أكذب إذا قلت بأنني لم أتأثّر بما يسمّيه هيجل بـ"روح الوقت" Zeitgeistالذي غلّف بردائه الشبحيّ أوروبا خاصّة والعالم عامّة، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي وانحلال دول الديمقراطيات الشعبية" وانقراضها. الحدثُ جللٌ والانكسار بالغ قد أصاب العقل والوجدان في الصميم. لم أكن شيوعيّا ولا ماركسيا- لينينيّا، ولكن كنت مثل الملايين الحالمين بالحرية والعدالة اشتراكيا "حنيفيا". لقد تعلّقت أساسا بالثورة الروسية العظيمة من خلال روايات مكسيم جوركي وسينما إيزنستين وأشعار ماياكوفسكي، وقرأت الكثير عن حياة الثوّار الماركسيين الكبار مقابل قراءة القليل من نصوصهم. كانت الماركسية لا ماركس هي المرجع والأساس.. وكانت الثورة لا الفكر هي العقيدة والإيمان. لذا غار المرجع وسقط الأساس وتزعزعت العقيدة واهتزّ الإيمان بمجرد سماعي- مثلا- لمذيع "خبيث" يردّد متشفّيا الجملة التالية: ما كان يسمّى بالاتحاد السوفييتي…
فلقد أحسست فجأة أنّني قد كبرت سنّا، وهرمت عمرا، وقفزت ألوف السنين الضوئية في زمن مستقبليّ خارق قياسا على أزمنة حجرية وبرونزية منقرضة. وتساءلت في هلع: هل أنا ديناصور العصر الجديد؟ كان من الضروريّ، بل ومن الحيويّ، أن أعثر فورا على جواب "غير لينينيّ" لسؤال "لينينيّ": ما العمل؟ (في الواقع فإنّ لينين نفسه استعار هذا السؤال الشهير من ثوريّ روسي نيهيلي مشهور)، خاصة وأنّ أمرا عجيبا بدأ يحدث من حولي: رفاق ماركسيون وغيفاريون حلقوا – كفرا ويأسا- لحاهم التي شبّوا عليها وآخرون كانوا "مردا" أطلقوا لحاهم، إيمانا واحتسابا، وأصبحوا بـ"نعمة الله" إخوانا.
لم تكن لي لحية أحلقها. ولكن كان بداخلي فضول لمعرفة حقيقة ما وقع. وأكذب –مرة أخرى- إذا قلت إنّه بعد عشرين عاما على انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكّك "الديمقراطيات الشعبية" (1989-2009) فهمت بالكامل "حقيقة" ما وقع… ولكنّ بعض الحقائق البسيطة (والخارقة في نفس الوقت !؟) تكشّفت وتوطّدت فيما يخصّ –تحديدا- ماركس والماركسية ومستقبل العالم المعاصر:
ماركس: غاضت تماما صورة ماركس المحنّط والمكتشف المزعوم لـ"علم الجدل المادّي والثوريّ" كما كرّست (أي هذه الصورة) من كاوتسكي إلى ستالين إلى لوي ألتوسير، وحلّت محلّها صورة ماركس الإنسان والفيلسوف المثير للجدل في علاقاته المعقّدة والغنيّة مع كانط "الأنواريّ" وهيجل "الفنومنولوجيّ"، ومجمل التراث "الإيديولوجيّ" الألمانيّ المعقّد والغنيّ (ألم يظلّ كتاب "الإيديولوجية الألمانية" لماركس و"مخطوطاته الفلسفية" مجهولين إلى حدود الثلاثينات من القرن العشرين؟).
الماركسية: هذه أكبر أسطورة وأكذوبة معاصرة حدثت لما أُفرغ فكرٌ بأكمله من نسغه الحيّ، وصُبّ في قالب جامد بالشكل الذي دشّنه أنجلز بعد موت ماركس، وأتمّه ستالين بعد أن أحكم قبضته الدموية على الثورة البلشفية. أمّا ماركس فهو الذي صرّح متحدّيا و"متنبّئا" بمصير فكره: كلّ ما أعرفه أنّني لست ماركسيا.
مستقبل العالم المعاصر ليس محدّدا حصرا في "نهاية" مزعومة للتاريخ أو الإنسان أو الأيديولوجية، كما أنّه ليس تحقّقا موهوما وفجّا لليبرالية خانت مُثُلها التنويرية الأصلية. مستقبل العالم المعاصر ما زال مفتوحا على إمكانية يصنعها نضال يعيد اكتشاف إنسانية الإنسان وإراداته الصلبة التي لا تقهر في بناء مجتمعات الحرية والعقل والتقدّم. وعليه، وبعد مرور عشرين سنة على نهاية الاتحاد السوفييتي، والإقبار المزعوم للفكر الاشتراكي/الماركسي… ها هو لبُّ هذا الفكر الإنساني العظيم يعاد اكتشافه : وبالتالي، أهتف وأكتب: كارل ماركس: ما أحلى الرجوع إليه !

المراجع

موسوعة الاوان

التصانيف

تراجم  أعلام