غلب التوصيف وأفعال القلوب في غالبية ما سيق من خطاب عربيّ يتعلّق بالعملية الإسرائيلية ضدّ السّفن المتوجّهة إلى قطاع غزة. وبدا من النصوص المتداولة أنّ الكثيرين أرادوا أن يثبتوا نظريتهم بالنسبة لإسرائيل دولة وسياسة وقيادة. بل إّن البعض أبدى خيبته لأنّ خبر مقتل الشيخ رائد صلاح في العملية كان مجرّد "خطأ مطبعيّ" أو إشاعة مغرضة! وتخفيفا للخيبة ذهب بعض الغيبيّين عندنا للترويج إلى أنه كان هدفا لعملية اغتيال فاشلة بمشيئة الله! أما من أراد أن يتفجّع فقد منحته إسرائيل فرصة ذهبية لذلك بإضافة ضحايا عملية مداهمة السفن إلى الضحية المسجّاة أمامه منذ النكبة ـ الشعب الفلسطيني! ليس سهلا حيال هذا المشهد المتواصل التحرّر من إلحاح الشعور بأنّ هناك مَن كان ينتظر حصول هذه الوقائع بالذات أو تلك الأكثر مأساوية ليخرج إلينا كما خرج أرخميدس في حينه! أو ليُطلق العنان لانتشاء لفظيّ في مديح "الانتصار" الجديد على إسرائيل وذمّ جريمتها، انتشاءٌ انزلق في كثير من الأحيان إلى عنصرية سافرة ضدّ اليهود ودولة اليهود ودين اليهود ـ وقد وصل بريدي أطنان من "السبام" بهذا المضمون.
وسط تلاطم الأمواج واصطخاب المتوسّط لم ينتبه العرب المولعون بالدراما التركية الجديدة إلى حالهم. مرّة أخرى، يقفون موقف الهتّافين الردّاحين لحدث يؤكّد غيابهم أكثر مما يؤكّد حضورهم! صحيح أنّ المنكوبين أحرار في إسقاط أمانيهم على "بطولات" يرونها و"أبطال" يتبيّنونهم على سطح الأحداث ومجرياتها، لكنني أتوقّع من مرّة لأخرى أن أجد في جوقات الهتّافين هذه مَن يغرّد خارج السرب أو يخرج عن النص، أو ينزل تحت سطح الحدث وسيل التسميات الممنوحة له، أو من يرفض المشاركة في الردح. فحتى لو سلّمنا جدلا ببطلان المرويات الإسرائيلية كافّة، من قبل ومن بعد، فإننا لا نستطيع أن نُعفي أنفسَنا من حساب العقل الجافّ الذي تجاوز عقد التفجّع والهتاف والإسقاط. وهو حساب في مستويين اثنين على الأقلّ. في مستوى نقد هذا الموت والشهادة، وفي مستوى هذا اليُسر في إباحة المسألة الفلسطينية لمناورات إقليمية وتدخّلات صادرت منها خصوصيتها إلى حدّ تغييبها.
اعتقدنا أنّ المُبحرين على متن السفن إلى غزّة ذاهبون في رحلة معنوية رمزية لكسر الحصار أو التأشير عليه كإجراء احتلاليّ ظالم. لكننا وجدنا جماعة كبيرة منهم ذاهبة للاستشهاد مع سبق الإصرار وبقرار مسبق، وفق شهادات أدلوا بها للفضائيات ووسائل الإعلام. بل إنّهم كالإسرائيليين تماما رسموا لأنفسهم مسارا وسيناريوهات محتملة وبديلة كان يُفترض أن تُفضي بهم إلى الجنّة مرورا بنار القوّات الإسرائيلية. وقد أفلح البعض في تحقيق "حلمه" وأخفق البعض الآخر. وهو ما تحوّل إلى قوّة دفع لدى البعض ليُعلن تطلّعه وإصراره على أن يكون شهيدا في المرة المقبلة!
صحيح أنّ فائض القوة العسكري في إسرائيل يدفع قياداتها إلى إعمال مدمّر لهذا الفائض، كما رأينا. وصحيح أنّ السياسات الإسرائيلية العنفية تحصد أرواحا دون حساب، لكن ليس في هذه الحقيقة ما يسوّغ لأحد ولا لداعية سلام أو متضامن أو مناصر أن يرمي بروحه في مرمى القوات الإسرائيلية الخاصة وغير الخاصة. فلا إحراجها سياسيا يسوّغ ذلك ولا إرباكها إعلاميا يبرّره. وباعتقادنا أنه كان بالإمكان التخلّي عن الصدامية كطريق ممكنة للشهادة المرغوب فيها والحصول على تأثير لا يُستهان به باتجاه تكريس فكرة كسر الحصار كما فعلت السفن الأخرى التي لم يكن المبحرون على متنها أقلّ انتصارا للمسألة الفلسطينية أو للحقّ الإنساني لسكان قطاع غزة المحاصر. ولن تُقنعني هنا ادّعاءات المبحرين على متن السفينة الدفاع عن النفس طالما أنّ القوّة المهاجمة للسفينة لم تقصد وفق كلّ منطق أن تقتل أحدا ـ طبعا، كحقوقيّ لا أبرئ ساحتها ولا أنفي عنها التورّط في القتل. فلو قصدت فلماذا تنزل إلى سطح السفينة؟ كان يُمكنها أن تطلق النار من الطائرات أو الزوارق أو أن تهاجم بأسلحة صاعقة أو غيرها قبل الانقضاض أو أن تقتل دون أن تُحدث تماسّا مباشرا واشتباكا مع الموجودين على سطح السفينة. لكنّ الذين ماتوا وزملاءهم كانوا أعلنوا مسبقا وبأثر رجعيّ نزعتهم الصدامية ورغبتهم في القتال كما يحض تدين شعبويّ وعنصريّ أين منه الأصولية اليهودية في السياسة الإسرائيلية. ومن هنا فإن موت الذين ماتوا أتى بفعل التقاء سياسة القوة الإسرائيلية والعجز الإسرائيلي في تصريف الجاري من مسائل ومعضلات مع نزعة غيبية للشهادة بأي ثمن ومع سبق الإصرار من خلال الاعتقاد بأنّ الموت المشرّف بنار إسرائيلية هو أقصر الطرق إلى الجنة الموعودة. إنه تديّن يقدّس الموت وينسى الحياة فيصير في مفهوم العرب المخذولين بطولة وحريةً بألف عرس. وها هي أعراس العرب لا تزال منعقدة يحضرها قوميون وماركسيون وعلمانيون وشيوخ وأمراء وليبراليون، وعلى لسان كل منهم أغنية أو هتاف أو شعار! وهو ما يمهّد النفوس ويُفسح فيها متسعًا للموت القادم!
أما بالنسبة لتركيا فلا أحد يسأل عن هذا الكرم التركي حيال المسألة الفلسطينية وجذوره! سيقول الذين يفهمون ميكيافيللي تسطيحيا أنّ التحالف مع الشيطان مبرّر فكم بالحريّ مع قُطر مسلم سنّيّ كتركيا؟
أعتقد أن تركيا أدركت بعد طول تجربة أنها لن تكون عضوا في الاتحاد الأوروبي وأن هذا "الاتحاد" أوضح بصراحة أو مواربة أنها قد تكون كلّ شيء في هذا الاتحاد إلا عضوا فيه، فلن تكون! فلا إسلاميتها من قبل ولا إسلاميتها الراهنة الصاعدة تؤهّلها ولا المسألة الكردية في الشرق تمكّنها من ذلك. ولأنّ الأمرين متلازمان في التجربة التركية بل يشهدا تصعيدا دوريا فإنّ باب انضمامها وإن خيّل أنه موجود فلن يُفتح! ومن هنا الاعتقاد أنها شرعت تراهن على حيز جيو ـ سياسي ـ اقتصادي آخر لتحقيق الذات التركية المزهوّة بتعاظم قدراتها وتعزيز مكانتها بين قارتين. ويشكّل الحيز العربي حيزا مفتوحا لحراك تركي. وليس أفضل من المسألة الفلسطينية بوّابة إلى ذلك. لأنها قضية تكمن في طياتها ثلاثة مفاتيح. أوّلا ـ فيها من الضغط على أوروبا وأمريكا من خلال إسرائيل كعملية ردّ على انغلاق أبواب الاتحاد الأوروبي أمامها. ثانيا ـ توفّر فرصة التواصل مع العالم العربي الضعيف أصلا من نقطة ضعفه. ثالثا ـ تشكّل في الراهن، على الأقلّ، طريقا سالكة إلى العالم الإسلامي من خلال منح وصايتها على الحرم القدسي الشريف مرورا بالقضية الفلسطينية. ولا نخطئ إذا افترضنا أنه تداعب الأتراك أحلام بناء الإمبراطورية العثمانية من جديد ولو بصيغة ما بعد حداثية مغايرة! وفي هذا تكون تركيا التي منحت وصايتها على أسطول السفن المتضامنة مع غزة، أشّرت من طرف خفيّ ومعلن لإسرائيل ألا تنقل ما تجربتها في كردستان العراق إلى ديار بكر، أو أن تلزم الحدود الدولية العراقية التركية في تدخّلها في الشأن الكردي!
أما في نهاية الأمر ومبتداه فإن القوى السياسية التي يستند عليها حكم النُخب التركية ذات النزعة الإسلامية لا تشذّ عن قاعدة العقائد والأيديولوجيات الساعية إلى التحشيد والتجييش من خلال استحضار عدوّ خارجي. وقد تكون إسرائيل "العدوّ الأمثل" لأنه غير مسلم ولأنه يقهر الفلسطينيين ويقبض على عنق قبة الصخرة!
بمعنى أن لا تركيا الرسمية ولا القوى الإسلامية المتشددة فيها تتحرك بفعل مناهضة القهر ومناصرة حقوق الإنسان بدلالة أنّ السياسات التركية تجاه المسألة الكردية، رغم تعديلها، لم تتغيّر جوهريا وأنّ حربها ضدّ حزب العمال الكردستاني لا تزال مشتعلة. هذا فيما يُعاني الأكراد من عنصرية التيارين العلماني والمتدين التركيين في كل ما يتصل بالحريات وإلى سنين خلت باللغة الكردية التي كان تدريسها ممنوعا في المدارس الكردية! هذا فيما تواصل حكومة أردوان مثل سابقاتها عدم الإقرار بمجازر ألحقها الأتراك بالأرمن ـ ولو من قبيل الخطوة المعنوية للمصالحة مع هذا الشعب. أي أن السياسات التركية في الماضي وراهنا أنتجت حالات مشابهة للمشهد الفلسطيني الذي أنتجته إسرائيل. وهو ما يجعل من الكرم التركي الحالي على الساحة الفلسطينية مفارقة قد تكون في مبتداها استباحة المسألة الفلسطينية ورقة ضغط في مشاريعها الإقليمية من خلال استغلال غياب عربي عن المشهد، وفي منتهاها شطب هذه الورقة وإحلال هذه المشاريع مكانها تماما مثلما حلّت مسلسلات الدراما التركية في الوعي العربي مكان تلك السورية. وهو ما يقع بعيدا عن "الحرية" المرتجاة لغزة ولا تشذّ النخب التركية عن غيرها من مراكز قوة في المنطقة وغيرها، عمدت وستعمد إلى استثمار كل طارئ ومستجدّ في مشاريعها. وهو ما ينبغي أن يظلّ حاضرا رغم حفلات الزار المحتفية بدم الضحايا والحق الفلسطيني الذي يُراد به باطلا !

المراجع

alawan.org

التصانيف

تاريخ  أحداث