"إلى خلدون النبواني"
أمثولتان يعرفهما الكثير منّا: النملة التي تكدّ طوال فصل الصيف فتجمع غلّة تكفيها مؤونة للشتاء، بينما الصرصار اللاهي العابث يضيع وقته فيداهمه الشتاء ليجد نفسه جائعاً بلا مؤونة، ويأتي ليتوسّل غذاءه من النملة التي تقرّعه على تقاعسه ولهوه وتردّه خائباً. الأمر مشابه لما يحدث في سباق يتفق عليه الأرنب والسلحفاة؛ فالأرنب ينظر باستخفاف إلى السلحفاة التي تتخلّف عنه طويلاً، ويقرّر أخذ غفوة على العشب، ثمّ لا يستيقظ إلا والسلحفاة الدؤوبة على خطّ النهاية.
تتوافر المرويّتان السابقتان على العناصر الأصيلة للأمثولة، بما فيها البساطة التي قد توحي بالسذاجة، فتغري هذه البساطة بأخذ كلّ مرويّة منهما على محمل الإرشاد المباشر الذي يتوجّه إلى الصغار، ظنّاً ممّن يرويها أنّها تناسب تلك العقول "الصغيرة" التي لا تتقن التحليل والتركيب. وإذا تمّ اختزال الأمثولة على أنّها قصّة إرشاديّة قديمة تدعو إلى العمل والكدّ، وتعطي القيمة الأعلى لهما على حساب الراحة واللهو، فإنّ اتخاذ موقف من الخلاصة النهائيّة لن يبدو عسيراً، حتّى إن كان منافياً للثقافة السائدة التي تغلِّب الدأب على اللهو أو على الاسترخاء. إلا أنّ البساطة، وحدها، لا تكفي لتبرير شيوع بعض السرديّات القديمة ومن ثمّ استمرارها، ولعلّ في استمراريّتها ما يدفع إلى تقصّي الأفق التأويليّ الذي يضمن بقاءها، وإن تكن التأويلات متناقضة، لأنّنا على الأقلّ سننأى عن الخلاصات الجاهزة من نوع الحكمة المدرسيّة "من جدَّ وجد".
الأرنب- الصرصار/ النملة- السلحفاة :
لا تقول لنا أيٌّ من الأمثولتين السابقتين شيئاً عن جنس الحيوانات أو الحشرات التي يتمّ التمثيل بها، لكنّ اللغة العربيّة التي تُسرد بهما تعزّز في وعينا، أو لاوعينا، أنّ الأرنب "كجنس" ذكر والصرصار ذكر بينما تنتمي النملة والسلحفاة إلى الجنس المؤنّث. بل إنّ الاستخدام السائد للّغة، مع ما يكتنفه من حمولة ثقافيّة، يكاد يجعلنا نظنّ، بغير وعي، أن فصيلة كاملة من الحيوانات أو الحشرات تنتمي إلى جنس واحد فقط؛ فالأرجح ألا يذهب تفكيرنا إلى ذَكَر النمل إلا إن خصّصناه، وفيما عدا ذلك فإنّ كلمة "النملة" تأخذ مكان المفرد من فصيلة النمل، والأمر على النقيض فيما يتعلّق بالصرصار لأنّنا لا نذكر أنثى الصرصار إلا قليلاً وعلى وجه التخصيص. قد يختلف الأمر على الصعيد اللغويّ في اللغات الأخرى، فالانكليزيّة مثلاً لا تمييز فيها بين الأنثى والذكر لغير العاقل، ومع ذلك نستطيع استشفاف الرؤية العامّة من خلال الآداب أو الفنون البصريّة، إذ لا يخلو من الدلالة أنّ أفلام الرسوم المتحرّكة تقدّم لنا النملة والسلحفاة بهيئة الأنثى، وتقدّم لنا الأرنب والصرصار على أنّهما ذكران، في أغلب الأحيان.
إنّ إحالة فصيلة من الحيوانات أو الحشرات إلى جنس بعينه لا تنفصل عن النظرة الثقافيّة على وجه الإجمال؛ وفي حالتنا هذه تتمّ نمذجة كلّ من النملة والسلحفاة والأرنب والصرصار بحيث يأخذ كلٌّ منهم نصيباً "أخلاقيّاً" محدّداً، وقد تفاجئنا القسمة إذ تضع الجنس المؤنّث "النملة/السلحفاة" في موقع الدأب والمثابرة، بينما تضع الجنس المذكّر "الأرنب/الصرصار" في موقع الكسل واللهو، مع الانحياز القيَميّ إلى الدأب والمثابرة؛ فتأتي المفاجأة من أنّ الثقافة العامّة ذاتها التي تخفض من قيمة الجنس النسويّ تحتفظ، وإنْ على سبيل المجاز، بتقدير عالٍ لهذا الجنس!.
لكنّنا لن نقفز إلى الاستنتاج السابق دون الأخذ بمستلزماته؛ فلكي تكتمل النمذجة نرى الاختيار وقع على فصيلتين من الحيوانات أو الحشرات يُعتقد أنهما الأفضل تمثيلاً للرسالة التي يُراد إيصالها؛ الأرنب كما هو معلوم أضخم من السلحفاة وأكفأ رشاقةً وسرعةً، أي أنّه يملك الأرجحيّة البيولوجيّة على السلحفاة، وهذا الاستعداد الطبيعيّ، وإن بدا غير كافٍ في النهاية، يتيح له التمتّع بالاستراحة مقارنة بالسلحفاة، على ألا تطول استراحته وتؤدّي إلى النوم أو إلى الغفلة. فخسارة الأرنب للسباق مشروطة بتخلّيه عن إمكانيّاته الطبيعيّة أو تبديدها، بينما خسارة السلحفاة، إن حدثت، فهي نتيجة منطقيّة لإمكانيّاتها الطبيعيّة. وحينما تقول لنا الأمثولة إنّ دأب السلحفاة قد تفوّق على تكاسل الأرنب، أو إنّ مثابرة النملة قد تفوّقت على لهو الصرصار، فإنّها من جانب خفيّ تقصي الجنس المؤنّث "ممثّلاً بالنملة والسلحفاة" عن الراحة واللهو، فيكون التقدير العالي المشار إليه سابقاً مشروطاً؛ فلكي تتمكّن الأنثى من مجاراة الذكر يتحتّم عليها التخلّي عن حقّها بالراحة واللهو، والمكابدة من أجل تعويض النقص الطبيعيّ في قدراتها.
حذار أيّها الذكور!
لا شكّ في أنّ الرسالة المباشرة في الأمثولتين موجّهة إلى من يتقاعس عن أداء عمله أو واجباته، بغضّ النظر عن جنس المتلقّي، لكنّ البنية الجندريّة في كلّ منهما، إن جاز التعبير، قد تضمر إشارات أو رسائل أكثر مكراً ممّا يظهر للوهلة الأولى. وقد لا يكون من المصادفة أنّ التحذير في الحالتين موجّه إلى الذكر اللاهي أو المتقاعس، وربّما تفصح إشارة التحذير عن خشيةٍ من ركون الذكر إلى تفوّقه، وهو تفوّق عضليّ في القصّتين لكنّه قد يدلّ على التفوّق المتعدّد الأبعاد الذي يكتسبه الذكر في الثقافة السائدة. هكذا تبدو التراتبيّة معرّضة للاهتزاز أو الانقلاب بفعل قصر النظر، وكأنّ بالأمثولتين تخدشان، من طرف خفيّ، القسمة الجندريّة المستقرّة، وما يظهر على أنّه مفارقة بفوز النملة والسلحفاة قد يستقرّ على أنّه نتيجة منطقيّة بموجب قسمة جديدة مغايرة.
تمتلك الأنثى الصبر والمثابرة للوصول إلى الهدف؛ هذا ما يمكن استنتاجه من القصّتين السابقتين، وليس بوسعنا عزل هذا الاستنتاج عن مجمل الثقافة السائدة التي تنظر بعين الريبة إلى إمكانيّات الأنثى، وترى بالعين الأخرى قدرتها على تخطّي الشرط الثقافيّ الموضوعة فيه، أو ربّما تحذّر من قدرتها على تجاوز هذا الشرط، أو التحايل عليه. وإذا ما ابتعدنا عن الخطاب التحذيريّ سنرى في فوز النملة والسلحفاة نتيجة تنسجم مع الرؤية العامّة للأنثى، رغم أنّها على صعيد الشكل تبدو على تضادّ مع الرؤية العامّة للذكر القويّ المهيمن، ويجوز لنا الاعتقاد بأنّ الأمثولة ما كانت لتبقى لولا هذا المستوى الذي يؤشّر إلى القسمة الثقافيّة للجنس وإلى تناقضاتها أيضاً.
بعيداً عن التمثيل بعالم الحيوان بوسعنا استحضار رواية معاصرة أصبحت أمثولة بدورها؛ فثلاثيّة نجيب محفوظ التي انتشرت على نطاق واسع، ودخلت إلى عدد كبير من البيوت عبر مسلسل تلفزيونيّ، كرّست نمطيّة الذكر المستبدّ بشخصيّة أحمد عبد الجواد الملقّب بـ"سي السيّد"، حتّى أصبح "سي السيّد" مثلاً لمن لم يقرأ النصّ أيضاً، وتغلّبَ هذا المثل في رسوخه على مجمل الأحداث العامّة التي تتناولها الرواية. يرجع جزء من سطوة سي السيّد إلى شرطه الاقتصاديّ كمعيل للأسرة، وهذا يختلف طبعاً عن موقع الصرصار اللاهي المفلس، لكنّ تآزر الشرط الاقتصاديّ والاجتماعيّ هو ما يجعل زوجته أمينة في موقع المرأة المسحوقة تماماً، والتي لا حيلة لها سوى الصبر وتلبية متطلّباته ومتطلّبات الأسرة بدأب شديد. لكن ما الذي يفعله سي السيّد ذو المكانة التجاريّة المرموقة والبنية الجسديّة المتينة؟
ينصرف سي السيّد إلى اللهو ومعاشرة الراقصات وبنات الليل خفية، وقد يُراد بإبراز هذه الازدواجيّة التدليلُ على الفصامات الاجتماعيّة الموجودة، وقد تقتضي الاعتبارات الفنّيّة إغناءَ الشخصيّة على هذا النحو، إلا أنّ انصراف سي السيّد إلى لهوه سيكون مقتله كرجل كلّيّ السطوة. لا تتخلّى الزوجة أمينة في هذه الأثناء عن صبرها ودأبها المعهودين، وقد تبدو كالسلحفاة في تقدّمها البطيء، لكنّها تتقدّم بدأب دون التعرّض للانكسارات والتصدّعات التي يُصاب بها سي السيّد نتيجة رعونته وطيشه. لن نقول إنّ تقدّم أمينة يقلب المعادلة على سي السيّد، فالأكثر دقّة أنّ الأخير، برعونته وصلفه، سيتقهقر مقارنةً بها. وممّا يعزّز الدلالة، ولا ينفيها، أن الابن البكر هو أوّل من يكشف ازدواجيّة الأب ويخدش صفاء سطوته، فتصبّ معركته مع الأب في صالح الأمّ التي أنجبته؛ أي أنّ صبر الزوجة ودأبها تتعزّز قوّتهما بأمومتها طالما أنّ الصراع الجيليّ هو بين الآباء والأبناء الذكور.
تبيّن الأمثلة السابقة الفوارقَ التي تعمل الثقافة السائدة على تأبيدها، فهي تلاحظ صبر ودأب الأنثى، وقد لا يكون لها في الواقع من حيلة سوى ذلك، وتلاحظ أيضاً نزوع بعض الذكور إلى تبديد مكتسباتهم بموجب الثقافة ذاتها التي تمنحهم إمكانيّة اللهو وتحذّرهم من الإفراط فيه. هذا لا يعني أنّ الإناث بمجملهنّ يتمتّعنّ بميزة السبق على المدى البعيد، لكنّ الشرط الاجتماعيّ الثقافيّ هو الذي يتطلّب منهنّ هذا الدأب لإثبات جدارتهنّ. ولا يعني ذلك أيضاً أنّ الذكور بمجملهم ميّالون إلى التكاسل، بل إنّ الخشية هي من تفريطهم بما تمنحه لهم مكانتهم. أخيراً؛ ليس المقصود بهذا التأويل أخذ الأمثولات السابقة على محمل وحيد، فالبعد القيَميّ قد يكون محايداً، لا مذكّراً ولا مؤنّثاً، إذ تنهى الثقافة الجنسين عن الكسل، لكنّ شكل الخطاب وأدواته قد لا يكونان بالمجّانية التي نظنّها للوهلة الأولى.
المراجع
alawan.org
التصانيف
ثقافة فلسفة العلوم الاجتماعية مقالات