على الذين يزمّرون، بمناسبة وبغير مناسبة، عن روحانية الإسلام أن يفسّروا لنا كيف انتهت تلك الروحانية المفترضة إلى قطعة جلد منفوخة، وكيف أُنزِل الله من سماواته المفترضة ليكون طرفا في صراع كرويّ أرضيّ، يجمع بين فريقين يلعبان فوق مستطيل أخضر كنّا نظنّ أنّه في منأى عن المساجد والكنائس وعن الحسينيات والدعوات؟ على مروّجي الروحانيات ومختلف المُسْكرات الأخرى أن يفسّروا لنا كيف يمكن أن يعتقد مؤمن بإمكانية استمالة الربّ إلى مناصرة فريق كرة قدم إسلاميّ على حساب فريق إسلاميّ آخر؟
على هامش مهرجان السينما الدولي، سُئل الممثل أحمد ماهر عن حالته النفسية وهو يشاهد مباراة مصر والجزائر فقال من يدّعي الفنّ الحديث بالحرف الواحد: “في الدقائق الأخيرة بلغتُ درجة من اليأس لا تطاق، رفعت رأسي للسماء وقلت : “يا الله إحنا مصر”، وكان حريّا به أن يمضي إلى آخر هذيانه ويضيف: ”وساعتها استجاب الله لدعائي فأرسل الله ملاكا هدّافا فسجّل هدفا ثانيا لصالح مصر المسلمة في مرمى الجزائر الكافرة”.
أمّا الرئيس حسني مبارك فقد حضر شخصيا حصّة تدريبية للفراعنة وحثّ اللاعبين على الجهاد الكروي قائلا: “ربنا بينصركم”. على مين يا سعادة البيه؟ أليس المؤمنون إخوة، كما تدّعي خطب الجمعة ودروس الأزهر؟
في اليوم الذي تلا موقعة القاهرة التي فاز فيها منتخب “الساجدين”، كما يطلق عليه الإعلامنجيون المصريون والعرب، كتبت جريدة الجمهورية المصرية : ” الحمد لله.. فرجت.. وكنا نظنّ أنها لن تفرج..وسيكون الأربعاء القادم بإذن الله هو اليوم الموعود..” ولكن غابت القدرة الإلهية عن الموعد الذي ضربته لها جريدة الجمهورية وانتهت حرب أمّ درمان وانهزم فريق “أمّ الدنيا” ولم يتدخّل الله هذه المرة لحمايته من فريق “بنت الدنيا”!
“يا لهوي!” كما يقول المصريون، أهكذا يغيّر الربّ معطفه بين عشيّة وضحاها، البارحة مع الأحمر وها هو اليوم يناصر ‘الخضراء”! ولكن يفعل الله ما يشاء بدون حساب. فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، كما يقول معشر المسلمين.
وراحت جريدة الجمهورية الغراء تعزف ثانية لحن مشيئة الله مبرّرة الإقصاء الربّاني من المونديال، فزجّت بالله وأنزلته من عليائه إلى ملعب المريخ للتأثير على تصفيات كأس العالم وكتبت بالحرف الغليظ على صفحتها الأولى ” قدَّر الله..وما شاء فعل. تأهّلت الجزائر وضاع الحلم”. لم يصب المنتخب المصري إلا ما كتب له الله ربّ العالمين. فلماذا “الزعل” إذن؟ كلّ شيء كان مقدّرا مكتوبا ! لماذا تقديم ملفّ للفيفا إذن؟ هل هي أعدل من السماء؟
أمّا جريدة “الهداف الجزائرية”، فقد كبّرت وحمدلت كاتبة بعد انتصار الفريق الأخضر: “الله أكبر..ظهر الحقّ وزهق الباطل”. وتوجّهت “الجزائر نيوز”، اليومية السياسية، في صفحتها الأولى مباشرة إلى الربّ العالي : ” شكرا لك يا ربّ !” وكانت قادرة أن تكتب دون خوف من الزلل: “شكرا لك يا ربّ الرئيس مبارك وأغلبية المصريين”.
ولا يخرج محمد مشرارة، رئيس الرابطة الجزائرية لكرة القدم، عن نفس منطق التضرّع والشكر الموجّه للعناية الإلهية حينما يصرّح وهو راض عن تدخّل الله وإنصافه وعونه : “العدالة الإلهية أنصفتنا.” وكان ممكنا أن يكون أكثر دقّة ويقول إنّ العدالة الإلهية قد انتقمت للجزائريين المسلمين من المصريين المسلمين أيضا!
ندّد الشيخ محمد طه في خطبة صلاة الجمعة التي تلت المقابلة بالفتنة، وطالب المسلمين بالتوحد متأسفا عن ضياع التودّد والتراحم بينهم وهي قيم نبوية، يقول الشيخ إنها ضاعت ويستنتج أنّ هذا الأمر من “علامات الساعة ولا حول ولا قوّة إلا بالله”. لا يا شيخ، أحبّ كرة القدم وأعشق ”الخُضر”، وأتمنّى ألا تقوم الساعة قبل أوّل مونديال بقارّتي السمراء، إفريقيا. ما ذنب الآخرين هل يعقل أن “يروح كل العالم في داهية”من أجل عيون المسلمين يا حاج؟
ويقول إمام مسجد الأمير عبد القادر بقسنطينة الجزائرية في خطبة جُمعته حاثّا المسلمين على تقبّل الهزيمة مثلما تقبّلها النبيّ “حينما سبقت ناقة أعرابيّ ناقته صلّى الله عليه وسلم التي كانت تسمّى القصواء، فغضب الصحابة حينها، فقال لهم الرسول وهو يبتسم ويقبل بهزيمة ناقته: إنّ الله تعالى كتب على نفسه أنه ما رفع من شيء من الدنيا إلا وضعه، وهذه الدنيا تتقلب بأهلها.. اليوم انتصار وغدا هزيمة.. فرسولنا يقبل بهزيمة ناقته..”
وغاضبا تساءل الشيخ ابراهيم الحارثي إمام وخطيب مسجد السديس في مدينة جدة : “هل يصح شرعا أن يختلف بلدان عربيان على مباراة لكرة القدم؟! ويتأسّف على ضياع الحماسة التي تخلقها كرة القدم التي كان يجب أن توجه إلى إصلاح المجتمع والحرب على الرذيلة، كما يتوهّم ولكنه ينسف كلّ ما ادّعى عندما يختم قائلا “وصدق الله حينما قال: لكلّ وجهة هو موليها “.
في الدقائق الأخيرة من المقابلة منح لنا اللاعبون المصريون والجزائريون الذين كانوا على كرسيّ الاحتياط فرصة التمتع بلوحة سوريالية من أطرف ما يرى هواة جمع اللاعقلانيات : كان الخضر رافعين الأيدي إلى السماء متوسّلين إلى الله العليّ الحارس ألا تهتزّ شباك فريقهم وفي نفس الوضع الخاشع كان الحمر يتوسّلون إلى الله الهدّاف طالبين منه تسجيل هدف لمعادلة النتيجة!
وإذا رد الملاحظ موقف اللاعبين إلى صغرسنّهم وتواضع زادهم الثقافي، فإنه لا يشعر سوى بالإشفاق على بعض من أطلقوا على أنفسهم اسم فنانين وهو يشاهدهم على مدرجات الملعب رافعين الأيدي إلى السماء وأفواههم تتمتم، تشحذ أهدافا من ربّهم العليّ العظيم متناسين أنه نفس ربّ المنافسين! ولكن من اعتاد تقبّل الرشوة والمحاباة ومنافقة الحكّام على الأرض يسلك نفس السلوك حتى مع الآلهة في السماء. فهل خلق الله البشر على صورته أم أن البشر هم الذين خلقوا الله على صورتهم؟
لو كان الدّعاء مفيدا لكان المسلمون خير أمّة أخرجت للناس على وجه الأرض إذ لا أمّة تبذر الوقت والمال والجهد في التضرّع والشحاذة الغيبية مثلهم. لو بَدل اتهام اللاعبين الجزائريين بجرح أنفسهم، جنّدت مصر شيخا من شيوخ الأزهر ليقول إنّ حافلة الفريق الجزائريّ قد أنزل الله عليها في المطار طيرا أبابيل رمتها بحجارة من سجّيل لصدّقتهم الجماهير التي زيّف الإعلام المتأسلم وعيها. ولو قال إمام في الجزائر إنّ ملاكا من الله قد أعان عنتر بن سعدان على هزّ شباك فريق مصر المحروسة لما استغربت إن صدّقته جماهير الجزائر المخدّرة بالدين. فلماذا يستغرب المسلمون من تعاويذ الإفريقيين وحركاتهم السحرية قبل المباريات إذن؟
هل يقدّم الإعلاميون والسياسيون والفنّانون للشباب العربيّ الصاعد منهجا آخر غير منهج “القضاء والقدر والتوفيق من الله” الذي يرسّخ في أعماقهم الخنوع والاتّكالية، فيشعر الشبّان كأنّهم مجرّد شعرة في مهبّ الريح. فمن أين تأتي النهضة حينما ننكر مجهودات الفرد وننسبها إلى قوّة غيبية ونردّ هفواته إلى نفس تلك القوّة الغيبية أيضا؟
أظهر الحدث اضمحلال ما تبقى من فكرة المواطنة في أذهان المثقفين والسياسيين والناس الغوغائيين، فلا نسمع ولا نقرأ في هذه الأيام المجنونة عن المصريين والجزائريين سوى : “أوَليسوا جميعا مسلمين؟” و”نحن كلنا مسلمون!”. وهكذا يقصى من المواطنة أكثر من خمسة ملايين مصريّ قبطيّ وبضع آلاف من المسيحيين الجزائريين وأعداد لا بأس بها من الملحدين واللاأدريين وغير المؤمنين في كلا البلدين!
وإن لم نكن مسلمين “يا عالم” هل نتقاتل؟ أم هي فكرة الجهاد وكره الآخر تعبّر عن نفسها بشكل غير واع؟
متى يخرج العرب من حضارة الدّعاء إلى حضارة العقل والبناء؟ ومن الشعبوية الدينية إلى الروحانية الحقّة؟
قريبا.. إن شاء الله.
المراجع
alawan.org
التصانيف
تاريخ أحداث أحداث جارية