العالم يبتعد باطّراد عن المشاعر؛ هذا الرأي يكاد ألا يكون مقتصراً على بعض الرومانسيين، أو فلولهم ربّما، بل لعلّه يختصر التذمّر الدائم لدى الكثيرين من أنّ العالم يُحِلُّ العقل مكان الأحاسيس، ويُحلّ المنفعة المباشرة السريعة مكان الرؤية الجماليّة لكوكب الأرض. وبموجب هذا الرأي فإنّ إنسان الحضارة المعاصرة قد استلبته التقنية، وباتت علاقته بالعيش أكثر تعقيداً وأقلّ حساسيّة. ومع أنّ عدد المتذمّرين ممّا هو عليه الحال يزداد أحياناً إلا أنّ الحديث عن نزوع رومانسيّ قويّ ليس وارداً الآن، كما أنّ الحديث المتزايد عن ضرورة الاعتراف بالأحاسيس، كطريقة لمعرفة العالم لا تنفي العقل ولا ينفيها، لم يتأصّل في الثقافة السائدة، في حين تتّجه العلاقة مع الطبيعة لأن تصبح أكثر تنظيماً وتقنيناً وتسييساً عبر ما يُعرف بجمعيّات حماية البيئة أو حركات الخضر في الغرب.
لا ريب في أنّ الحركات البيئيّة تقدّم رؤية متطوّرة عمّا تملكه الاحتكارات الصناعيّة الكبرى التي تبتغي الربح فقط، وهي إذ تضع الاستهلاك العشوائيّ والتقنية العمياء محلّ النقد الشديد فإنّها استطاعت خلق وعي جماعيّ يحرص على مستقبل الأرض بدلاً من استنزافه الآن. إنّ سعي هذه الحركات، في البلدان الأكثر تصنيعاً واستهلاكاً، إلى ترشيد التعامل مع الطبيعة، بواسطة سنّ تشريعات مُلزمة، يُعدّ تقدّماً لافتاً وضروريّاً على المستوى الكلّي، لكنّ انعكاسه على المستوى الفرديّ بقي محدوداً، وحتّى أسير الاستغلال التجاريّ المباشر. وصحيح أيضاً أنّ الوقت ذاته يشهد توجّهات نحو الأغذية غير المعالجة كيماوياً أو غير المعدّلة وراثيّاً، إلا أنّ هذا النمط الاستهلاكيّ الجديد يخضع لميكانيزم نمط الاستهلاك السائد بما في ذلك أساليب التسويق المعهودة، فضلاً عن أنّه نمط أعلى كلفة ويتناسب فقط مع شريحة محدودة من المستهلكين، بالإضافة إلى قدرته الضئيلة على المنافسة لأسباب تتعلّق بالقدرة الكمّيّة على الإنتاج. وفي الواقع بوسعنا ردّ التوجّه الأخير إلى ازدياد الوعي الصحّيّ، دون إهمال ما يشعر به هذا النمط من المستهلكين بامتنان للطبيعة يبقى في مستوى العلاقة النفعيّة المباشرة، ولا يرقى إلى مستوى التواصل الجادّ والفعّال معها.
ليست فكرة المنفعة بالشرّ طبعاً، فما يجب أن يوضع تحت الملاحظة والنقد هي المنفعة بمعناها السطحيّ المباشر، والتي اقتضت تخريب التوازن البيئيّ لصالح مكتسبات أنانيّة سريعة، الأمر الذي حجب نوعيّة المصالح العميقة والمديدة التي تربط الإنسان بالطبيعة. إنّ سيطرة الإنسان على الطبيعة تحوّلت إلى غاية بحدّ ذاتها، وأحياناً بصرف النظر عمّا يجنيه من ذلك، وقد أصبحت صورة "قاهر الطبيعة" في وقت من الأوقات هي الصيغة المثلى لإنسان العصر التقنيّ، وكأنّ إخضاعها ليس سوى محكّ لقوّته اللامتناهية، في غياب أو تغييب للثمن الذي يُدفع من احتياطيّ الطبيعة، والذي يُدفع أيضاً من الاحتمالات الأغنى للنفس البشرية. لقد انتقل الإنسان من الخوف من الطبيعة والخضوع لها إلى محاولة إخضاعها بالمطلق على غرار ثنائيّة السيطرة والخضوع التي تتحكّم بنسبة كبيرة من العلاقات الإنسانيّة، ومثلما تمنع هذه الثنائيّة الاحتمالات الأفضل للتكامل في العلاقات الإنسانيّة فهي تحجب آفاق العلاقة التكامليّة مع العالم بمجمله، وإذ يبدو الإنسان رابحاً كمستثمر آنيّ فهو لا يفكّر جيّداً فيما يخسره، لا على صعيد مستقبل الأجيال القادمة وحسب وإنّما على صعيد ذلك الجزء من حواسّه الذي يقضي عليه بالبقاء معطّلاً.
ليس العالم منظراً طبيعيّاً نكتفي برؤيته من النافذة أو على شاشة التلفزيون فنستمتع بجماله؛ هذه متعة صغيرة ولا بأس بها لكنّها لا تختزل متع الحواسّ جميعاً، كما لا يمكن اختزال مشهد طبيعيّ بكونه جميلاً أو غير جميل من وجهة نظرنا لأنّ العلاقة مع الطبيعة لا تُختبر فقط ضمن المنفعة الجماليّة بمفهومها السائد. على سبيل المثال؛ إنّ سقاية نبتة والعناية بها تتطلّبان جهداً قد لا تقابله منفعة جماليّة توازيه، غير أنّ هذه العناية، بما تعنيه من تواصل مستمرّ مع النبتة، تترك أثراً في الحواسّ يفوق ما يتحصّل من الإطلالة على منظر جميل. ثمّة مستوى من التواصل نقيمه مع الكائنات الأخرى يختلف عن طبيعة التواصل بين البشر، وهذا التواصل قائم على تفعيل الحواسّ لالتقاط الإشارات التي ترسلها الكائنات الأخرى بخلاف التواصل المعتاد بين البشر والقائم بمعظمه على العقل اللغويّ، وإذا كان التواصل الأخير محصّلة مسيرة طويلة من التجريد فالتواصل ما دون اللغويّ يقتضي استرجاع حدّ من "البدائيّة" يستعيد فيه الفرد قدرته على فهم الدلالة بدل الوقوع المستمرّ في أسر المعنى القاطع.
الفصام مع الطبيعة هو واحد من الأزمات التي يعيشها إنسان المدن المعاصرة دون أن يأخذ حقّه الكافي من الانتباه والدراسة، ويصنّف عالم النفس إريك فروم هذا الفصام من بين الفصامات المولّدة للعنف، لأنّ التجريد التقنيّ يقلّل من الحساسيّة تجاه العالم ككلّ متضمنة الحساسيّة تجاه البشر، وكلّما ابتعد الإنسان عن "ملامسة" العالم بات أكثر استهتاراً به وأقلّ إدراكاً لحواسّه، بل بات أقرب إلى ممارسة أنواع مختلفة من العنف دون إحساس عالٍ بما يقترفه حتّى إن أدرك ذلك على نحو عقليّ. وإذا كانت مقولة إريك فروم مستخلصة من المجتمعات ذات التقنيّة العالية فإنّ المجتمعات العربيّة ليست بحال أحسن، بل تكاد المدن العربيّة المعاصرة أن تكون النموذج الأسوأ للفصام مع الطبيعة، على الرغم من كونها لم تبتعد كثيراً عن المرحلة الزراعيّة بعد. لكنّ الاعتبارات التي تحكم الفصام مع الطبيعة هنا تختلف عن مثيلتها الغربيّة، وتتخلّف عنها أيضاً، مع أنّ الفرصة ما تزال سانحة لئلا تتكرّر الأخطاء التي مرّ بها الغرب إذا تمّ تحاشي الأخطاء التي وقعت هناك، وهذا مناط بوعي يتجاوز النظرة الريعيّة السائدة حتّى الآن، والتي تبتعد عن أيّ حسّ جماليّ أو تنظر إليه كترف هي بغنى عنه.
تتجلّى المفارقة في المجتمعات العربيّة في أنّها تحاول التخلّص من إرثها الريفيّ بادّعاءات مدينيّة لا تمتّ بصلة إلى المستوى الصناعي أو التقنيّ المتواضع الذي بلغتْه، فيتنكّر الكثير من ذوي الأصول الريفيّة لمنبتهم، وعلى نحو واعٍ أو لاواعٍ يشعر الكثير منهم بالخزي بسبب هذا المنبت ما يدفع إلى المغالاة في تبنّي مدنيّة مشوَّهة، بحيث نرى المدن العربيّة في غالبيّتها وكأنّها على عداء مستحكم مع الطبيعة. ولا يكفي الفقر وحده لتبرير الاكتظاظ الإسمنتيّ الذي نراه فيها، لأنّ الأمر لا يقتصر على أحزمة الفقر بل يتعدّاها إلى المستوى الكلّيّ الذي يتعلّق بتخطيط المدن، فتبدو كأنّها تجمّعات سكّانيّة منسلخة عن محيطها وبيئتها، والأمر لا يتعلّق هنا بالسويّة التقنيّة أو الخدميّة التي وصلتها بقدر ما يشير إلى تضاؤل الفسحة الممنوحة لغير البشر، مع تضاؤل مماثل في متوسّط حصّة الفرد من المساحة الكلّيّة.
يظهر عداء أبناء المدن العربيّة تجاه ماضيهم الريفيّ من خلال الانقطاع عن الكائنات الأخرى التي ميّزت دائماً حياة الريف، إذ يأنف هؤلاء من تربية الحيوانات الأليفة (قطط، كلاب،…..)، وقد كانت النظرة اليساريّة ملائمة تماماً لينظر مثقّفو هذه الشريحة إلى تربية الحيوانات في المدينة على أنّها نزعة بورجوازيّة مستوردة من الغرب الرأسماليّ، دون أن ننسى الإرث الدينيّ الذي يرى في الحيوانات كائنات دنيا نجسة. هكذا تخلو الحياة المدينيّة من التنوع الحيويّ باستثناء الكائنات التي تغزو البيوت لأسباب تتعلّق بقلّة النظافة أو سوء الخدمات، مثل القوارض والحشرات، ومن المعلوم أن العلاقة معها تأخذ طابعاً عدائيّاً لما تسبّبه من أذى، وإذا وضعنا إبادة هذه الكائنات بمثابة العنف المشروع فإنّ المقارنة تبدو جليّة مع التسامح الذي يشوب العلاقة خارج المدينة؛ على سبيل المثال يندر حينها أن يطارد أحد فأرة ليقتلها، بل إنّ وجود مثل هذه الكائنات في الفضاء الطبيعيّ هو من البديهيّات التي لا يتوقّف أحد عندها.
في الواقع بوسعنا القول إنّ أجيالاً نشأت، أو ما تزال تنشأ، ضمن ثقافة عربيّة تتجاهل فيما تتجاهله رؤيةَ الكائن الإنسانيّ كجزء من كلٍّ يتكامل معه، وإذا كان مفهوم التشاركيّة ما يزال غائباً على نحو مجتمعيّ عامّ فهذا مؤشّر على غياب الإقرار بالتعدّد والاختلاف، ومن ثمّ الانعزال أو إقصاء كلّ ما هو خارج الذات. قد لا يكون الفصام مع الطبيعة استثناء ضمن الشرط الثقافيّ الراهن، لكنّ المشكلة الأعمق هي في ندرة الانتباه إليه وإلى ما يخلّفه من آثار نفسيّة مديدة، خاصّة لدى شريحة ناشئة بدأت تكرّس الجزء الأعظم من حوّاسها للتفاعل مع العالم الافتراضيّ، أو تقتصر مساحات لعبها على الألعاب الألكترونيّة. لقد أمعن البشر في تخريب التوازن الطبيعيّ إلى الحدّ الذي يهدّد التوازن النفسيّ لهم، وفيما عدا المصالح البيئيّة الجماعيّة فإنّ وعي ما حصل سيكون ضروريّاً ليستعيد كلّ فرد ذلك الجزء المهمَّش من حواسّه، والذي بدونه سيحسّ بفرديّته لكنّه لن يعي فردانيّته.
المراجع
alawan.org
التصانيف
ثقافة العلوم الاجتماعية مقالة