السبت, 28 جمادى الأولى 1446هـ الموافق السبت, 30 تشرين الثاني 2024

يعْبرُ كلّ صباح كما لو يؤدي طقساً مرعياً. أينَ يمضي؟ ينسحبُ منه الخطو بتؤدةٍ، فيتبعُه هو بمقتضى الحال. يعرفُ أنّ المداسَ إنّما يمضي به، في كلّ صباح، إلى أبعد من الخطوة الواحدة. لكنّه يداومُ العبور. لا يعبرُ مثلما لو يغادرُ اجتماعاً كابساً، على رؤوس أصابع الرّجلِ. لعلّه كان يفعلُ أيام كان يعملُ. أمّا اللحظة، فينسحبُ بكامل جسده كأنّما يقطعُ جسراً معلقاً في السماء بيْن جبليْن، وفي الأسفل ثمّة فراغٌ وسيعٌ ومديدٌ، ومنه يصخبُ ماءٌ، ويملأُ الفضاء بهدير ضاج. لم يكن يسعفُه النظرُ الضعيفُ لكي يستجليَ ما يحصلُ في المحيط. وهنَت منه العينان، كما وهنَت منه باقي الأعضاء. نظارتاه الطبيتان ما عادتا تسعفان بصرَه الكليل. يفترشُ العكاز بخطوات تكادُ تلتصقُ بعضُها ببعض. يهشّ بالعكاز وهو يوَقّع بمداسه فوق الإسفلت، أو على مربعات الرصيف. وبالحدس يتخيّل الحاصلَ. وبالكاد أتصوّرُ أنا حاصلَه ذاكَ.

في العادة، وهو يسلكُ قدّام المقهى، لا يمنحُ انتباهاً يذكر للزبائن. لا يهمّه، في الحقيقة، شيءٌ من أمر القاعد منهم والواقف، والوالج منهم والمغادر. وحتماً لا يعنيه من أمري، أنا الآخر، شيءٌ. كيف يعنيه وبيْن قعدتي هاته، وعبوره ذاك، زجاجٌ مظللٌ فاصلٌ؟ يفتحُ الزجاج على نظري، ويغلقُ على نظره. ثمّ لنْ يعنيه، بالقطع، شأني ما دام لم يسبق أن تكافحنا أو جمعَنا غرضٌ. وليس ما يجمعُنا الآن سوى هذه العمارة، قبالة هذه المقهى. وإلى ذلك، لا يجمعنا طابقٌ بالعمارة. أفهمُ بالتجربة أنّه يقطنُ بالطابق الأول. حدث أن تحصّلته عند المصعد، فيما هو يدخله، ويغلق، ثمّ يضغط على الزر. يصل المصعد إلى الرقم 1،  فيتوقف. داخل الجهاز أسلّم أنا، فيردّ هو السلام دون أن يزيد بلفظٍ. حينما تكرّرَ الأمرُ لمرة ثانية، ولعلّها الثالثة فيما أظنّ، أدركتُ أنّه يأوي إلى شقّة بالطابق الأول. وأكاد أخمنُ إلى أيّ الشقق يدلفُ.

بالصدفة، فهمتُ أنّه جَدٌّ. بيد أنّه ليس بالصدفة عرفتُ أنّ له ابنة طبيبة. لم أزر العيادة، أقصد عيادتها، كي أعرف خبرها. فقط، في زيارة لي إلى «لافيل في» حدستُ أنّها من ذوات البلوزات البيضاء. لم أحدس في الواقع، إنّما سمعتُ القابضة بسوبر مارشي ذاك تسميها بالدكتورة، وتسألُها عن إمكانية زيارة. هل كنتُ أتلصّصُ السمعَ؟ ثمّ إنّني لا أدري أيّ تخصّص تمارسُ. لربّما هي متخصّصة في أمراض نساء. أرجّحُ، ولا أقطع بشيءٍ. القابضة قالت الدكتورة، ولم تقل الدكتور. لكن هذا لا يهمّ أيضاً. أنا لم أجرؤ فأسأل حارس العمارة. احترازاتي هذه لا يوازيها غير التكتّم على أمري بالعمارة، وأنا الذي دخلتها قبل أيّام.

بالواقع، لا أرغبُ في أن أقيمَ صلةً بجارٍ. يكفيني أنّني أدخلُ شقّتي بالطابق الخامس، وأكتهفُ فضاءها كأنّما أتخلّصُ من العالم. فقط، عندما يعبرُ العجوز كلّ صباح وزان المقهى، أتذكّرُ أنّ له ابنة جميلة، وتمارس الطبابة. أرى العجوز كلّ صباح، فأرى الطبيبة. في أوقاتٍ أظلّ أتابعُ حركتها، فيما هي تفسحُ له في سيارتها الكات كات. تسكنُه في المقعد جوارها، وتزنّرُه بالحزام. وتقيمُ طفلتَها في المقعد الخلف، وتغلقُ عليها. تفعلُ مع والدها كما لو تفعلُ مع صبي صغير، قد ينكسرُ لأبسط تصرفٍ في غير محلّه. ثمّ تحركُ السيارة، وتسوقُ ببطء. من موضعي وراء الزجاج المظلّل أبقى أتابعُ سير السيارة وهي تنْأى.

أعودُ بالبصر إلى أوراقي ما إن يبرحَ العجوزُ كامل المجال، إذ يمرّ. لكنّ تفكيري لا ينفكّ منشغلاً بمرآه بينما هو يعبرُ أمام المقهى. يعبرُ الرجل السبعيني دائماً في الاتجاه عينه. ولستُ أعلمُ لمَ أخمّنُ في أنّه قد يكون ثمانينياً؟ يحتبي بذلة أوروبية في مرّات. وفي مرّات يتلفّعُ بجلبابٍ أبيض وبطربوش تركي ذي شُرّابة سوداء. وتقريباً بلونٍ للحذاء لا يتبدّلُ؛ لونٌ بني.

وعندما أرسمُ الكلمة الأولى، في الجانب الأيمن من أعلى الصفحة، يبدو لي المشهدُ واضحاً. لقد مرّ الرجلُ، يمشي ويضرب بعكازه في الأرض مثلما لو يؤدي شعيرةً مصونةً. المشهدُ هذا يختفي بالتدريج مخلفاً المكانَ لمشهدٍ آخر تحتلّ الطبيبة، ذات الوزرة البيضاء، بؤرة مداره.

داخلَ الورق، أراني أسألُ حارسَ العمارة عن عنوان العيادة. ودائماً داخلَ الورق، أجدُني أتمارضُ، فأزورُها. خارجَ الورق أرفعُ بصري إلى النافذة الرحيبة بالطابق الأول من العمارة في القبالة، فلا أتعيّنُ شبحاً يتحرّكُ. أدركُ أنّ الشقة خاليةٌ. لم تكن خاليةً تماماً، فثمّة طيفُ امرأة يشغلُ الحيّزَ من حين لآخر. وأخمّنُ أنّ الطيف إيّاه للخادم. متأكدٌ أنا من تخميني. لا العجوزُ يشغلُ الشقة ولا الطبيبة ولا الطفلة. لكن كيف فكّرتُ في الخادم؟  الفكرة عنت لي لمّا تواجهتُ معها بالمصعد وهي تغادرُ عند الطابق الأول. قلتُ مع نفسي لن تكونَ الشابةُ غير الخادم بشقة الطبيبة الجميلة. الخادمُ في العشرينيات، وجميلة بدورها. ربّما أكثرَ جمالاً من الطبيبة الثلاثينية، بيد أنّها أقلّ اعتناءاً بجمالها. ثمّ إنّ الطبيبةَ أكثرُ أناقةًً. وهذا لا يحتاجُ إلى تأكيدٍ.

وأنا لم أراها رفقة رجل عدا العجوز. لم أبصرها بمعية امرأة قريبة من سنّ أبيها. أنا أقدّرُ بأنّ الرجلَ والدُها. وهذا تقديرٌ فحسبُ. وككلّ تقديرٍ قد يخطئُ. لعلّ الرجل أرملٌ. ولم أصادفها صحبة رجل قريب من سنّها. لعلّها مغيبةٌٌ، أو ثيب، أو أرملٌ هي أيضاً. لا أجزمُ بقرار. ولم أراها أثناءما ترجعُ إلى العمارة. أكونُ ساعتها قد غادرتُ المقهى.

حريصٌ أنا على الالتزام بالقعود في المقهى صباحاً. ينتصفُ النهار فأغادرُ. ألمّ أوراقي وأسوّيها بالترتيب اللازم في دافن المحفظة الجلد، ثمّ أرْتبُ وأسيرُ إلى شقتي. في الغالب، تأتي هي شقّتَها بعدما أكونُ أنا بارحتُ بأكثر من الساعة من الزمن. ليس لديها من وقتٍ للعودة، وإلاّ لكنتُ اختلقتُ الأعذارَ كي أطيلَ القعدةَ إلى حين ظهورها بحذاء العمارة، فأسرعُ إلى نقد النادل ونفحه، وأغذّ الخطو حتّى ألحقَ بها، وأهتبلَ فرصة دخولها إلى المصعد، فأحشر جسدي بالسرعة المطلوبة إلى جانبها. وربّما اصطنعتُ حديثاً يكونُ البداية. لكلّ شيء بداية ولا شكّ، علماً أنّ الرحلة إلى الطابق الأول هي أوجزُ من تبادل تحية عابرة. بيد أنّني أتوسّمُ في أن تكونَ بداية لأحاديث خارج المصعد. ومن يدريني، لربّما تكون أحاديث أوسع من تبادل تحايا خاطفة من وقت لآخر؟

يلحّ عليّ داخلَ الورق هذا السيناريو لكم مرّة. واليوم فقط، صار يلجّ، إذ سقطَ بصري على قوس الجريدة (21 نونبر _ 19 دجنبر). يقول القوسُ ليومه 24 أكتوبر 2011: «تبحث عن شريك عاطفي يشاطرك الأهواء والأفكار والأعمال والمشاريع. أما إذا كنت مرتبطا فتبدو أكثر قربا من الشريك تسويان المشاكل السابقة وتنتقلان إلى مرحلة أخرى من العلاقة». أتأملُ في القوس ملياً. بل أُبْقي بصري مركزاً على الفقرة الأولى منه، ثمّ أرفعُ رأسي إلى الطابق الأول. وأعيدُ القراءة، فيما أنا أتطلّعُ إلى النافذة العريضة بالطابق من جديدٍ. أعودُ إلى الورقة، ولا أدري كيف أخطّ الفكرة على الصفحة. هذه الصفحة تطاردُني، وأنا أطاردُ بالنّظر العبّار قدام المقهى، والسابلة جوار العمارة، فلا أظفرُ بغير شتات صورٍ. داخلَ الورق أقومُ بزيارة عيادتها ذات صباح مشمس. لا بدّ أن يكون صباحاً مشمساً، تماماً مثلَ صباح هذا اليوم، حتّى تستقيمَ الحكايةُ. أقولُ لها بينما هي تجسّ نبضي: أنا جارُك بالطابق الخامس. تردّ بابتسامة طبّية لذيذة: مرحبا أقول لها: أنا أستاذٌ بالكلية. تجيبُ بالابتسامة على المنوال نفسه: مرحبا

يعبرُ العجوزُ عائداً إلى العمارة. من أينَ يجيءُ؟ لا يولي اهتماماً للزبائن. كما في الذهاب يفعلُ في الإياب. كأنّما لا وجود للمقهى. كانّما لا أوجدُ في الزاوية، أقتعدُ طاولةً، وأمامي أوراقي مبسوطةً، وجريدة تصدرُ من الدار البيضاء. بالبطء نفسه يمرّ. يهشّ بالعكاز ويمشي على الرصيف، ثمّ لاحقاً فوق الإسفلت عند خطوط الممشى الصفراء، فالرصيف. أخفرُه أنا من مكاني ببصري إلى غاية باب الشقة. ثمّ يدخلُ، ويغلقُ دوني. يسدّ الباب في ملء بصري. أجرّ بصري جراً إلى الطاولة، وألتفتُ يميناً وشمالاً.

أخرجُ من الورقِ، وأضمّها على نحو معلوم. ثمّ أطوي الجريدة، وأركنُها في الجانب فوق الطاولة الزجاج. أطلّ على قعر الفنجان كما لو كنتُ أمنّي النفْسَ بجرعة، وأطلبُ كأس ماء. قبل ذلك أكونُ قد نقدتُ النادل ونفحتُه، واستعدت للمبارحة.

                                                  أكتوبر 2011

 

Related Posts via Categories

<
end post-content>

المراجع

saddana.net

التصانيف

تصنيف :أدب  تصنيف :أعمال أدبية  مجتمع   الآداب   قصة