون أفضل.
 اليسار التونسيّ كان هنا، في هذه المنطقة أعني؛ منطقة الهرولة لطيّ صفحة بورقيبة والتطلّع لأداء دور في بناء تونس التغيير بعد أن أفحهم بيان 7 نوفمبر وأوهمهم بأنّ الجميع سواء في الحقوق والواجبات وبألاّ رئاسة مدى الحياة. خدعهم بن علي بالبيان. فانقادوا إلى الخديعة بيسر حتى إنّ بن علي نفسه لم يصدّق سهولة انخداعهم.
 لقد فهم بن علي أنّ منافسيه السياسيّين مرنون ليّنون طيّعون، وأنّهم يتعاملون بالنيّة والوعد، وأنّهم ليسوا محترفين سياسيّين على اختلاف إيديولوجيّاتهم رغم محاولاتهم الجاهدة اليوم لإثبات العكس. لقد كانوا يدخلون إلى أجمة الأسد دخول شتربة، دون مخالب ولا أنياب. يكفي أنّهم لم يبادروا إلى الفعل السياسيّ. بل اكتفوا بانتظار مبادرات بن علي نحوهم وأكفّهم متوثّبة للتصفيق الملتهب. غير أنّهم لم يتفطّنوا إلى أنّه كان قد قرّر أن يكنسهم وغيرهم من المختلفين عنه ومعه من المشهد السياسيّ التونسيّ.
 ولم يطل الانتظار طويلا فجاء الميثاق الوطنيّ الذي ينظّم منطوقه الحياة السياسيّة ويضمن الديمقراطيّة وحقّ المشاركة للجميع. هكذا رآه رموز المعارضة التونسيّة من إسلاميّين ويسار وليبراليّين وقوميّين وغيرهم. الجميع دُعِيوا فجاءوا مهرولين وأمضوا.. أمضوا على تسليم مفاتيح الوطن لقرصان متلصّص عميل لأعداء الأمّة.. أمضوا وعادوا مهرولين إلى زواياهم وحاناتهم يتبادلون التهاني والإعجاب بصدق حاكم قرطاج الجديد.. عادوا حالمين بالهبات والتسميات.
 وكان اليسار هنا. لقد أمضى مع من أمضوا على الرهن L’hypothèque دون ضمان ولا مقابل. لقد أمَّن اليسار بن علي على الوطن وأمِن إليه رغم أنّ اليساريّين كانوا يردّدون فيما بينهم بأنّه متورّط في دماء شهداء الحركة الطلابيّة من أبناء اليسار النقابيّ الطلابيّ على غرار الشهيد الفاضل ساسي. وكانوا يردّدون بأنّه كان يقود حملات الاعتقال في صفوف الحركة الطلابيّة وبأنّه كان يتولّى بنفسه المهمّات القذرة كمحاصرة الكليّات والأجزاء الجامعيّة الثائرة ومداهمتها. ولا أحد نسي أنّ بن علي كان السوط الذي سلّطه بورقيبة على الشعب التونسيّ إبّان انتفاضة الخبز سنة 1984.
 ألمْ يكن أجدر باليسار، والحالة هذه، أن يطالب بكشف وجوه المجرمين وبتحقيق العدالة قبل الانخراط في العهد الجديد الذي بشّر به بن علي؟ وكان ذلك يمكن أن يكون عربون حسن نيّة ومشروع مصالحة وطنيّة. أليس في قبول اليسار بالميثاق الوطنيّ والوثوق بالمشروع النوفمبريّ التفاف من اليسار نفسه على نفسه؟ لقد وثق اليسار بمن شيمته الغدر. واليسار نفسه هو الذي كان يروّج ذلك في الساحة السياسيّة سرّا وجهرا. ومع ذلك أمضى. ومنح صكّ الغفران لمن يداه مصبوغتان بدماء المناضلين من أبناء اليسار. فأيّ مسؤوليّة لليسار في تاريخ تونس الحديث؟ وهل يجب على اليسار أن يعتذر عن أدائه السياسيّ الضعيف باعتبار أنّه كان يمارس السياسة بالنيّة واليُمن؟ لقد كان اليسار يفاخر بالعقلانيّة. ويجاهر بالعداء لإغراق العامّة في الخرافة واليمن والتطيّر. على أنّه كان يمارس، على مستوى الفعل السياسيّ، ما كان يجاهر بانتقاده وتهجينه.
 لقد جاء اليسار من إيديولوجيّات تقوم على الفكر الماديّ المستند أساسا إلى عمليّتي النقد والتجاوز. لكنّه ترك هذه المقوّمات الإيديولوجيّة واكتفى بالمقولات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الاشتراكيّة. فحوّلها إلى شعارات سرعان ما فقدت فاعليّتها بفعل الاجترار والتكرار كشعار دكتاتوريّة البروليتاريا والعدالة الاجتماعيّة والعدل في توزيع الثروة وغيرها.
 أمّا الفعل النقديّ فغاب تماما أو كاد عن اليسار التونسيّ. واستبدله بمفاهيم "الميثاق الوطنيّ" و"متطلّبات المرحلة" و"الشروط الموضوعيّة" و"المصالحة الوطنيّة" وغيرها من الشعارات السفسطائيّة والمفاهيم المعوّمة المتنصّلة من المسؤوليّة التاريخيّة. وهي مفاهيم مضلّلة متوّهة ملتبسة في ذهن اليسار نفسه لأنّه يحاول أن يقنع نفسه بجدواها وبأنّها مستجيبة مع "خصوصيّات النموذج التونسيّ" لا مع الأمميّة.
 إنّ هذه المفاهيم نفسها هي التي شرّع بها اليسار لنفسه التغاضي عن سجلّ بن علي القمعيّ قبل 1987 وتزكيته رئيسا جديدا لتونس والكفّ عن ملاحقته قضائيّا وعن مطالبته بالعدالة. فكيف يقبل اليسار التنازل عن دماء شهدائه؟(1) لقد سار اليسار مع الجميع وهو يدّعي النخبويّة وامتلاك القدرة على الاختلاف!! وقبِل أن يتخلّى عن خصوصيّته النقديّة وأن يفرغ يَسارِيّته من جوهرها وأن يتقاطع كثيرا مع الإيديولوجيّات الدوغمائيّة رفيقته في الإمضاء على الميثاق. لقد كفّ اليسار عن ممارسة الفعل النقديّ. فاستبدل، بعد 1987، صفته النقديّة بالدوغمائيّة وإن اختلف المقام؛ دوغمائيّة شركاء الميثاق في المسجد ودوغمائيّة اليسار في الحانات لا يكلّ منها ولا ينطفئ فيه العطش إليها. 
 استحوذ القرصان على الكنز بمفرده في الوقت الذي شرع فيه في توزيع الحصص من السجون والمنافي والطرد والاغتيال والملاحقة على شركاء الأمس في الميثاق. من هذه اللحظة، بدأ تاريخ امّحاء اليسار من المشهد السياسيّ التونسيّ وتلاشيه أمام انكشاف وجه بن علي الحقيقيّ للجميع؛ وجه الدكتاتور السادي الدمويّ النّهم للثروة المستعدّ حتى لكنس التونسيّين جميعهم من تونس. وكان اليسار ضحيّة نفسه أوّلا وضحيّة مكر المشروع النوفمبريّ ومكائده ثانيا.
 اليسار وحركة التفتّت التاريخيّ القاصمة:
 وجد اليسار التونسيّ نفسه بعد انقلاب بن علي على تونس ضعيفا مفكّكا. وانكفأ اليساريّون على أنفسهم يلعقون جراحهم ويتحاسبون ويتبادلون التّهم. ووجد اليساريّون أنفسهم في حالة عطالة سياسيّة. فضاقت بهم الحانات والمقاهي منذ مطلع السنوات التسعين. وبدأت محنة يساريّة جديدة في الظهور هي محنة التفتّت أشلاء والانقسام أجزاء ممّا زاد من هوان اليسار. وكان بن علي يراقب ويبتسم ونابه الفضيّ يلمع. فلا أفضل له من هذا الواقع الجديد الذي تردّى فيه اليسار.
 من "العامل التونسيّ" إلى "الشعلة" إلى "حزب العمّال الشيوعيّ" إلى "حركة الوطنيّين الديمقراطيّين" إلى "حزب العمل الوطنيّ الديمقراطيّ" إلى "حزب اليسار الاشتراكيّ" إلى "حركة التجديد" إلى ما سيفرّخ بعد الثورة من حركات وأحزاب يساريّة أخرى، إلى حال من الهزال والضعف والتشرذم في الساحة السياسيّة الوطنيّة ثير الشفقة والعطف بين الرفاق والسخرية والاستهزاء بين الخصوم والشماتة بين الأعداء.
 لقد أثبت تاريخ تونس المعاصر أنّ حالة التشظّي والتفتّت التي آل إليها واقع اليسار التونسيّ بعد 1987 لم تكن دليل تنوّع وثراء. وإنّما كانت علامة على الخلاف والقطيعة وضيق الصدور والإغراق في الجدل الماركسيّ اللينينيّ والماويّ والتروتسكيّ اللاّتاريخيّ الدالّ على حركة ارتداد وانكماش لا على إثراء نظريّ ولا إيديولوجيّ. والدليل على ذلك أنّها لم تخدم الشعب التونسيّ ولم تساهم في البناء الحضاريّ الحداثيّ الوطنيّ الذي توقّف الفعل المؤثّر فيه منذ لحظات خيرالدين باشا والشابي والحدّاد والمسعدي ومحجوب بن ميلاد والشيخين بن عاشور وبورقيبة وعبد الوهاب بوحديبة. أمّا اليسار فلا دور له في المكتسبات الحداثيّة للشعب التونسيّ، ولا دور له في تدعيمها نظرا لأخطائه الاستراتيجيّة التاريخيّة التي أشرنا إليها فيما سبق.
 لقد نجح الحكم النوفمبريّ في تفتيت اليسار وفي سلبه أحلامه في المشاركة السياسيّة. لقد غدر به بكلّ بساطة. ووجد اليسار نفسه في عنق الزجاجة، إذ عليه أن يبرّر اختياراته ومواقفه وممارساته وسقطاته في أحضان بن علي لروّاده ومريديه ومناضليه، من جهة، وعليه أن يبحث عن مخابئ محصّنة عن أيادي أجهزة بن علي البوليسيّة والمخابراتيّة داخل الوطن وخارجه استعدادا للأيّام السوداء القادمة، من جهة ثانية.
 بعد سنوات العسل الثلاث الأولى من حكم بن علي، جاءت أعوام التضييق. فتجفّفت قواعد اليسار. ووقع رموزه بين خيارات ثلاثة: الإغواء النوفمبريّ فالاستقطاب أو التحييد والانقطاع عن الممارسة السياسيّة وعن الانتماء للعائلة اليساريّة والاكتفاء باليوميّ المعاشيّ أو الإقصاء والطرد والمحاصرة والسجن والنفي. ورضي اليسار بالمكانة الصغيرة المقسومة له القاضية بانحشاره في زاوية مظلمة في ساحة الوطن الخلفيّة. 
 اليسار ضحيّة المؤامرة النوفمبريّة التجمعيّة الإعلاميّة:
 لقد خسر اليسار التونسيّ الساحة السياسيّة التي استولى بن علي عليها بالكامل. وحده في المشهد كان. لا صورة إلاّ صورته في الشاشات والساحات والميادين والخمّارات والدكاكين والمواخير. ولا صوت إلاّ صوته في الإذاعات. ولا حديث إلاّ عن حكمته وتبصّره في المنتديات والأكاديميّات والمؤتمرات والمجالس. ولا لون إلاّ لونه في الرّايات والقناطر والجسور والطرقات والبنايات والكشكولات والقبّعات وشمسيّات الحجيج. والبروباغندا النوفمبريّة والتجمعيّة في أوج عتيّها وصلفها كانت، إلى العماء تقود بن علي وإلى الخراب تقود الوطن. والبقيّة شعبا ونخبا ويسارا إلى الظلّ أُركِنوا. وطوبى لإعلام بن علي في الداخل الذي غدر بنا وبتونس وباليسار فقدّمنا طبقا شهيّا له..
 طوبى ل "الإعلان" و"الحدث" و"لكلّ الناس" و"الصريح" و"التونسيّ" و"الحريّة" و"الصحافة" و"تونس7" وغيرها الناطقات بغير العربيّة، إضافة إلى وكالة الاتّصال الخارجيّ الشهيرة وأصوات أعوان النوفمبريّة من أبناء اليسار أنفسهم على غرار برهان بسيّس والصحبي سمارة وسمير العبيدي ومؤلّفي "الثورة الهادئة" من أساتذة الفلسفة والقانون ومن الكتّاب والمثقّفين. هؤلاء جميعا جيّشهم جهاز بن علي لإبعاد اليسار وإعلاء بن علي بعد أن أجزل لهم العطايا والهبات.
 الجميع شركاء في المؤامرة التي حاكتها الطغمة النوفمبريّة لتونس ولشعبها ولنخبها وليسارها. فلقد كان هذا الإعلام تتنافس قنواته ووسائله في إعداد الوطن مائدةً شهيّةً لبن علي. وكان التونسيّون يدفعون المقابل. يا إلهي.. ما هذا الرّعب؛ شعب يُؤكَل ثمّ يدفع ثمن أَكلته لآكله!! والفضل كلّه لإعلام الدّاخل المظفّر ولبعض إعلام الخارج المأجور.
 انحسار اليسار سياسيّا والانكفاء إلى الفعل النقابيّ:
 ماذا بقي لليسار بعد أن كنسه بن علي من الساحتين السياسيّة والإعلاميّة، وكنس نفسه من الساحة الثقافيّة؟ لم يبق أمامه إلاّ الساحة النقابيّة يعود إليها ملاذا وساحة لمقاومة بن علي ونظامه. ولابدّ أن نسجّل حالة التنمّر التي كان عليها اليسار في خوض كلّ المؤتمرات النقابيّة. لقد نشأت بين المنتمين لكلّ تيّار من تيّارات اليسار، أثناء الممارسة النقابيّة، ولاءات دوغمائيّة قائمة على أساس الولاء الشخصيّ لرموز اليسار المعروفين لا على أساس إيديولوجيّ. ولم تنشئ هذه التيّارات اليساريّ قواعد مبنيّة على الإلمام بالفلسفة الماركسيّة ولا بقراءاتها التاريخيّة اللينينيّة ولا التروتسكيّة ولا الألتوسيريّة. ولذلك لم تخل الممارسة النقابيّة لليسار من هنات ومآخذ أثّرت في الكثير من الأحيان على الأداء النقابيّ فيما يتّصل بالدفاع الميدانيّ عن مصالح الشغّالين. فممارسة اليسار النقابيّة لم تكن دائما نضاليّة. وإنّما خضعت أحيانا كثيرة لتجاذبات وحسابات وتكتيكات سياسيّة.
 لقد كان القطاع العامّ في تونس قويّا وضخما من حيث الإمكانيّات وعدد العمّال والموظّفين. وكان عدد الطلاّب الجامعيّين يزداد بنسب عالية كلّ سنة. لذلك جيّش اليسار التونسيّ مناضليه للانخراط في الصراع النقابيّ بنوعيه المهنيّ والطلابيّ. فهو يعلم تمام العلم أنّه قادر على إيلام النظام وتسديد ضربات نقابيّة موجعة له. بل إنّه يمكن أن يستثمر نضال النقابيّين ورقة ضغط سياسيّة يلوّح بها اليسار ويحرّكها متى رغب في تحريك طلب سياسيّ مّا.
 غير أنّ النظام النوفمبريّ كان أيضا يعي حجم هذه الساحة النقابيّة. وكان يعلم أيضا أنّها ساحة غير موالية وأنّه يفتقد للسيطرة عليها رغم استراتيجيّاته الطويلة في استمالة الهياكل النقابيّة العليا وفي إغوائها. لذلك خطّط للتفريط في القطاع العامّ لرأس المال الوطنيّ الخارجيّ مبرّرا ذلك بالالتزام بمحتوى اتّفاقيّات الشراكة المبرمة مع الجهات الدوليّة كالاتّحاد الأوروبيّ وبنوك التمويل الدوليّة. وإمعانا في التمويه سمّى هذا التفريط استثمارا وجلبا للعملة الصعبة. وقد وظّف النظام من أجل هذه الغاية نخبة عالية من أهل الاقتصاد والقانون. وقد كشفت لجنة تقصّي الحقائق حول الرّشوة والفساد أنّ ملفّات تصفية القطاع العامّ وملفّات الاستثمار كانت بين يدي بن علي نفسه في غرفة نومه مخبّأة لا يستأمن عليها أحدا.
 ولهذا كان الصراع النقابيّ متعدّد الوجوه؛ الوجه الأوّل الحفاظ على القطاع العامّ، والوجه الثاني التصدّي لمشاريع التصفية، والوجه الثالث توجيه النضال النقابيّ وجهة سياسيّة. فالوجهان الأوّل والثاني وطنيّان. والوجه الثالث سياسيّ.
 السّاحة الطلابيّة كانت أيضا مسرحا للصراع بين اليسار وبين السلطة. فقد عملت أجهزة النظام على ترهيب الطلبة المناضلين بفبركة القضايا الجنائيّة والجناحيّة لهم. وهو ما يؤول بهم إلى السجون وإلى الحرمان من حقّ التعلّم بفعل الطرد من الجامعات. وهو ما يضطرّهم إلى أحد خيارات أربعة؛ مواصلة النضال والاستعداد لمزيد التضحية، أو قبول الحكم الجائر والرضا بالتشرّد والبطالة مصيرا، أو السفر خارج الحدود بحثا عن آفاق أفضل، أو التجاوب مع مغازلات السلطة.
 وممّا يلفت الانتباه هنا، أنّ الخلاف الإيديولوجيّ الناشئ بين أطياف اليسار قد انتقل معه من الساحة السياسيّة إلى الساحة النقابيّ. ولا نستطيع ألاّ نسجّل ذلك. بمعنى أنّ كتل اليسار انتقلت كما هي باختلافاتها وانقساماتها وحتى عدائها لبعضها بعضا إلى العمل النقابيّ. فلا حال وحّد اليسار. ولا وضْع لطّف من خلافاته. ولا عدوّ دعاه إلى التوحّد. ولا ساحة بدّدت انقساماته. فهل اليسار التونسيّ انقساميّ بطبعه؟ والسؤال الملحّ هو: هل اليسار واحد متعدّد أم متعدّد في غير وحدة؟
 إنّ حالة الانقسام والتفتّت هذه أضعفت أداء اليسار نقابيّا كما كانت قد أضعفته سياسيّا سابقا ولا تزال تفعل. لقد جعلته إلى جانب الضعف هشّا سهل الاختراق في المحطّات الانتخابيّة النقابيّة كمؤتمر المركزيّة النقابيّة ومؤتمرات النقابات المهنيّة العامّة ومؤتمرات الاتّحادات الجهويّة والمحليّة ومؤتمرات النقابات الأساسيّة. وبسبب هذا الضعف والانقسام لم يتمكّن اليسار من السيطرة على الساحة النقابيّة. بل لقد تمكّنت تيّارات أخرى، لاسيما التيّارات القوميّة بمختلف أصنافها، من حيازة مواقع لها في الهياكل النقابيّة في مستوياتها جميعا.
 لقد كان النظام النوفمبريّ المخلوع مطّلعا على خلفيّات الساحة النقابيّة بفضل أجهزته المخابراتيّة والبوليسيّة. غير أنّه من التاريخيّ أن نسجّل عجز ذراعه السياسيّ أي حزب التجمّع الدستوريّ، رغم محاولاته المتكرّرة، من التسلّل إلى العمل النقابيّ في أغلب القطاعات لاسيما في نقابات البريد والصحّة والعدليّة وخاصّة التعليم بمختلف قطاعاته، وإن كان قد تمكّن من النفاذ إلى العمل الجمعيّاتيّ، بل والسيطرة على أغلبه باستثناء جمعيّة القضاة والرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان وهيئة المحامين.
 بعد تفجّر ثورة يناير/ جانفي 2011، التحق اليسار بالساحة السياسيّة من جديد. فهل ترك اليسار الساحة النقابيّة نهائيّا وتنازل أخيرا عن العمل النقابيّ لأهله النقابيّين؟ أم هل سيحتفظ بمكانته القويّة فيها انتظارا لما ستؤول إليه المرحلة القادمة؟ كما تجدر الإشارة إلى أنّ اليسار عاد من جديد إلى الساحة السياسيّة الوطنيّة في تونس بخلافاته وانقساماته نفسها التي سبق الحديث عنها. 
 اليسار واللحظة الفارقة:
 سأصوغ تحليليّ لهذا العنصر صياغة استفهاميّة في شكل حشد من الأسئلة تتطارح ملحاحة في الذهن. لماذا اختُزل اليسار التونسيّ في اليسار السياسيّ؟ هل يمكن فصل الإيديولوجيا عن السياسة تماما كما يفصل الدين عن السياسة؟ هل يمكن الحديث عن لائكيّة إيديولوجيّة؟ هل يمكن تطوير مفهوم اللائكيّة لتصبح دالّة عن فصل كلّ الوثوقيّات والدوغمائيّات عن السياسة كما نادى بذلك أركون؟ ماذا نسمّي اليساريّين والشيوعيّين المنتشرين في كلّ القطاعات بعيدا عن السياسة؟ هل هم يسار أم لا؟ هل يهتمّ هؤلاء بالشأن السياسيّ؟ هل سيمنحون أصواتهم للأحزاب اليساريّة؟ هل يؤمن اليسار غير السياسيّ باليسار اليسار السياسيّ؟
 هل استعدّ اليسار لمقاومة الرّثاثة والبؤس الفكريّين الغالبين على المشهدين الفكريّ والسياسيّ في تونس؟ هل يطرح اليسار السياسيّ هذه الأسئلة؟ هل بحث عن صنوه غير المسيّس؟ هل تحاور معه؟ هل استماله؟ هل يسير اليسار السياسيّ منذ تفجّر الثورة في الاتّجاه الصحيح أم يحتاج إلى تصحيح المسار قبل أن يتوه في دروب السراب؟ هل درب سالكة يا يسار؟ هل درب ستالين سالكة يا يسار؟ هل درب ماو سالكة يا يسار؟ هل درب فيديل سالكة يا يسار؟ هل دربك سالكة يا يسار تونس؟ هل كلّها سالكة أم مستهلكة ساهمت بشكل من الأشكال في بلورة فكرة نهاية التاريخ الإيديولوجيّ وفي تربّع رأس المال على سيادة العالم؟ هل يمكن لليسار التونسيّ أن يحلم بإبداع درب جديد حتى لا يتركنا نهبًا للدوغمائيّات والسلفيّات والنوفمبريّات المتلوّنة؟ 
 
هامش:
1- لم نسمع إلى حدّ الآن عن أنّ أيّ حزب من الأحزاب اليساريّة قد رفع قضيّة ضدّ بن علي عن جرائم القتل التي ارتكبها في حقّ مناضلي اليسار وشهدائه، ولم يصل إلى علمنا أنّ أيّ طرف من أطراف اليسار يعمل على طلب فتح تحقيق في ذلك. لماذا؟ أللتبرير القديم نفسه؛ "شروط المرحلة"، وهي الآن تقتضي الاستعداد للبناء الجديد وتناسي تنظيف القديم؟ هل قدر اليسار أن يظلّ تاريخه تاريخ الكُوى المظلمة؟ لماذا لا يكشف اليسار تاريخه؟ لماذا لا يعدّ أجندة لذلك؟ لماذا لا يقتصّ من أعدائه التاريخيّين؟ هل في هذا الموقف إصرار على تبرئة بن علي من جرائم ما قبل 1987؟ جرائم بن علي تعود إلى اللحظة التي استلم فيها إدارة الأمن، أي قبل انقلابه على تونس بسنوات. فأين اليسار من فكرة القصاص؟ ولعلّه من المثير للغرابة أن نسجّل أنّ اليسار الذي لم يطالب بالعدالة لضحاياه وشهدائه لا يترك مناسبة تمرّ دون التذكير بضرورة توفير الحقّ في المحاكمة العادلة لرموز النظام النوفمبريّ المخلوع!! ما كلّ هذا الإيثار!! ما كلّ هذه الأصالة!!

المراجع

ahewar.org

التصانيف

تاريخ   مقالة