كان هذا الوجود الإسلامي في صقلية مثيرا وغريبا في مبتدئه ومنتهاه، وقد استمر ما يزيد على القرنين بقليل، استطاع المسلمون فوق الاستيطان والتعمير إقامة حضارة، وإبقاء إرث لا يزال شاهدا على وجودهم إلى يومنا هذا من خلال عدة شواهد وبعد ألف عام على رحيلهم. فلماذا دخل المسلمون جزيرة صقلية؟ وكيف واجهوا القوة البيزنطية الجبارة التي كانت تسيطر على البحر المتوسط وجُزره حينذاك؟ وما أهم آثارهم وشواهد وجودهم في هذه الجزيرة البركانية الغنّاء؟

 

إنشاء الأساطيل.. أول الغيث

ما اكتملت شمس القرن الأول الهجري إلا وقد فتح المسلمون كامل بلاد شمال أفريقيا والأندلس، فضلا عن الشام ومصر، وأصبحت المواجهة الإسلامية البيزنطية أقوى من ذي قبل، فقد تقهقر الروم من الشام إلى الأناضول، ومن شمال أفريقيا والأندلس إلى عمق القارة الأوروبية، وأضحى البحر المتوسط ساحة المواجهة والقتال الدائم، والانتقام المتواصل من القوات البيزنطية على المدن الساحلية والأساطيل الإسلامية، الأمر الذي أدرك المسلمون معه ضرورة إقامة أساطيل وموانئ قوية على سواحلهم الطويلة.

الأساطيل البحرية

وقد أدرك العباسيون خطورة هذه الغارات فاحتفظوا بدار الصناعة البحرية التي أسسها الأمويون في مدينة صور، ثم نقلوها إلى مدينة عكا سنة 247هـ/681م، وظلّت هذه المناوشات قائمة بين الجانبين حتى استطاع العباسيون في لحظة ضعف بيزنطية الاستيلاء لفترة من الزمن على جزيرة قبرص في شرق المتوسط ثم جزيرة كريت فيما بعد، وازدادت نقاط المراقبة البحرية على ساحل بلاد الشام حتى أصبحت مدينة طرسوس أحد الموانئ العسكرية الهجومية للقوات البحرية الإسلامية، وقد استغل الطولونيون هذه الموانئ ودور الصناعة البحرية في كلٍّ من الشام ومصر وعملوا على تقويتها وزيادة أساطيلها[1].

 

كان هذا في الشام ومصر، أما في شمال أفريقيا، فإن المواجهة الإسلامية البيزنطية لم تتوقف منذ لحظات الفتوح الإسلامية الأولى، فقد خرجت أولى الحملات البحرية على جزيرة صقلية وسردينيا القريبة منها في سنة 44هـ/664م، وكان انطلاقها من مدينة برقة التي كان أسطولها يتلقى إمداداته ودعمه من مصر، وقد تبع هذه الحملة عدد آخر من الحملات كما في سنة 84هــ، وسنة 92هـ، وإن كانت حملات بحرية عابرة لم تستهدف الاستيلاء على صقلية والبقاء فيها.

 

وكانت أولى المحاولات لإنشاء دار لصناعة السفن الحربية في تونس على يد واليها آنذاك موسى بن نصير، وكان ذلك سنة 84هـ/703م، وهو أحد زعماء الفتح الأندلسي المهمين فيما بعد، وبالفعل أنشأ موسى دار صناعة السفن أو "ترسانة" وربطها بالبحر المتوسط، ثم أمر ببناء مئة مركب، وثمة روايات أخرى تشير إلى أن الوالي حسان بن النعمان هو الذي بنى هذه الترسانة العسكرية قبل ولاية موسى بن نصير.

 

من تونس الانطلاق صوب المتوسط

وهكذا صارت تونس مركزا بحريا إستراتيجيا للأساطيل الإسلامية منذ نهاية القرن الأول الهجري، ومنها كانت الغزوات تخرج ضد الوجود البيزنطي الرومي في البحر المتوسط، فقد أرسل موسى بن نصير الأسطول التونسي سنة 89هـ/707م لمهاجمة قواعد الروم البحرية في الجزر القريبة من الممتلكات الإسلامية في شمال أفريقية، فهاجم الأسطول الإسلامي جزر منورقة وميورقة بالقرب من سواحل إسبانيا، ولم تكتفِ بهذا، بل استطاعت أن تضمها إلى السيادة الإسلامية[2].

تونس

ومنذ تلك اللحظة المهمة في تاريخ القوات البحرية الإسلامية، أدرك المسلمون ما لجزيرة قوصرة القريبة من السواحل التونسية والواقعة في منتصف المسافة مع صقلية من أهمية إستراتيجية واقتصادية، وقد أشاد الجغرافيون والرحالة المسلمون بموقع هذه الجزيرة الممتاز؛ لأنها "قبالة إفريقية بالقرب من تونس، وبينها وبين صقلية مجرى، ويُجلب منها التين والقطن، وقد صمم موسى بن نصير سنة 88هـ/707م على الاستيلاء على هذه الجزيرة، واتخاذها قاعدة أمامية لأسطوله في صد هجمات الروم البيزنطيين، وانتدب لهذه المهمة واحدا من أمهر قادته وهو عبد الملك بن قطن الفهري، وقد نجح عبد الملك في مهمته نجاحا باهرا، واستطاع ضم جزيرة قوصرة القريبة من صقلية إلى ولاية إفريقية أو تونس"[3].

 

ومن قوصرة، وفي ظل الحكم الأموي والخلفاء العباسيين الأوائل قبل هارون الرشيد، كانت الأساطيل والسفن الحربية تخرج للإغارة على جزيرة صقلية، واستطاعت أن تُنزل التخريب والتدمير بأسطول الروم الراسي في موانيها، ويوما بعد يوم كان المسلمون يزدادون خبرة بهذه الجزيرة، ومواقعها، وأهميتها في البحر المتوسط، وفي ردع الروم عن الإغارة على السواحل والمدن الإسلامية.

 

الأغالبة والاستيلاء على صقلية

في العام 184هـ/800م أصدر الخليفة العباسي هارون الرشيد قراره بتولية إبراهيم بن الأغلب التميمي على ولاية أفريقية "تونس"، وجعلها في عقبه وذريته من بعده، شريطة التبعية السياسية والمالية، بإرسال الخراج المطلوب سنويا كل عام إلى بغداد، وكانت هذه السياسة اللا مركزية التي اتخذها العباسيون تنم عن حكمة كبيرة، برفع الحرج والتكاليف عن كاهل العباسيين وفي الوقت ذاته الاستفادة من هذه الولايات، طالما أعلنت التبعية والبيعة للخليفة العباسي.

استطاع إبراهيم بن الأغلب بعد فترة قصيرة من تسلمه زمام الولاية أن يُقصي المنافسين والثوار والخارجين عن طاعته إلى العراق
استطاع إبراهيم بن الأغلب بعد فترة قصيرة من تسلمه زمام الولاية أن يُقصي المنافسين والثوار والخارجين عن طاعته إلى العراق

خضع العرب والبربر لتقليد الولاية، ودانوا بالطاعة لإبراهيم بن الأغلب، وكان أميرا على قدر كبير من الحكمة والدُّربة السياسية، واستطاع بعد فترة قصيرة من تسلمه زمام الولاية أن يُقصي المنافسين والثوار والخارجين عن طاعته إلى العراق، وأن يعيد اللُّحمة القوية بين عناصر السكان من العرب والبربر، وقد توسعت دولته حتى وصلت إلى طرابلس الغرب "غرب ليبيا اليوم"، واستقرت الدولة له ولأبنائه من بعده[4].

في أواخر عام 201هـ/817م ارتقى لعرش الدولة الأغلبية في أفريقية الأمير زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، وهو أعظم ملوك هذه الدولة على الإطلاق، وأعلاهم صيتا، وأبعدهم نظرا في الأمور، فقد كان قويا عنيدا، يدرك خطورة العناصر الثورية الكامنة في الجيش الأغلبي، فاستطاع قهرهم بعناصر الفرق السوادنية "الزنج" في جيشه، ثم أدرك بعد ذلك أن التوجه صوب الفتوحات والغزو هو السبيل الأفضل لدولته ولجيشه وللسكان كافة، فأمر منذ فترة مبكرة من ولايته بإعداد الأسطول، وحشد الجنود، وأمر بخروجها إلى جزيرة سردانية القريبة من صقلية، وهي يومئذ تابعة للروم البيزنطيين، فهزموهم في عدة مواقع منها، وعاد الأسطول منصورا وسط احتفالات صاخبة في العاصمة الأغلبية العباسية القريبة من القيروان[5].

 

لم يكن زيادة الله بن الأغلب ليغفل عن مراقبة الأحوال الجارية في البلاد الإيطالية، فقد علم في سنة 212هـ/827م أن إمبراطور الروم بالقسطنطينية استعمل على جزيرة صقلية بطريقا اسمه قسطنطين، وأن هذا البطريق الذي تولى الزعامة السياسية والدينية في الجزيرة عيّن قائدا ماهرا على الأسطول اسمه فيمي، الذي قرر على الفور غزو السواحل الأفريقية "تونس وما يجاورها"، ونجحت غاراته في إيقاع الرعب، والاستيلاء على مغانم وسبي كثير، واستطاع فيمي بعد ذلك على إثر خلاف داخلي أن يظفر بملك الجزيرة، لكن هذه الزعامة لم تدم له بسبب تجدد المعارضة المسلحة أمامه، الأمر الذي اضطره إلى اللجوء إلى الأمير الأغلبي زيادة الله يستنجده، ويعده بملك جزيرة صقلية[6].

كان زيادة الله الأغلبي وجمْع من كبار العلماء وأهل الحل والعقد مثل الإمام سحنون والقاضي أسد بن الفرات وغيرهم قد اجتمعوا لبحث مسألة غزو صقلية والاستيلاء عليها، وقد انقسم الحاضرون إلى فريقين، فريق تزعمه العلامة سحنون المالكي الذي رأى خطورة الجزيرة لقربها من الشاطئ الإيطالي، وسهولة غزوها واستئصال المسلمين منها حال ضعفهم، وتأخر وصول المدد إليهم من تونس مقارنة بإيطاليا، وفريق آخر تزعّمه زيادة الله والقاضي ابن الفرات حيث رأى أن هذه فرصة ذهبية لسحق البيزنطيين وإقامة الجهاد وتبعية الجزيرة للمسلمين، وهي الجزيرة الإستراتيجية في البحر المتوسط.

وفي نهاية المطاف، رجحت كفة زيادة الله، وجعل قيادة الجيش والأسطول إلى القاضي أسد بن الفرات وانضم لهم أشراف العرب والبربر والأندلسيين وأكابر رجال العلم والمجتمع الأفريقي، وانطلقوا من مدينة سوسة في شهر ربيع الأول سنة 212هـ/827م، ووصلوا إلى الجزيرة، فدكّوا حصونها، وسحقوا جيوشها، وأغرقوا أساطيلها، واستولوا على أهم مدنها تباعا مثل مازرة وبلاتة وقلورية.

على أن هذه الفتوحات قد زلزلت القسطنطينية التي أرسل إمبراطورها دعما عسكريا وبحريا هائلا، ووصل هذا الدعم لمواجهة قوات المسلمين التي كانت تُحاصر مدينة سركوزة في قلب الجزيرة، وهناك دارت رحى معركة عسكرية كبيرة، استُشهد فيها القاضي والمجاهد أسد بن الفرات في شهر ربيع الأول سنة 213هـ/828م، وصمد المسلمون في قتالهم، وجاءهم المدد من أفريقية في أسطول ضخم قُدّر بـ 300 سفينة، واستطاعوا بعد شهور طويلة من القتال والكر والفر هزيمة البيزنطيين، والاستيلاء على واحدة من أهم وأقدم مدن الجزيرة مدينة بلِرم "بليرمو" التي دخلوها في شهر رجب سنة 216هـ/831م.

ومنذ ذلك التاريخ تتابعت الفتوحات الإسلامية في أرجاء صقلية كاملة، بل وبدءا من عام 220هـ/835م استطاعت القوات الإسلامية الانطلاق إلى جنوب إيطاليا، وحصار واحدة من كبريات مدنها "نابولي"، الأمر الذي أحدث صدمة كبيرة في الأوساط البيزنطية والرومانية على السواء، حيث توسع الوجود الإسلامي في جنوب إيطاليا حتى الاستيلاء على جزء كبير من السواحل الإيطالية الواقعة على البحر الأدرياتيكي[7].

صقلية.. قرنان من الوجود الإسلامي

في عهد الحكم الأغلبي كان اتجاه الفتوحات في صقلية من الغرب إلى الشرق، لا سيما من مدينة مازر وبلرمو، وقد كانت الحرب سجالا لمدة أربع سنوات حتى عام 831م، وخلال السنوات العشر التالية، أي من سنة 831م إلى سنة 841م، شدّد العربُ من قبضتهم على إقليم مازر، حيث أقاموا مستوطناتهم الأولى، ونقلوا الرقيق والفلاحين للعمل في مزارعهم التي دعمت من وجودهم، ومن الازدهار الاقتصادي في الجزيرة، وخلال السنوات الثماني عشرة التالية، أي من سنة 841م إلى سنة 859م/226-242هـ، ضاعفَ العربُ من مجهودهم لإخضاع إقليم نوطس الخصيب، وبعد سنة 860م/246هـ، جدُّوا في المرحلة الأخيرة لافتتاح إقليم دمنش الذي نجحوا آخر الأمر في الاستيلاء عليه سنة 902م/289هـ[8].

 

سقطت الدولة الأغلبية واستولى العبيديون الفاطميون على أقاليمهم في أفريقية بارتقاء المهدي للعرش منذ سنة 297هـ/338م، وتأسيس العاصمة الجديدة "المهدية"، وحين استتبت الأوضاع له، أرسل إلى صقلية بعض ولاته لضمان تبعيتها، على أن استقبال أهل الجزيرة لهؤلاء الولاة لم يكن مثل سابقهم الأغالبة السنة.

فقد كان تشيع الفاطميين وغلوهم سببا كافيا لمقاومتهم، ومحاولات فرض الصقليين شروطهم، لكن الخليفة الفاطمي المهدي لم ينصع لهم، وأرسل إليهم عددا من الولاة الأشداء قساة القلوب؛ مثل سالم بن أبي راشد، ومن بعده خليل بن إسحاق، مدعومين بقوات عسكرية كبيرة؛ حيث استطاعت سحق الثورات كافة في الجزيرة، حتى إن خليل بن إسحاق افتخر بكثرة عدد قتلاه من سكان صقلية المسلمين قائلا: "إني قتلتُ ألف ألف يقول المكثر، والمقلل يقول: مئة ألف في تلك السفرة، ثم قال: لا والله إلا أكثر؛ فردّ عليه واحد من الجماعة بقوله: يا أبا العباس لك في قتل نفس واحدة ما يكفيك"[9].

على أن صقلية تنفّست الصعداء حين جاءها الحسن بن علي بن أبي الحسين من أسرة بني كلاب عام 336هـ، أخلص العائلات إلى الفاطميين، وتميز الحسن بالسيرة الطيبة، وإقامة العدل، وعدم التعدي على حقوق الناس ودمائهم، فأحبّته صقلية، وبقي فيهم خمس سنين حتى توفاه الأجل، فحزن عليه أهلها أشد الحزن، ثم تعاقبَ على حكم الجزيرة من الكلبيين عشرة ولاة في مدة خمس وتسعين سنة شهدت في أثنائها تقدما في الحياة العمرانية وفي العلوم والآداب، كما شهدت جهادهم المستمر في جنوب إيطاليا وفي مقاومة أطماع الروم في الجزيرة. وأخلدت صقلية إلى الهدوء، وجنَت من ذلك خير الثمار. وكان من أسباب هذا الهدوء انشغال الجند في أكثر الأوقات بالحروب في جنوبي إيطاليا، وإخلاص الكلبيين في الدفاع عن صقلية، واعتبار أنفسهم مستقلين استقلالا داخليا في شؤون الجزيرة[10].

 

وبعد مضي ما يقرب من قرن على حكم الكلبيين، دخلت صقلية في دوامة من الفوضى والثورة والعنف، وظهر عدد من الثائرين الذين أراد كل منهم التفرد بحكم الجزيرة أو أجزاء منها، في الوقت الذي تحول فيه الفاطميون إلى القاهرة، وأضحت أفريقية عرضة للثورات والنهب والضياع، وفقد أهل صقلية أهم داعم لهم من وقود وعون أهل تونس حين غاصت في مستنقع التمرد والقتل.

كان العهد الجديد أشبه ما يكون بعهد ملوك الطوائف في الأندلس، فسرعان ما استأثر كل أمير بقطعة من الجزيرة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ ما لبث أن اشتبك اثنان من أكبر هؤلاء الأمراء وهما ابن الثمنة وعلي بن نعمة، وحين انهزم ابن الثمنة راح يستنجد بالأعداء النورمان الذين كانوا يحكمون أجزاء من وسط وجنوب إيطاليا، فلبّوا النداء، واستغلوا التشرذم الإسلامي في الجزيرة، واستطاعوا دخولها بسهولة كبيرة سنة 444هـ/1053م[11]؛ لتضيع السيادة الإسلامية على الجزيرة إلى الأبد بعد حكم دام قرنين ونيف.

حضارة صقلية الذهبية

شهدت الجزيرة في ظل الحكم الإسلامي نهضة حضارية في المجالات الاقتصادية والثقافية والعمرانية كافة، فقد أدخل المسلمون إلى صقلية كثيرا من أنواع الزراعة، حيث جاءوها بالليمون والبرتقال والقصب والأرز والنخيل والقطن والبردي، حتى نشأت في صقلية أساليب زراعية تلائم بيئتها، وأصبحنا نسمع في كتاب الفلاحة بما يسمى طريقة صقلية في زراعة البصل مثلا، أو عادة أهل صقلية في زراعة القطن، أو طريقهم الخاصة في عمل معنب من عصير العنب الحلو. وأكثر الناس من زراعة الخضراوات، وبعض أنواعها أدخله المسلمون إلى الجزيرة. وكانت بلرم وضواحيها عامرة بالبساتين والأجنة والطواحين على وادي عباس. وكانت الأراضي السبخة القريبة منها مزروعة بالقصب الفارسي وبالمقاثي الصالحة[12].

كما شهدت الجزيرة حركة ثقافية وعلمية نشطة للغاية، وقد نقل الرحالة الشهير ابن حوقل صاحب الموسوعة الجغرافية "صورة الأرض" خلال زيارته لصقلية في غضون القرن الرابع الهجري صورة متقنة عن الأحوال الاجتماعية والعمرانية لصقلية في ذلك الوقت، خاصة مدينة بلرمو التي لاحظ فيها كثرة المساجد والمعلمين، ورأى أن عدد المساجد في بلرمو آنذاك زاد على مئتي مسجد، ومن شدة اندهاشه من هذا العدد أكّد أنه لم يرَ مثل هذا العدد في بلد من البلدان الكبار اللهم إلا قرطبة عاصمة الأندلس التي اشتُهرت حينذاك بكثرة المساجد[13].

وكان أهل صقلية يبجّلون المعلمين، ويرونهم أنهم "أعيانهم ولبابهم وفقهاؤهم ومحصلوها وأرباب فتاويهم وعدولهم، وبهم يقوم الحلال والحرام وتُعقد الأحكام، وتنفّذ الشهادات وهم الأدباء والخطباء"[14] كما يقول ابن حوقل، ولعل هذا التبجيل والمبالغة في التعلم وإقامة المساجد كان راجعا لكون الجزيرة ثغرا في مواجهة دائمة مع الجيران البيزنطيين والإيطاليين وغيرهم من القوى المسيحية المناوئة، فحرص أهل الجزيرة على النهضة الثقافية الإسلامية، والتمسك بأهداب دينهم وتشريعاتهم التي رأوا تحقيقها من خلال المسجد والمعلم.

الغروب والنهاية

وعلى الرغم من دخول النورمان المسيحيين إلى الجزيرة واستيلائهم عليها بقيادة روجر الأول، وتخريب كثير من قرى المسلمين، وفرض الضرائب عليهم، فقد نعم المسلمون في ظل حُكّامها الأوائل ببعض الحرية في العبادات وإقامة الشعائر والتقاضي، وساهموا بنصيب وافر في الشؤون السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية في الجزيرة، على أن هجرة اللمبارد الطليان والفرنسيين إلى الجزيرة قد حوّلت حياة المسلمين إلى الجحيم، فقد أُجبروا على فقدان ممتلكاتهم من الأراضي الزراعية الخصبة[15].

وفي ولاية روجر الثاني استمر العمل بالسياسة ذاتها التي اتخذها والده، فأشرك كثيرا من الفرسان المسلمين في الجيش النورماندي، ولم يهتم كثيرا بتنصير المسلمين، وضغوط البابوية في روما التي كانت تتهمه بالتواطؤ مع المسلمين، بل كان كثير من حرسه الخاص من المسلمين، واستقدم العلامة الجغرافي الشريف الإدريسي ووهبه أموالا طائلة لصنع أول مجسم مصنوع من الفضة للكرة الأرضية، وأهدى له الإدريسي مؤلفه الجغرافي الفذ "نُزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، والذي مدح فيه الإدريسي الملك روجر الثاني، ووصفه بأنه "خير مَن ملَك الروم بسطا وقبضا، وصرَف الأمور على إرادته إبراما ونقضا، ودانَ في ملّته بدين العدل، واشتمَل عليهم بكنف التطول والفضل، وقام بأسباب مملكتِه أحسن قيامٍ، وأجرى سنن دولته على أفضل نظام"[16].

غير أن ضغوط البابوية لاقت في نهاية حكم روجر أثرها، ورضخ هذا الملك إلى تلك الدعاوى، وبدأ في اتخاذ سياسة تنصير المسلمين، وكان قرار تجريد المسلمين من سلاحهم في عصر سلفه وليام الأول بداية النهاية الحقيقة للمسلمين في الجزيرة، فقد وقعوا فريسة سهلة لسخط البارونات النورمان واللمبارد، الذين أنزلوا بموظفي القصر من المسلمين مذبحة، ثم سرعان ما انتشرت المذابح في الأرياف والأرباض، ثم المدن الكبرى مثل باليرمو، وهرب المسلمون إلى الأحراش والجبال النائية فقاموا بعدة ثورات ضد هذه المظالم التي استطاع وليام الأول قمعها بسهولة.

وقد أعطانا الرحّالة الأندلسي ابن جبير البلنسي الذي زار الجزيرة في أيام الإسلام والمسلمين الأخيرة فيها في زمن الملك وليام الثاني سنة 580هـ/1185م، فروى مشاهد مروّعة ومؤلمة عما كان يحيق بالمسلمين حينذاك من مذابح واستئصال ممنهج، وتنصير قسري، ومنع الصلوات، وتحويل المساجد إلى كنائس، ورأى أن الجماعة المسلمة في بلرمو كانت أحسن حالا من غيرهم، لكن ما أدمى قلبه ذلك الرجل الصقلي المسلم الذي عرض عليهم أن يأخذوا ابنته الصغيرة بعيدا عن هذه الجزيرة التي تضطهد المسلمين، وتوقع فيهم المذابح، ويعتنوا بها، ثم يُزوّجوها من يرونه صالحا من المسلمين في الأندلس، وكان مشهدا أبكى الجميع كما يقول ابن جبير[17].

كانت تلك هي الأيام الأخيرة للإسلام في صقلية، ومن بعدها ازدادت المذابح، وأصبح المسلمون بين قتيل ومُهجّر ومنصّر، وغابت شمس الإسلام بعد أكثر من قرنين على دخولهم فيها بقيادة القاضي والفقيه أسد بن الفرات، لتبقى تلك الأحداث شاهدة على هذا الوجود ومبتداه، وذلك المصير المأساوي ومنتهاه


المراجع

aljazeera.net

التصانيف

صقلية البيزنطية  أغالبة  بيزنطيون  تاريخ صقلية الإسلامي  أميرالات بيزنطيون   التاريخ