أجد نفسي مضطرا لقطع سلسلة هذه المقالات المتتالية من اجل توضيح نقطة محددة ثم العودة إلى استئنافها من حيث توقفت عند لحظة ديكارت بغية كتابة ملحمة العقلانية المتصاعدة بعده وانطلاقا منه.
بصراحة ما كنت أعرف أن المثقفين العرب، أو بعضهم على الأقل، قد تجاوزوا مرحلة الحداثة كليا وما عادوا يتحدثون إلا عن مفاهيم ما بعد الحداثة!.. شيء يبشر بالخير، شيء يدعو للاعتزاز والفخر. كل مشاكلنا حلت دفعة واحدة وأصبحنا نحن والغرب على مستوى واحد. ومن هو هذا الغرب التافه لكي يتأستذ علينا بعد الآن؟ نحن أيضا نسرح ونمرح في الأجواء السماوية الأثيرية لما بعد الحداثة المخملية وليس هو فقط. يبدو أن مجتمعاتنا قد هضمت كل مراحل الحداثة وما عادت بحاجة إليها. هضمنا الفلسفة السياسية الحديثة واللعبة الديمقراطية والحريات الدينية وحلينا مشكلة المواطنية ولم يعد هناك أي أثر للقمع اللاهوتي أو الاستبداد السياسي لدينا. وكل واحد يستطيع أن يقول ما يشاء ويعبر عن رأيه صراحة دون خوف ليس فقط من السلطة ورجال الأمن وإنما أيضا من المشائخ والأفكار التراثية المسيطرة منذ مئات السنين كحقائق مطلقة لا تناقش ولا تمس. كل منجزات الحداثة العلمية والفلسفية والسياسية واللاهوتية أصبحت وراء ظهرنا تماما كما حصل بالنسبة لفرنسا وألمانيا وانكلترا.. وما حدا أحسن من حدا. لم يعد هناك أي أثر للاستبداد السياسي ولا للظلامية الدينية لا في مصر ولا في سوريا ولا في ليبيا ولا في السعودية ولا في أي مكان من العالم العربي والإسلامي من إيران إلى الباكستان إلى أفغانستان والطالبان. . العالم الإسلامي مستنير مثل أوروبا سواء بسواء وربما أكثر. من قال بأن أوروبا متقدمة علينا؟ من قال أصلا بأنه يوجد شيء اسمه تقدم في التاريخ؟ ألم ترحنا فلسفة ما بعد الحداثة من هذه الخزعبلات الأسطورية. ألم يقل لنا العدميون بأن التقدم فكرة وهمية أو نسبية وأن التأخر أفضل من التقدم؟ أو قل كل شيء سواء بسواء، لا أحد متقدم ولا أحد متخلف.. كل ما في الأمر هو ان هناك اختلاف. اغرقوا في فلسفة الاختلاف إذن واشبعوا.. حق الاختلاف وارد. ألا تؤمنون بحق الاختلاف؟ ليسوا متقدمين علينا ولسنا متقدمين عليهم. نحن في خطوط متوازية لا تتقاطع في أي شيء ولا ينبغي أن تتقاطع. هم غرب ونحن شرق. هم من جنس شيطاني ونحن من جنس ملائكي. نحن مختلفون عنهم، وهم مختلفون عنا. هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا اقل. حتى ليفي ستروس صاحب هذه النظرية النسبية أو بالأحرى النسبوية تراجع عنها وعن حماقاتها واعترف للثقافة الغربية بتحقيق تقدم سياسي أو نضج عقلاني لم يحصل في الثقافات الأخرى حتى الآن. وحتى بول ريكور الذي لا يستطيع أحد اتهامه بالغطرسة العنصرية قال بأنه زار كل المناطق الحضارية في العالم من الصين إلى الهند إلى اليابان إلى روسيا إلى العالم العربي الإسلامي ولكنه لم يجد أي ثقافة تقبل بحرية الفكر والنقد وتتمتع بديناميكية لافتة وطاقة إبداعية هائلة مثل الثقافة الأوروبية. حتى المقدسات مسموح بنقدها هنا وتمحيصها دون أن تخشى على حالك.
ولكن إذا ما كابرنا فإننا سنتوهم ما يلي: بما أن بعضنا اطلع على نظرية ما بعد الحداثة وفهم منها ما فهم فانه اعتقد جازما بأنه ليس فقط القرون الوسطى اللاهوتية أصبحت خلفنا، وإنما أيضا قرون الحداثة كلها من القرن السادس عشر وحتى العشرين. كلها استوعبناها وتجاوزناها في مصر والسعودية وليبيا الخ. وكفى الله المؤمنين شر القتال. من قال بأننا لم نستوعب فلسفة ديكارت وكانط وهيغل ونيتشه وحتى فوكو وهابرماس؟ انظروا برامج التعليم عندنا. إنها مليئة بالنظريات العلمية والفلسفية والحريات الفكرية. وطلابنا هضموا كل شيء مثل طلاب ألمانيا وهولندا. من قال بأننا لم نستوعب الثورة العلمية الأولى والثانية والثالثة بدءا من كوبرنيكوس وغاليليو وحتى أنشتاين ونيلز بور وهايزنبرغ والميكانيك الكمي والموجي ونظرية النسبية مرورا بنيوتن ونظرية الميكانيك الكلاسيكي؟ من قال بأننا لم نهضم كل الثورات الدينية بدءا من الإصلاح الديني اللوثري في القرن السادس عشر، فمرحلة التنوير الديني للقرن الثامن عشر، فمرحلة اللاهوت الليبرالي للقرن التاسع عشر كما فعلت المسيحية الأوروبية وليس الشرقية؟ من قال بأننا لم نهضم لاهوت الحداثة وما بعد الحداثة؟ من قال بأننا لم نتجاوز بعد لاهوت القرون الوسطى وفقهها القديم الذي لا يزال يقسم الناس حتى الآن إلى مسلم/غير مسلم، مؤمن/كافر، دار سلم/دار حرب، دين حق/أديان باطلة او محرفة او مزورة، فرقة ناجية في الجنة/فرق ضالة في النار، طاهر/نجس، الخ؟ كل هذه الثورات العلمية والفلسفية واللاهوتية استوعبتها الثقافة العربية وتجاوزتها وأصبحت مغروسة فيها وممتصة تماما من قبلها كما فعلت الثقافة الألمانية أو الفكر الانغلوسكسوني!.. انظروا إلى الفضائيات وكيف يتحدثون عن الدين: أليس هذا عين العقل ونور النور؟ والتراث الإسلامي ألم يتعرض للدراسة النقدية التاريخية كما حصل للتراث المسيحي في أوروبا؟ ألم يشبع غربلة وتمحيصا وتنويرا من الداخل؟ يا أخي قلنا لكم "ما حدا أحسن من حدا". ولا يوجد شيء اسمه تقدم أو تأخر في التاريخ. لحسن الحظ فقد قضت نظرية ما بعد الحداثة على فكرة التقدم المتخلفة من أساسها وأراحتنا منها ومن تبعاتها وهمّ المرور فيها. وهكذا حلت كل مشاكلنا دفعة واحدة عن طريق القفز عليها أو تمييعها أو إنكار وجودها.
أعتذر عن هذه التساؤلات التهكمية والاستنكارية المتتالية. ولكني مضطر إليها لتوضيح الإشكالية إلى أقصى حد ممكن. ينبغي العلم بأن هناك فجوة رهيبة تفصل بيننا وبينهم ليس فقط على الصعيدين العلمي والفلسفي وإنما أيضا على الصعيد اللاهوتي: أي صعيد التفسير الحديث للدين. نحن متأخرون دينيا عن أوروبا وليس فقط علميا أو تكنولوجيا. قارن بين علمائهم وعلمائنا، رجال دينهم ورجال ديننا. هانز كونغ هضم حتى نظرية توماس كون الابيستمولوجية عن البارديغمات(أي النماذج المعرفية العليا أو النظريات العلمية الكبرى المتعاقبة وراء بعضها البعض عبر العصور). وطبقها بشكل ذكي ومقنع على اللاهوت المسيحي منذ بداياته الأولى وحتى اليوم فأضاءه بشكل ممتاز. لاحظ معي : رجل دين مطلع على أحدث النظريات الابيستمولوجية! فما بالك بالفلاسفة العلمانيين؟ هل سمع بها شيوخنا الأفاضل مع احترامنا لهم وللجهود التي يبذلونها أحيانا من أجل التطور الفقهي؟ هل يعرفون كيف يطبقونها على تراثنا الإسلامي؟ هو طبقها عليه نيابة عنهم في كتابه الضخم عن الإسلام الذي ترجم إلى الانكليزية ولكن للأسف لم يترجم بعد إلى الفرنسية ولا إلى العربية.
هذا من جهة. أما من جهة أخرى فإنه ينبغي العلم بأن فلسفة ما بعد الحداثة في مفهومها الايجابي وغير العدمي لا تعني إلغاء الحداثة أو الشطب عليها وعلى منجزاتها الكبرى وإنما تعني تكملتها وتصحيح نواقصها وانحرافاتها. حتى ميشيل فوكو، أحد رواد ما بعد الحداثة، عاد إلى حظيرة التنوير في أواخر أيامه عندما ألقى درسه الكبير عن كانط ونصه الشهير: ما هو التنوير؟ وفاجأ بذلك هابرماس وأثلج صدره. حتى جاك دريدا اعترف بايجابيات التنوير رغم كل انتقاداته له أو بالأحرى لانحراف الأوروبيين عنه واستغلاله بشكل انتهازي. كما اعترف بضرورة المرور بالمرحلة التنويرية بالنسبة للشعوب الأخرى غير الأوروبية ومن بينها شعوبنا العربية والإسلامية. فنقد نواقص الحداثة والتنوير لا يعني الشطب عليهما أو الرغبة في العودة إلى القرون الوسطى! ثم لكي تنتقد شيئا ما أو تتجاوزه ينبغي أولا أن تكون قد مررت به أو تعرفت عليه على الأقل. كيف يمكن أن تتجاوز شيئا غير موجود؟ ينبغي أن تكون قد شبعت منه حتى الملل. ينبغي أن يكون قد تحول إلى تراث راسخ بل وقمعي لكي تشعر بالحاجة إلى نقده وتفكيكه والتحرر منه. هل الحداثة العلمانية الديمقراطية هي التي تقمعنا في العالم الإسلامي حاليا ام اللاهوت التكفيري الأصولي والاستبداد السياسي البوليسي؟ وما هو حجم تواجدها ، هذه الفلسفة العلمانية والإنسانية، في الشارع العربي الإسلامي؟ إنها بالكاد تستطيع أن تطل برأسها. لذلك قلت بأن مناقشات المثقفين العرب حول نظرية ما بعد الحداثة تبدو لي سريالية : أي تجريدية لا تستند على أي مرتكز في الواقع العربي أو الإسلامي. إنها مناقشات بيزنطية مجانية. أما عندما ينتقد فوكو نظام الحداثة ومحاولة تدجينه للأفراد أجسادا وأرواحا عن طريق المراقبة الصارمة لكل حركاتهم وسكناتهم دون أن يدروا فإن لكلامه معنى. إن له حقيقة واقعة ملموسة على أرضية المجتمع الفرنسي والأوروبي بشكل عام. انه لا يتحدث عن فراغ أو في فراغ. . وقل الأمر ذاته عن انتقادات آلان تورين لانسدادات الحداثة ومآزقها. فالحداثة تحولت إلى تراث وتراكمات في الغرب بعد مائتي سنة من انتصارها وترسخها. وبالتالي فقد أصبحت بحاجة الى نقد ومراجعة وغربلة. لا معنى لأن تنتقد الأصولية المسيحية في فرنسا حاليا لأنها انتهت منذ زمن طويل ولم يعد لها أي وجود سياسي أو فكري ضاغط. أما الحداثة العلمانية أو بالأحرى العلمانوية أي المتطرفة علمانيا وإلحاديا وشهوانيا فيحق لك أن تنتقدها وتصححها قليلا لأنها مهيمنة كليا على الساحة. هذا في حين أن الوضع في العالم العربي أو الإسلامي معكوس كليا.
ثم من قال بأننا سنتحول إلى نسخة طبق الأصل عن حضارة الغرب إذا ما تعرفنا عليها بكل مراحلها المتدرجة والمتلاحقة منذ أربعة قرون وحتى اليوم؟ هذا غير مستحب على الإطلاق ولن يحصل لسبب بسيط:هو أن العرب قدموا أحد الأديان الكبرى للبشرية وأبدعوا سابقا واحدة من أعظم الحضارات على وجه الأرض. وبالتالي فهم ذوو شخصية تاريخية قوية وعريقة. واعتزازهم بأنفسهم يمنعهم من الذوبان في الحضارات الأخرى أيا تكن. مثلا هناك بلدان افريقية وغير افريقية عديدة تخلت عن لغاتها الأصلية وتبنت لغات الغرب كالانكليزية والفرنسية، هذا في حين أن العرب رفضوا رفضا قاطعا التخلي عن لغتهم التي تحتوي كنوزهم التراثية الضخمة. والفرنسيون يعرفون ذلك جيدا ويخشون العرب كمنافس محتمل. أذكر أني فتحت التلفزيون الفرنسي بالصدفة في إحدى المرات على برنامج سياسي فإذا بهم يجرون مقابلة مع بيير مسمير وزير دفاع الجنرال ديغول وأحد أبطال فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية. وكم فوجئت وسعدت عندما سمعته يقول لهم ما يلي:لقد انتشرت لغتنا في إفريقيا وأماكن أخرى من العالم أيام الإمبراطورية وقضت على اللغات المحلية ما عدا عند العرب على الرغم من أننا استعمرناهم مثل غيرهم. والسبب هو أن اللغة العربية جميلة وغنية جدا وذات تراث كبير. وبالتالي فلا يمكن لأي لغة أخرى أن تحل محلها في عقر دارها. .
أيا يكن من أمر فلا أحد يدعو إلى فتح النوافذ والأبواب على كل ما هب ودب بدون أي كابح أو ضابط. وإنما تلزمنا معايرة متوازنة من الانغلاق والانفتاح. فالحضارة، أي حضارة، لكي تحمي نفسها ينبغي أن تنغلق على خصوصيتها التاريخية قليلا. ولكن لكيلا تتكلس وتتحجر فانه ينبغي عليها أن تنفتح على الحضارات الأخرى وبخاصة تلك المتقدمة والديناميكية منها. وهكذا ما بين الانفتاح والانغلاق، الواعي والمحسوب جيدا، يشق العرب طريقهم نحو المستقبل.
بالطبع ينبغي علينا، نحن المثقفين العرب، أن نطلع على كل النظريات الفكرية بما فيها نظرية ما بعد الحداثة لإشباع فضولنا المعرفي ولمسايرة التطور. ولكن محاولة القفز على الحداثة باسم مرحلة ما بعد الحداثة، أو القفز على التنوير بحجة أن أوروبا تجاوزته، يعني بكل بساطة حرمان مجتمعاتنا العربية الإسلامية من خوض معركتها الخاصة مع ذاتها والتوصل إلى التنوير والحداثة بقواها الذاتية. (مما يعني ان التنوير العربي الإسلامي لن يكون نسخة طبق الأصل عن التنوير الأوروبي. فنحن حتى الآن لا نعرف كيف سيكون شكله أو وجهه بالضبط). والأنكى من ذلك هو أن هؤلاء "المحافظين الجدد" يريدون منع تفكيك اللاهوت القديم باسم:ما بعد الحداثة!وهكذا يضربون الحداثة باسم الحداثة، وليس باسم الفكر التراثي القديم المكشوف أكثر من اللزوم والذي لا يستطيعون تبنيه صراحة. ولكنهم يفعلون المستحيل لكيلا يقترب أحد منه أو يسائله مجرد مساءلة. يحصل ذلك في الوقت الذي توشك فيه كل المجتمعات العربية والإسلامية على الانفجار ليس فقط بسبب الاستبداد السياسي للأنظمة البوليسية القائمة، وإنما أيضا بسبب الظلامية الدينية لمعارضاتها الأصولية المتخلفة. لقد أشبعت المجتمعات الغربية حداثة وتحديثا حتى ملت منهما. بل وحصلت تطرفات حداثوية وانزلاقات تستحق النقد والتفكيك. فهل هذه هي حالة مجتمعاتنا؟ نحن نعاني من تطرفات تراثية بالأحرى أو من قشور الحداثة السطحية لا من جوهرها الحقيقي. نحن لا نعرف جوهر الحداثة حتى الآن. ويبدو أننا لا نريد أن نعرف. وهذا هو الأخطر.
هناك عدوان للحداثة في الغرب يقفان على طرفي نقيض : الأول يميني متطرف. والثاني يساري متطرف. ويمكن أن نضيف إليهما تيارا ثالثا : هو الفوضوي العدمي الذي لا يستطيع أن يؤمن بأي شيء.
الأول يشمل كل التيارات المحافظة المتدينة او غير المتدينة التي لم تغفر للثورة الفرنسية أنها قضت على العهد القديم. كما ولم تغفر للتنوير الفلسفي الذي سبقها ومهد لها الطريق انه قضى على اللاهوت المسيحي القروسطي أو حجمه على الأقل : أي قلم أظافره السياسية والطائفية. ولذلك فهي تعتبر التنوير رجسا من عمل الشيطان. إنها تعتبره ملحدا أو كافرا أو مضادا لنزعة الاستعلاء العرقية الأوروبية بسبب مبادئه الكونية ودعوته للمساواة بين البشر. اكبر مثال على هذه التيارات بقايا حركات اليمين المتطرف في المجتمعات الأوروبية. وبصراحة كل المحافظين العرب والتيارات الأصولية المتزمتة يمكن إدراجها ضمن هذه الخانة. فهي أيضا تكره الحداثة لأسباب مشابهة.
وأما الثاني، أي اليساري المتطرف، فيتهم الحداثة بأنها بورجوازية أكثر من اللزوم، وان ديمقراطيتها وحقوق الإنسان التي تتبجح بها شكلانية، صورية، فارغة، كما يقول الماركسيون ومعهم بعض الحق. ولكن هناك اتجاه ثالث يكره الحداثة الديمقراطية من منطلقات أخرى : عنيت به تيار النيتشويين اللاعقلانيين إن لم نقل الفوضويين العدميين. ومعلوم أن نيتشه، على عبقريته، مضاد لديكارت وكانط وهيغل وكل الفلسفة العقلانية والديمقراطية الحديثة. انه أرستقراطي نخبوي لا شعبي ديمقراطي. ولهذا السبب زاره هتلر في منزله التاريخي وانحنى أمام تمثاله وأخذ تلك الصورة الشهيرة معه. أقول ذلك على الرغم من عبقرية نيتشه الشعرية والفكرية وأهميته على أصعدة أخرى. وبالتالي فأول فيلسوف لما بعد الحداثة هو نيتشه في الواقع وليس فوكو أو دريدا أو ديلوز أو حتى جان فرانسوا ليوتار أول مبلور لمصطلح ما بعد الحداثة في الساحة الفرنسية عام 1979. ومع ذلك فان فوكو النيتشوي ودريدا الهيدغري تراجعا عن هذا التطرف في مرحلتهما الثانية كما ذكرنا. فبعد ان شبعا من التعرية الاركيولوجية للحداثة ومن تفكيك عرقيتها المركزية الأوروبية اعترفا بايجابياتها لان نظام دولة القانون أفضل من نظام الاستبداد والاعتباط، ولأن الديمقراطية الغربية على علاتها أفضل نظام سياسي حتى الآن. . من الأفضل أن تكون هناك معارضة وسلطة وتناوب شرعي وسلمي على السلطة وتنافس بين المعارضة والسلطة على خدمة المصلحة العليا للبلاد على أن تكون هناك سلطة واحدة أحادية غير شفافة بالمرة ولا أحد يعرف ماذا تفعل. . هذا نضج سياسي أين نحن منه الآن؟ نرجو أن تكون تونس سائرة صوبه في تجربتها المدهشة الجارية حاليا. وعلى أي حال فهي درس للجميع. ولكنه طريق طويل، صعب، متعرج، محفوف بالمخاطر. فالشفافية أو الديمقراطية لا تتحقق بين عشية وضحاها. وثمنها غال جدا عادة. والشعب التونسي ابتدأ يدفع الثمن بالنيابة عنا جميعا.
نعم هناك تقدم وتأخر في التاريخ، وهناك صح وخطأ. ولولا ذلك لسقط النظام الغربي ولم يسقط النظام الشيوعي بعد حرب باردة وساخنة استمرت نصف قرن تقريبا. وبالتالي رجاء لا تضحوا بالحداثة التنويرية ولا بإنجازاتها الأكثر فائدة ورسوخا. إنها تشكل حاجة ماسة بالنسبة لكل المجتمعات العربية والإسلامية. وأصلا أفضل ما أعطته أوروبا لا نعرفه جيدا حتى الآن. لا نكاد نعرف من حضارتها إلا المظاهر البراقة والقشور الفارغة والصرعات العابرة والإفرازات المنحرفة والمنحطة. أما جوهر المشروع التنويري الديمقراطي الأوروبي فلا أحد يتساءل عن كيفية تشكله وكم كلف من ثمن وتضحيات. لا أحد يتساءل عن حجم الصراع الضاري الذي خاضته أوروبا ضد ذاتها لكي تنتصر على ذاتها وتولد من جديد. الولادة الجديدة لا تأتي هكذا بسهولة وإنما بعد مخاضات عسيرة فعلا. إني معجب بذلك الصراع الجدلي الخلاق الذي خاضه العقل الفلسفي مع العقل اللاهوتي المسيحي في أوروبا على مدار أربعة قرون متواصلة وشكل بذلك ملحمة الحداثة التحريرية للشرط البشري. إنها مغامرة من اكبر المغامرات في تاريخ الفكر الإنساني إن لم تكن أكبرها. وقد استفاد العقل اللاهوتي المسيحي منها مثلما استفاد العقل الفلسفي سواء بسواء. فالهدف ليس القضاء على الدين كما يتوهم بعضهم وإنما تعميق فهمه إلى أقصى حد ممكن. وأصلا عظمة الدين لا تظهر إلا بعد وضعه على محك النقد التاريخي والفلسفي الصارم. والتراث الإسلامي الكبير لا يزال محروما من الآثار النافعة لهذه التفاعلات النقدية الكبرى. ففهمنا للدين يغتني كثيرا إذا ما سلطنا عليه أضواء أحدث النظريات العلمية والفلسفية. هذا ما نحاول أن نمسك به هنا من خلال استعراض صعود العقلانية ومعركتها البطولية مع العقيدة اللاهوتية المسيحية للقرون الوسطى. هذه المعركة مع الذات التراثية العميقة خاضها بأشكال مختلفة معظم فلاسفة أوروبا الكبار إن لم يكن كلهم. حتى الملحد هابرماس أخذ يهتم مؤخرا بالدين ويعترف له ببعض الفوائد للمجتمع الصناعي المغرق في الماديات والنزعات الفردية المتطرفة والأنانيات. . المقصود بالطبع الدين كقيم أخلاقية وروحانية عليا، وليس كطقوس شكلانية أو كأيديولوجيات تكفيرية مفرغة من كل روحانية أو نزعة إنسانية. وبالتالي فاستخدام ما بعد الحداثة من أجل التعتيم على المشكلة الأساسية، أو من أجل تحاشي خوض هذه المعركة الصعبة والخصبة مع الذات التراثية، يعني بكل بساطة دفن الرؤوس في الرمال كالنعامات أو تأجيل الحل إلى أجل غير مسمى. نعم لما بعد الحداثة بشرط واحد : هو أن تكون الحداثة التحريرية قد تحققت على ارض الواقع بالفعل وانتصرت على الأصولية والاستبداد السياسي : أي أن تكون فلسفة حقوق الإنسان والمواطن قد حلت محل الشريعة التقليدية والفقه القديم وايديولوجيا الحزب الواحد والقائد الأوحد. ثم بشرط أن تكون ما بعد الحداثة تكملة للحداثة وتصحيحا لنواقصها وانحرافاتها لا ارتدادا عليها وتنكرا لأفضل انجازاتها
المراجع
alawan.org
التصانيف
تاريخ أحداث