حد المثقفين العرب من المشرق الشقيق، تقدّميّ علماني حداثي بصريح العبارة وبشهادة ما يكتب وينشر، يعيش في باريس حيث فُرص التفتّح على الأدب وما هبّ وما دبّ من المدارس الفكرية والمقاربات التقليدية وغير التقليدية ولغات التخاطب والتعبير من سينما ومسرح وفنون لا تحصى ولا تعدّ ألخ… ويكتب كثيرا منذ السبعينات أو ما قبلها عن الماركسية يوم كانت أفق اليسار العربي ثمّ عن الدين والعقل والذّكورة والفحولة، وعن علم النّفس التحليلي بأدوات معرفية لست مؤهّلا لتمييز الغثّ من السّمين منها، وعن أشياء أخرى تطول قائمتها طول الأسطر التي حبّرها.
وُضِع يوما بين يديه كتاب تونسي لغاية النّشر لأنّ صاحبنا يملك سلطة قرار في نشر ما يراه صالحا لدعم الفكرة العقلانية باللغة العربية، والأمر ليس بالهيّن، لا بسبب العربية ذاتها بل جرّاء العرب حكاما ومحكومين، وموالين ومعارضين، سنّة وشيعة وهلمّ جرّا… إذ حكاية العقل والمعتقد في ربوعنا هي كحكاية الخطين المتوازيين عند مشايخ الأزهر والزيتونة.
الكتاب يحكي عن بعض من قصّة اليسار التّونسي عبر أحداث دارت بين السجن وخارجه وسط أجيال تعاقبت على أحلام كبرى بإمكانيات صغرى، وتطاولت على هامة رئيس دولة عرف كيف يستعيض عن قصر قامته بضخامة هامته لأسباب بعضها قد يُبرّر، وفي البعض الآخر ربّ استلاب طال ولا يزال يطال الشخصية الجماعية لحكاية لنا طويلة مع الأمير العادل نتقاسمها بالقسطاس مع جميع إخواننا العرب من ظفار ورأس الخيمة خليجا إلى الدار البيضاء ونواق الشطّ محيطا.
ودون إطالة، لم يُسْعَف المخطوط بالنّشر لأسباب مبهمة من قبيل خصوصيته التونسية جدّا التي لا تلتقي مع انتظارات وتطلّعات وأشواق القارئ العربي الذي لم يتعوّد بعدُ على اللّهجة التونسية كما وردت في بعض الكتاب، وربّما أيضا، وهو الغالب على الظنّ، إنّ الكتاب لم يكن في مستوى الكميّة المطلوب حدّها الأدنى من صور التّعذيب وضروب الألم والوجع الذي يُفترض بنظام عربي يحترم نفسه ويطمح أن يكون موضوع كتاب تقدّمي أن يُمارسها على سجنائه كما المطلوب من المسجونين أن يكون البعض منهم قد أذيب في برميل حامض كما في سوريا، أو اتّسخت ثيابه بسوائل دماغه الذي فطرته خرطوشه أطلقت في جبينه وفوهة المسدّس تلامس رأسه لئلاّ يُخطَأَ المرمى تقشّفا في الخراطيش المرصودة نظريا للعدوّ الصهيوني في رأي صدّام العراق، وقتها يحقّ للنّاجين أن يكتبوا بما يليق بالنّشر في رأي صاحبنا التقدّمي العقلاني المستنير.
لنا طرفة في تونس عن حاكم، خريج التعليم الزيتوني، وقفت أمامه امرأة بتهمة الزّنا وكانت مثيرة لفرط جمالها، فأصرّ عليها أن تروي له بالتّفصيل أطوار المواقعة بينها وبين عشيقها وكيف أمسك بها زوجها المصون متلبّسة بالجرم الآثم. كان قاضينا مستحضرا في ذهنه أشياء كثيرة منها ما هو معرفي قانوني كصعوبة المسألة الفقهية في إقامة الدّليل باشتراط شهود أربعة يلزم حضورهم لحظة الفعل وهو ما يصعب توفيره عدا في حالة بارتوز كاملة الأوصاف، أو إثبات حكاية الشّعرة أو الخيط الذي يمرّ أو لا يمرّ بين الصّْفَا (عبارة تونسية تعنى "الكازي" أو "الهمّ" أو الصّعلوك كقولك "الزَّلَمِي" باللبناني) والمروى.
ومنها ما هو مستبطَن يدخل في باب اللاوعي أو المكبوت كأن يصير الإنصات إلى امرأة، تعيد، سردا، لحظات انتشاء عاشتها حواسّا، نوعا من الاستمتاع الذي قد لا يجده قاضينا في إتيان زوجته بحكم العادة والواجب والشّرع وسنّة الحياة في التكاثر وتناسل العرب لمفخارة الأمم.
لخصت المرأة ما سمح به حياؤها أمام الحضور، فاغتاظ القاضي لانعدام الضمير المهني في المسكينة وعدم إنارتها المحكمة بما يكفي لإقامة العدل في موضوع خطير تتعلّق به همم الأمم وسؤدد الأوطان. طالبها بغلظة أن تعيد على مسامعه، رويـدا رويـدا، ولحظة بلحظة، مجريات الواقعة :
قالت : غادر زوجي البيت فأدخلت فلانا إلى غرفتي، قبّلني وقبّلته، عانقني وعانقته، وطاف يتمرّغ على جسدي وأنا أداعب رأسه ثمّ بدأ ينزع ثيابي قطعة قطعة، والقاضي يطلب منها في كلّ مرّة أن تسمّي القطعة، ويشجّعها، ويستحسن براعة وصفها حتّى بلغت الصّدرية وكيف بدأ خليلها يعرّي نهديها.
عمّ القاعة سكون رهيب وانقطعت الأنفاس وتنحنح القاضي يمنة ويسرة كأنّه يطالبها بأن لا تستعجل وأن لاتتوقّف، فالقضيّة قضيّة "ريتم" بمعنى النّسق. لكنّ المرأة توقّفت وقد بلغ الأمر بقاضينا الذّرى.
قالت : لحظتها دخل زوجي وأنا على تلك الحال.
انتفض القاضي دون شعور منه، وجال ببصره الحادّ في القاعة بحثا عن الزّوج السّادي الذي كان بإمكانه أن يتأخّر بضع دقائق بسبب اكتظاظ حركة المرور أو تعطّل المصعد أو حتّى أن تصدمه سيارة يقودها سائق مخمور يلتقي به قاضينا في جلسة أخرى إذ لا وقت الآن لجمع القضايا تباعا في جلسة مثل هذه.
تنحنح في مكانه بفعل تصاعد الضّغط في شرايينه واختزن حنقه في صدره بعد أن وقف شيء ما في ظهره. نظر إلى أعضاده مكسور الخاطر إيذانا بانتهاء الاستنطاق لأسباب قاهرة ثمّ صدرت منه كلمات غامضة فيما تشبه أو تكاد : "يلعن والديه !" كلمات لم يدوّنها كاتب المحكمة.
في الأيّام الأخيرة صدر كتاب آخر جديد في تونس يستحقّ أن نقول في كاتبه محمد صالح فليس "يلعن والديه" هو الآخر لأنّ كتابه لن يعجب، حتما، صاحبنا المشرقي بسبب خفّة موازينه في باب التألّم والتشكّي والتظلّم، وفي فصل السّرد التّفصيلي لمنفلوطيات التّعذيب.
الكتاب يبدأ بحكاية استحالة إقامة الحداد على عزيز مات، عمّ حمدة العتّال والد محمد الصّالح.
وأهل بنزرت لا يعلمون إلى اليوم عن أبنائهم الذين حصدهم رصاص الفرنسيس إن كانوا شهداء أم قرابين أم راحوا بما يفيد به المثل التونسي "بهيم وقدم قرعة" (حمار نهش قرعا).
وحكايتنا مع بورقيبة لا زالت دملا لم نفقعه لنبرأ منه سلبا أو إيجابا. تاريخنا معه يدفعنا إلى دفنه حيث هو لنتخلّص من إرث ثقيل لازلنا ندفع فاتورته، وحاضرنا المبهمة اتجاهاته لفيض "البهامة" في يوميات حياتنا وتنامي الغصّة في صدورنا، يدفعنا إلى دفنه فينا، أملا في أن نعارض به الغير عند الحاجة كما يقال في قاموس القانون. وهذا حداد آخر لم نقمه.
عندما غادر محمد الصالح السجن بعد حوالي ثماني سنوات متفرّقة وكأنّي بهم يريحونه قليلا بين "الرّبطية" والأخرى ليسترجع أنفاسه، فقسّموها على ثلاث وجبات تماما كما العلاج يقسّم على طالب العلاج، وهو لم يطلبه، وجد نفسه في مدينة الدّنيا يسير جنبا إلى جنب مع أناس كثيرين بعضهم زامله في التعليم، والبعض الآخر يسهم في تدوير آليات الدّولة والحزب الحاكم، ومنهم من كان واقفا (أو نائما) بين بين، وبينهم من كان على غير دراية بما لا تكتبه الصحف، وفيهم من جلدوه تباعا ورفاقه مع كلّ حملة إيقافات ودورات تعذيب وفصول سجن، والجميع اليوم يتعايشون خارج ذاكرة جماعية تقام فيها جدلية الأنا والآخر وإعادة بناء الذّات عبر السؤال والتساؤل. لكلّ ذاكرته الخاصّة، حاضرة كانت، أم مغيّبة، أم مسقطة عمدا أو عن حسن نيّة.
والحصيلة إنّه لا مجال لإقامة الحداد في هذا المجال أيضا.
فرويد يقول بما معناه إنّ النّفس التي لم تقم الحداد تصير مرتعا للكُرب والغمّ. ونحن في زمن تتعالى فيه أصوات العود إلى إقامة الحدّ (مع المعذرة للصديقة رجاء بن سلامة لتجرّئي على استحضار فرويد ببلادة الذي لا يفهم أكثر ممّا تيسّر له منه في سنة البكالوريا).
لخبطة بأتمّ المعاني في هذا البلد السّعيد : لا ندفن موتانا ولا نريدهم أحياء.
والكآبة تسري فينا إلى درجة أصبحت لفظة "الحمدو للّه" مجرّد ردّ على شماتة السّائل عن أحوالنا أو تعني الاستقرار فيما لا يمكن النّزول دونه.
لا حرب طوائف عندنا، ولا تطاحن مذاهب، ولا معارك إثنية، ولا بترول يغذّي أطماعنا ولا ثروات توقعنا في حبال الأزمات العالمية، بدليل أنّنا تخطّينا الأخيرة بسلام لمجرّد أنّه ليس لنا في السّوق باع، وإن رأى فيها أصحاب الحلّ منّا حكمة في التصرّف ورشادا في الرأي، وهي إلى حكاية الذي لا يخسر على طاولة القمار أقرب لمجرّد كونه لا يلعب مرغما لا بطلا بسبب قلّة اليسار وتواضع الحال .
حكايتنا مع الزّمن هي الأخرى طويلة كما هو شأن الشّعوب الأخرى، لكنّها رتيبة عندنا رتابة الضّجر. أكثر من ثلاثين عاما مع حاكم أوحد هُزم في الوقت الضائع أو سُحب بشهادة الأطبّاء ولم نكسب من المباراة شيئا، وثلاثة وعشرون أخرى مع الخلف والبقية تأتي ونحن لا ندري ماذا نقايض بماذا : أَمْنُنا الشّخصيّ مقابل تبلّد أذهاننا ؟ طرقاتنا السيارة مقابل تعاسة حافلاتنا العمومية؟ تضامننا الاجتماعي الطوعي تحت الرّقابة مقابل تضامن العائلات النّافذة لتوزيع عادل بينها لأراضي وأملاك الوطن ؟
نعيش كشعب لا حاجة له إلى أسئلة. وإذا سَأَلنا فإمّا أن نتحاشى الأسئلة المحرجة، ربّما من باب الحكمة المألوفة في أنّه لا فائدة في سؤال يفتح متاهة ويجرّ إلى عواقب لا يعلم سوى اللّه مرساها، وإمّا أن نطرح الأسئلة التي نعرف جوابها مسبقا ولا فائدة أيضا من طرحها، والنتيجة واحدة.
قلّة هم الذين يلحّون في السّؤال يسمّون "المعارضة" وهي فْصايِل وأنواع. يقال تيّارات واتجاهات في لغة السياسة. ويمكن أن يقال أيضا تموقعات، وتمركزات، وحسابات في لغة التحليل التي تحاول أن تقف على مسافة دنيا من الوهم. وهي حكاية طويلة يصعب تلخيصها.
سكّير عربيد تلفّظ ذات ليلة في الشّارع بما ينافي الحياء ولم ألتقط منه سوى عبارة "احنا بلاد التّرم الباردة" (بمعنى المؤخّرات التي لا ينفع معها قرص، وقد يقابلها بالفصحى : لمن تقرأ زبورك يا داود). كنت يومها انتهيت لتوّي من قراءة كتابي كامو وجايسار عن الطّابع التسلطي أوالسلطوي للحكم في تونس، وبياتريس هيبو عن ثقافة الطّاعة والانصياع وكيف تولدت فينا، وآليات نفاذها إلى العقول والضمائر. بين هذه الأخيرة ومفهوم "التونسة" في الكتاب الأوّل كنت أبحث عن تفسيرات وصيغ تفيدني في فهم طباعنا الباردة في بلادنا الحارّة فأسعفني صاحبنا العربيد بما "أشدّ به يدي" في انتظار تفتّق قريحتي.
هكذا هو الحديث مع محمد الصّالح كلما جمعتنا الحاجة أو الصّدفة أو الحنين، وكذلك هو الحديث عنه، يحملني إلى حيث لم أخطّط له منذ البداية ولم تكن نيتي سوى كتابة بعض انطباعات حول كتابه.
أغلب الرّفاق الذين توافدوا على السجن كانوا أبكار عائلاتهم ولست أعلم السبب. ربّما غمرة الاستقلال الجديد هي التي جعلت الآباء يهبّون إلى نسائهم ليَهِبُوا البلد شباّنا جددا يعيشون زمن الحريّة الذي لم يعرفه الآباء يوم كانوا في العشرين. ولما بلغ الأولاد بدورهم العشرين وجدوا أنفسهم خارج مسار الحلم. انحاز الطريق قليلا ليوصلهم إلى السجون مرورا بالجامعة. الآباء والأمّهات لم يخطّطوا لذلك، وربّما لا أحد خطّط لذلك. وبدأت حكاية عائلات المساجين وحكاية المشاعر الباطنية التي قلّ أن عبّر رفيق عنها، من باب الحياء، أو الالتزام النضالي، أو تغليب المنفعة العامّة على المصلحة الخاصّة، وكنّا نكره كثيرا الخاصّ والخواصّ والخوصصة بقدر كُرهنا للخَصْيِ الذي مارسه بورقيبة على رجالاته.
يوم تقديم الكتاب بمكتبة ليبريس قال الرفيق عزالدين الحزقي، وهو نزيل آخر من نزلاء "برج الرّومي" أنّ ما قرأه في الكتاب كان جلّه كامنا بين السّطور. رسائل محمد الصالح إلى إخوته من وراء القضبان، أحاديثه إلى أمّه في البارلوار، مناجاته لأبيه بعد وفاته … جميعها محاولة لتأسيس حضوره كربّ عائلة جديد بعد موت الربّ الطبيعي، عمّ حمدة العتّال.
غريب أمر الذّاكرة، وأنا أحضر البارحة تقديم كتاب، لصديق عزيز عليّ، عن ذاكرة مرّ عليها ما يقارب الخمسين عاما (بداية من حرب بنزرت) وأنا لست متيقّنا إن كان الكلام الذي قيل بالأمس فقط كلام عزّ الدّين أم الصادق بن مهنّي، رفيق الدّرب هو الآخر، الذي تدخّل بدوره ليلمس لدى الكاتب محاولاته الحضور بالغياب عبر رسائله، وحرصه على تسيير أمور العائلة الذي وضعت آمالا فيه ليعيلها فلم يستطع حتّى أن يكون حاضرا يوم دفن أبيه، لأنّ السلطة رفضت عليه هذه اللّحظة. كانت أحرصَ على الأمن من حرصها على المشاعر، وأوامرها تمرّ عبر آليات الإدارة، والإدارة مشخّصة في بشر يسمّون البوليس. عندما تصل التعليمة إلى هذه الحلقة يرتبك ذيل السلسة كما يرتبك جندي الواجهة في حرب خاسرة يريدها الكولونيل نصرا مبينا.
"وما إن صعدت مخفورا في سيارة جماعة سلامة أمن الدّولة وانطلقت نحو سجن برج الرّومي حتّى خيّم على الجميع صمت أقرب إلى صمت الموت فكأنّ أجواءه تلاحقنا…
وجاء الخطأ الذي فجّر المسار عن أحدهم عندما عاد ليتقمّص دوره كون فنّ الاستفزاز جزء من قانون لعبتهم، فقد عمد هذا "الضّامر" إلى قطع الصمت الجنائزي وأطلق بنبرة ناصحة ومتأسّفة متوجّها إليّ : اللّه يهديك، لو كتبت رسالة عفو إلى الرئيس…"
هكذا روى محمد الصالح فليس في كتابه "عمّ حمدة العتّال" الصّادر عن "دار نقوش عربية".
كلّ ما ورد في الكتاب تقريبا، وبمعنى من المعاني، وكلّ حكاية السجن واليسار وأجيال من شباب السبعينات والثمانينات، وكلّ ما سيأتي بعدها إلى يوم النّاس هذا، لا يعدو أن يكون حكاية بحث عن إيجاد الردّ المناسب على مثل هذه الخاطرة التي طفحت بها بلادة عون يصحب سجينا سياسيا إلى البرج، وأبوه لم يدفن بعد، والابن لن يحضر الجنازة…ولن يقيم الحداد.
المراجع
alawan.org
التصانيف
أحداث تاريخ تاريخ إسلامي