كنّا في السادسة من عمرنا حينما دخلنا إلى المدرسة ذات السّور الإسمنتي الذي يحْجبُ كلّ ما في الحياة خارج المدرسة، والباب الأسود الضّخم، والملعب الخالي من الأشجار والزهور، والصّفوف المرتبة بطريقةٍ قاسية، كنّا برتقالات يانعة تمّ عصرنا وتجفيفنا من مياهنا ورطوبتنا، حُمّلنا أكياساً من الأيديولوجيات أحنَتْ ظهورنا الطريّة. ومنذ ذلك الحين لم نعد نقوى على الاستقامة، أغلقتْ نوافذ طفولتنا وبدأ العمل الحقيقي على بناء إنسان مجرّد من كلّ حيويّة وفاعليّة وديناميكيّة، أفرِغْنا من نبضنا وتمّ حشونا بالكلس والإسمنت، فبتنا كائنات مسوخ جامدة تصلح لأن تكون طوباً لأبنية الأيديولوجية الشّاهقة.
تعلّمنا في المدرسة أشياء كثيرة منها أن الدّراسة أهمّ من المتعة، فكلّ محاولةٍ للتّعبير عن المتعة كانت تُصادَر وتوضَع على هامش الدراسة، فالموسيقى والرّسم والرّقص والرّياضة هذه كلها هامشيّة، أو بالأحرى هي أدوات مهمّة من أجل الاحتفال بالأعياد الرسميّة، حتى أن الرّحلات كانت تأخذ طابعاً تجهّميّاً فالفرح والبهجة لهما أيضاً قواعدهما الصّارمة، حتى فيروز جُعِلَ منها مدرّسة تلقننا الدروس في فترة الاستراحة (الفرصة) لدرجة أن أذني كانت تنفر من صوتها في المدرسة ولا أشعر بقيمته الجمالية إلا خارج المدرسة.
أما اللغة العربية والتربية الدينية والرياضيات والاجتماعيات فهذه مواد أساسيّة وينبغي علينا تهميش كلّ شيء لأجلها، ومن شدّة الخوف من هذه المواد كنّا نهمل فهمها من أجل أن نحفظها عن ظهر قلب ونحصل على علامةٍ عالية، ذلك أنّ المعيار الأوحد للتقييم هو(الدّرجة) إذ لا يهم أنْ نفكّر، لا يهم أن نبْدي رأياً، لا يهم أن نفهم، لا يهم أن نبدع، لا يهم أن نستمتع…….فقط المهم هو أن نحصل على علامةٍ عاليةٍ والتفوّق مقترن بالطبع بهذه العلامة.
حُصِر الذكاء بمقدار الدّرجات التي يجب أن نحصل عليها، كنّا نقف في الصّف نصفّق ونحتفل بزميلنا المتفوّق الذي حصل على أعلى درجة، نُسَخّر جميعاً من أجل تكريمه والاحتفال به وكان المدرّسون يفضلونه علينا مع أننا كنّا ناجحين أيضاً، فالمعيار الحقيقي للتفوق لم يكن النجاح المقترن بالفهم أو بالأحرى ليس النجاح إنّما (العلامة) بحيث تصبح العلامة أهم بكثير من الفهم الحقيقي للمعادلات الرياضية، كما أنها أهم بكثير من الغنى اللغوي، وأهم بكثير من فهم الظواهر الطبيعية. هذا بالإضافة إلى النظرة الخاصّة للمتفوقين بالرياضيات أو الفيزياء فهؤلاء أهمّ من المتفوقين بالأدب بكثير، ذلك أنّ الطموح الأهم هو أن نصبح في المستقبل أطباء ومهندسين فهؤلاء هم الشّريحة العلميّة الأكثر احتراماً من بين المتعلمين.
وأسأل نفسي دوماً: لِمَ كلّ هذا الاهتمام بالفروع العلميّة مع أننا ننتمي إلى ثقافةٍ غيبيّةٍ بكل ما في الكلمة من معنى؟ ولا أجد إلا جواباً وحيداً هو أنّ احترامنا للطبيب أو المهندس ما هو إلا تكريس للطبقيّة الاجتماعيّة وزرْع للفوارق غير العادلة بين الناس.
العلامة في المدرسة هي النقود التي تُدفع للطالب من أجل الدّراسة، فبقدر ما يحفظ الطالب بقدر ما يكسب من النقود (العلامات) والفهم هنا ليس بذي أهمية، وكلما كان مع الطالب نقود (علامات) أكثر كلما كان مهمّاً أكثر من بقيّة زملائه، هكذا أصبحنا متنافسين من الطراز العالي، لا من أجل الفهم والإبداع والإفادة، إنما من أجل الحصول على نقودٍ (علامات) أكثر.
وقد تمّ إيهامنا بأنّ المنافسة في العلم هي منافسة شريفة فبتنا نكره بعضنا البعض ونرغب ألا ينجح الآخر من أجل أن ننجح نحن ونتغلب عليه، ونخبّيء الورقة الامتحانية عن زميلنا كي لا يأخذ معلوماتنا التي يجب أن نحتكرها لأنفسنا من أجل الحصول على نقودٍ (علامات) أكثر، ونبغض من يحصل على (نقود) أكثر ويتفوّق علينا بالنقود، فتحوّلت أجواء المدرسة كلها إلى أجواء عدائيّة وكرهٍ لنجاح الآخر، بل وكره للتفوّق نفسه، واقترن النجاح والتفوق بالرّغبة الجشعة في الحصول على نقود (علامات) أكثر وأكثر وباتتْ الرّغبة في المعرفة والعلم مقرونة بالشهادة (الورقة الكرتونية) التي يجب أن نثبت من خلالها للآخرين أننا أذكياء، فأصبحت عقولنا محشوّة بالمعلومات من أجل الاستعراض بها لا من أجل استثمارها في الحياة، وتحوّل الهدف الأول والأخير للدّراسة إلى شهادة مدْرجَة في برواز ذهبيّ معلّق على الحائط يقول للزّائرين انتبهوا هذا الشخص متعلم وعليكم أن ترهبوا جانبه.
كانت المناهج الدّراسية مفرطة في المثالية والرقيّ وكانت تحشو في رؤوسنا حبّ الوطن وضرورة الانتماء إليه وتحثنا على فعل الخير ونبْذ الفساد وأن الحياة جميلة والوطن أجمل… لكن الصّدمة بالنسبة إلينا كانت تحدث عند رؤية النّقيض الواقعي التام لما جاء في المناهج، وفيما بعد اعتدنا على هذا الشّرْخ وأصبح سلوكاً حياتيّاً عاديّاً، وفصلنا نهائياً بين المناهج الدّراسية والواقع، فباتتْ الدّراسة ترفاً هدفه نيْل الشهادة (الشهادة العلمية موازية للشهادة بمعنى الموت، كلتاهما جمود) من أجل الحصول على مكانة اجتماعية أومن أجل الحصول على عملٍ نأكل منه خبزاً، إذ لا أهميّة لنا كبشر إنْ لم نكن أصحاب شهادات محنّطة أو أصحاب ثروات مالية.
في المدرسة لا مشكلة في إهانة الطالب وزجْره، لا مشكلة في ضربه، لا مشكلة في تهميشه وإضعاف شخصيّته والسّخرية منه، لا مشكلة في إهانة كرامته الإنسانية وتحقيره أمام زملائه، لا مشكلة في إسْكاته ومنْعِه من النّقاش والحوار، لا مشكلة إنْ كان خاملا وليست لديه مواهب، لا مشكلة إنْ تمّ تمييز طالبٍ على آخر كونه ينحدر من أسرة ثريّة أو كون أهله أصدقاء لمدرّسٍ معين أو…. لكنّ المشكلة الحقيقيّة إنْ لم يكن الطالب مؤدّباً، واقفاً في الصّف، مُطيعاً، ملتزماً بكلام مدرّسيه، خاضعاً للإدارة، منفذاً لأوامرها، هناك مشكلة إنْ أبدى الطالب رأياً مخالفاً لرأي أستاذه، هناك مشكلة إنْ عشق طالبٌ وطالبة بعضهما، هناك مشكلة إنْ لم (يحفظ) الطالب الدروس وإنْ لم يكتب وظائفه في البيت، هناك مشكلة إنْ وضعت طالبة دبّوس زينة في شعرها، أو إنْ حمَل طالبٌ شريط كاسيت لمطربٍ يعتبره المدرّسون من أصحاب الفن الهابط إذ من الضّروري أن يستمع كلّ الطلاب لأم كلثوم أو عبد الوهاب مثلا فهؤلاء أيقونات الفن وكلّ ما عداهم يخرج من الحياة، كانوا (ماضويّين) في كلّ شيء.
ذات مرّة ارتكبتُ جرماً بحيث أني لم (أحفظ) جدول الضّرب فقام مدرّس الرياضيات بضربي كي أتعلّم جدول الضّرب، حينها بكيتُ كثيراً، لكنّي الآن أتساءل ماذا سيكون شعور هذا الأستاذ لو أدرك أنه ضرب طالبة يوماً ما وما زالتْ تتذكّر هذه اللحظة لدرجة أنها تذكرها في مقال؟! وهل أستاذي كان يفهم في الرياضيات؟!
كما وأذكر كيف وبّختني مدرّسة التربية العسكرية (الفتوّة) التي قرّرت التخلّي عن أنوثتها بجدارة، فقد أهانتني ذات مرّة أمام زملائي لأني فشلتُ في رمْي الرّصاص على(الدّريئة) حيث أنه كان يجب علينا إتقان إطلاق الرّصاص وكان ذلك قبل أن تلغى هذه المادة نهائياً من المدرسة.
في ذلك الوقت كنت مراهقة صغيرة مولعة بالرّقص الشرقي، وكنت أغلق باب غرفتي لساعات وأرقص أمام المرآة، لكن هذا النّوع من الرّقص مُحارَبٌ في المجتمع وهو بالتالي مُحارَبٌ أيضاً في المدرسة طالما أنّ المدرسة جزءٌ لا يتجزأ من المجتمع، بل لا وجود لكلّ أنواع الرّقص ما عدا الدّبكات الشعبيّة الجماعيّة فهذه فقط هي المسموح بها في المدرسة، مع أن الرّقص الشرقي هو أيضاً جزءٌ من تراثنا الفنّي كشرقيين ولكن تمّ تجاهله وربطه بالسّلعيّة والفسْق، مُنِحَ الاهتمام كلّه لتراثنا الديني أو التاريخي والسياسي. ولكن أليس الرّقص والإيماءات الجسديّة هي أهم ما يعبّر عن ثقافة الشعوب وتفكيرها؟ وهل (الباليه) أو(الفلامينغو) أهم من الرّقص الشّرقي؟ فلماذا لا نهتمّ بتراثنا الرّاقص هذا ونحترمه مثلما فعل الآخرون؟
في المدرسة لم يكن هناك مدرّسة تُعنى بالرّقص أو المسرح إنما كانت هناك مدرّسة تُعنى بتعليم الطالبات الخياطة والتدبير المنزلي وتربية الطفل، حيث لا أهميّة للأنوثة وتعزيزها من خلال الرّقص لكن هناك أهمية كبيرة جداً من أجل صنع أمهات مربيّات لا يفهمن شيئاً في الحياة غير الزواج والإنجاب، بل لا يفهمن الزواج والإنجاب إنما يمارسْنَه وفقاً للإطار الذي تعلمْنَه.
وكان هاجس مدرّس الاجتماعيّات (التاريخ والجغرافيا والقومية) الدائم هو تلقيننا حبّ الوطن والاعتزاز بتاريخنا والنضال من أجل الوحدة العربية، لكني كنت كما الآخرين لا أدري كيف سنحبّ وطننا ونشعر بالانتماء إليه بشكل عفويّ وتلقائيّ دون تلقين، وكنّا ننسى ما قاله لنا الأستاذ حينما ننتهي من الامتحان بالمادة، كنّا نحفظ كلام الأستاذ حرفيّاً، فقط من أجل أن ننجح في المادة وبعد انتهاء الامتحان نمزّق الكتب بحيث لم يعد منها فائدة فهي تنظير بتنظير.
البارحة بالضّبط تذكّرت كلام أستاذ مادة الاجتماعيّات عن الوحدة العربية حينما كنت أستمع لنشرة الأخبار وكان المذيع يتحدّث عن الحدود المستحدثة في الآونة الأخيرة بين الدّول العربية، فكلّ دولة باتتْ ترغب في ضبط حدودها أكثر وأكثر مع حدود شقيقتها العربية المجاورة لها، فنسمع مثلا عن حدودٍ مرتقبة بين اليمن والسعودية وحدودٍ فولاذية بين مصر وغزة وو……
نُغلق على أنفسنا الأبواب والنّوافذ بإحكام في الوقت الذي نسمع فيه عن التعاون المتزايد يوماً بعد يوم بين الدول الأوربية وعن توسّع الاتحاد الأوروبي أكثر وأكثر، حيث الانسجام في كل شيء والانفتاح والتبادل الثقافي والتجاري وتسهيل المرور والمواصلات بين دول الاتحاد الأوربي بل أنه لا ضرورة لتأشيرات الدخول فالحدود بين كلّ دولةٍ وأخرى حدود ترسم ملامح الدولة الجغرافيّة ليس أكثر.
وبالرّغم من كلّ ما أحمله في ذاكرتي من أشياء تثير الاشمئزاز ممّا كان يحدث خلف السّور إلا أنني لا أشعر بالحقد تجاه مدرسيّ بل أفكّر تجاههم بعمق يجعلني أدرك أنّهم بشكلٍ أو بآخر كانوا ضحايا أيضاً، ضحايا العنف والقهر، ضحايا المعرفة الوهميّة، ضحايا الهزائم والإيديولوجيات المريضة، فالإنسان في المجتمعات المقهورة لا يمكن إلا أن يكون ضحيّة وجلاداً في نفس الوقت، يُمارس عليه القهر ومن ثم يبدأ هو بممارسة القهر وهكذا في سلسلةٍ من الإسقاطات القهريّة من الأعلى إلى الأدنى.