بعد نضال طويل وشاقّ دخلت المرأة الكويتية قبّة البرلمان للمرّة الأولى، وفازت بأربعة مقاعد محقّقة بذلك نصراً حقيقياً على الصعيد السياسيّ، ولكن هل ستستطيع هذه المرأة النائب تحقيق نصر مواز لقضيّة المرأة الكويتية بشكل عامّ؟ وهل ستستطيع اشتراع قانون مثلاً، يعاقب على السبّ والشتم والتقزيم والإهانة، المرتكب بحقّ المرأة باعتباره عنفا منزليّا؟ أو سنّ قانون يعطي المرأة حقّ الإجهاض باعتباره كبير الصلة بالحقوق الإنجابية التي أقرّتها الشرعة الدولية وخاصة اتفاقية السيداو؟ أم ستكتفي هذه النائب بنصرها الآني متذرّعة – مثل شقيقاتها العرب- بأنّ معوقات عدّة تحول دون تمكين المرأة الكويتية، وهي متشابهة في المنطقة العربية عموماً، وإن بنسب متفاوتة؟
ففي سوريا على سبيل المثال، حظيت المرأة السورية بحقّ الانتخاب منذ عام 1945، وحقّ الترشيح منذ عام 1953، ودخلت البرلمان السوريّ منذ الدور التشريعيّ الأوّل عام 1973، ولا تزال حتّى الآن. كما تبوّأت مناصب وزارية، بل شغلت أخيراً منصب نائب رئيس الجمهورية، في خطوة رائدة لم يسبق لها مثيل في الدول العربية. إلا أنّ هذا كله لم يأت تتويجاً لتقدم المرأة السورية ككلّ وتطوّرها وتمكينها، بقدر ما كان منحةً أو امتيازاً من الجهة صاحبة القرار لبعض النساء المتميّزات بموجب مبدأ "الكوتا"، كتعبير عن رغبة النظام بإظهار وجهه الحضاريّ أو التقدّمي. أمّا المرأة السورية عامّةً، فلا لا تزال تعاني من التمييز واللامساواة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية والقانونية. ولا تزال تلك المرأة النائب أو السفير أو حتى الوزير تخشى الهجر أو الطلاق بإرادة منفردة، كما تخشى الزواج الثاني عليها من قبل زوج غيور، بل وتخشى حتى حرمانها من حضانة أطفالها، لأنّ عملها يقتضي منها السفر والتغيّب عن البيت، هذا كله إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على محدودية فعالية المرأة السورية عموماً، وفي البرلمان السوريّ بشكل خاصّ، وعجزها عن إحراز تطوّر في البنية القانونية السورية، يؤمّن مزيداً من الحماية لها على كافّة صعد الحياة، ويمكّنها من ممارسة دورها في الحياة العامّة والخاصّة بأمان وثقة.
قد يعزي البعض هذا الأمر إلى معوقات فكرية واجتماعية واقتصادية وثقافية وحتى سياسية، ليس أقلّها الموروثات البالية وسيطرة الأمّية والجهل، وخاصة في أوساط المرأة، وهي برمّتها، معوقات حقيقية ومتأصّلة لا يمكن تجاهلها، تكبّل مجتمعاتنا العربية، وتحدّ بالتالي من قدرة المرأة النائب ومناصريها في البرلمان على انتزاع قوانين فيها إنصاف للمرأة وتقدّم للمجتمع، إلا أنّ هذا كلّه لا يفسّر الظاهرة بقدر ما يبرّرها. إذ ثمّة العديد من المعضلات حميمة الصلة بعضو البرلمان رجلاً كان أو أنثى، والتي لا بدّ من التوقّف عندها لمحاولة فهم الظاهرة، ومن ثمّ العمل على تخطّيها.
ممّا لا شكّ فيه أنّ البرلمان، أيّ برلمان في العالم، يضمّ مزيجاً من الأعضاء المختلفين من حيث قناعاتهم الفكرية وولاءاتهم السياسية والإيديولوجية وخلفياتهم الاجتماعية والتعليمية والدينية، وهذا سيؤثّر بالضرورة- وإن بنسب متفاوتة- في عملية تشريع القوانين وسنّها. إلا أنّ الخاصّ في معظم البلاد العربية، أنّ وصول البرلمانيين والبرلمانيات إلى كرسيّ البرلمان، لم يتمّ وفق برامج انتخابية، حازت على رضا الناخبين وقبولهم ومن ثمّ أصواتهم، بقدر ما كان وصولهم تزكية أو تعيينا من قبل الجهات صاحبة القرار، أو عبر انتخابات ديمقراطية الشكل، لكنّها تعكس توازن القوى الاجتماعية التي تميل باتجاه التخلّف ( العشائر، الطوائف…)، الأمر الذي ترك انعكاسات سلبية على قدر من الأهمية. فعدا عن عجز الشعب عن محاسبة نوّابه- من رجال أو نساء- في حال تقصيرهم في أداء واجباتهم، نرى البرلمانيين والبرلمانيات كثيراً ما يعمدون إلى التخلّي عن اقتراح قانون، في حال تعارضه مع تحالفاتهم السياسية، أو الاقتصادية، خاصّة إذا كانت هذه التحالفات مع قوى تعتنق آراء معارضة لقضايا المرأة.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإنّ القانون بحدّ ذاته، يتّسم بصفة الثبات، "فلا اجتهاد في معرض النص"، هذه القاعدة القانونية المتأصّلة فيه، تجعله شبه محصّن في وجه التغيير، وتسهّل كونه أداة لحماية مصالح المجموعة المهيمنة بأيديولوجيتها على القائمين على تغييره، فعلى الرغم من تنامي قوّة المناصرين لقضايا المرأة وحيويتهم، لا تزال القوانين الخاصّة بالاغتصاب في المنطقة العربية تنأى عن اعتبار اغتصاب الزوج لزوجه جريمة أو حتى عنفا ضدّ الزوجة. فلو اقترح مثل هذا قانون، أو لو اقترح مشروع قانون أقلّ حدّة، لكنّه يتضمّن استجابة لأحد مطالب المرأة في المساواة، كتعديل قانون الإرث مثلاً، بشكل يمكّن المرأة من الوصول إلى الموارد الاقتصادية، مثلها مثل الرجل، ويضمن بالتالي ملاءتها المالية واستقلالها الاقتصادي، فلا شكّ أنّ مثل هذا القانون سيشكّل ثورة على الواقع الاجتماعيّ والفكريّ والاقتصاديّ والسياسيّ في هذه المجتمعات، وسيشكّل في الوقت ذاته، تحدّياً للعديد من البرلمانيات والبرلمانيين المؤيّدين لهذا القانون، وستدفع بهم السجالات والخوف من المعارضة القوية إلى التراجع عنه، بغية الحفاظ على مستقبلهم السياسي.
ثمّة حقيقة أخرى مؤثّرة أيضاً على عمل المرأة في الميدان التشريعيّ وعملية سنّ القوانين بشكل عامّ، تكمن في كوننا نتاج مجتمع متخلّف لا تزال تسوده الذهنية الذكورية، بما تشتمل عليه من تكريس لسيادة الرجل ودونية المرأة وتابعيتها للرجل، الأمر الذي حمته العادات والتقاليد، وسيّجته الأعراف والقوانين، وتناسخته الأمّهات من جيل إلى جيل، حتى غدت المرأة حاملا لهذه الذهنية ومصدّرا لها، من هنا يمكننا القول، إنّ وصول بعض النساء إلى قبّة البرلمان، هو حقيقة يشكّل نصرا للمرأة، وأمراً يثير الاستحسان، لكنّه غير كافٍ لمواجهة القضايا المتعلّقة بحقوق المرأة وتمكينها بشكل عامّ، خاصّة إن كانت تلك المرأة النائب ممّن لم تضع قضايا نساء مجتمعها على أجندتها .
ويمكن القول أيضاً، إنّ ارتفاع عدد النساء الأعضاء في البرلمان، سيساعد، بلا شكّ، على خلق كتلة نسائية ضمنه، وهذه خطوة باتّجاه الأمام، وتقدّم صورة جيّدة محلياً وخارجياً عن وضع المرأة، إلا أنّ تلك الكتلة لن تكون مؤثّرة وفاعلة بالنسبة لقضايا المرأة بشكل عامّ، ما لم يواكب وجودها ظروف مواتية، مثل وجود نساء برلمانيات مؤمنات بقضايا المرأة ومدافعات عنها، ووجود حركة نسائية قوية، تكون بمثابة الحامل والدافع لأيّ تغيير قانونيّ مقترح، من شأنه خلق واقع جديد يضمن المساواة وعدم التمييز ضدّ المرأة، ويدفع البرلمانيات والبرلمانيين المناصرين لقضايا المرأة إلى العمل على سنّ هذا المقترح وتكريسه كقانون. وعلى ذلك تؤكّد الوقائع، فعندما أعلنت حكومة عبد الرحمن اليوسفي في المغرب قانون إدماج المرأة في الحياة الاجتماعية، نجح الأصوليون بتسيير مسيرات نسائية ضخمة، ضمّت الآلاف من النساء للتنديد بهذا القانون والمطالبة بإلغائه.
في حين استطاعت الحركة النسائية التركية وبمساعدة الأحزاب الراديكالية ومنظّمات حقوق الإنسان، بالدفع بآلاف النساء الرافضات للقوانين السلفية في تركيا، للخروج إلى الشارع وإجبار الحكومة يوم 14/9/ 2004، على التراجع عن إقرار قانون تجريم الزنا، وفرض عقوبة السجن مدّة تصل حتى ثلاث سنوات، في حالة ارتكابه من قبل أحد الزوجين.
إذن يمكننا القول، إنّ عدم وجود حركة نسائية قوية في المنطقة العربية عموماً، أثّر سلباً على ضعف مشاركة المرأة في البرلمان بشكل عامّ، ومحدودية فعاليتها بشكل خاصّ. وفي هذا تختلف المرأة العربية عن مثيلتها العالمية، إذ أنّ مشاركة المرأة في البرلمان على المستوى العالمي عموماً، لا تزال ضعيفة قياساً إلى الرجل، حيث يشير تقرير الاتحاد البرلماني الدولي إلى أنّه بتاريخ تموز/ يوليو 2006، لم تتجاوز نسبة النساء الأعضاء في المجالس النيابية الوطنية، على المستوى العالمي، 16،8% في حين بلغت نسبة النساء الأعضاء في مجلس الشيوخ أو الأعيان 15،9%، ورغم تدنّي وصول المرأة العربية إلى البرلمان عن هذه النسب. بل خلوّ بعض البرلمانات العربية من أيّ مشاركة نسوية، إلا أنّ اللافت للنظر هو مدى أهمّية دور وفعالية المرأة في البرلمانات الغربية عنها في البرلمانية العربية، وذلك لتوفّر الحاضن الاجتماعي والسياسي للمشاركة النسائية في الغرب.
ومن نافل القول، أنّ اشتداد قوّة وتأثير القوى المحافظة في المجتمعات العربية، دفع بالمجالس النيابية بشكل عامّ، إلى اعتبار قضايا المرأة في المرتبة الدنيا، ضمن سلم الأولويات التشريعية لهذه المجالس، وفي الحالات النادرة التي لفتت قضية معيّنة اهتمام المشرّعين، تكون إمّا قضية غير خلافية، كقضية تعلّم المرأة أو عملها خارج المنزل، أو أنّها تكون قضية خلافية كجرائم الشرف، إلا أنّ إقرارها قد تمّ استجابة لضغوط من أحزاب سياسية، أو حملات نسائية. وفي كثير من الحالات يكون القانون المقترح إصلاحيّا أكثر منه جذريّا، وبشكل يضمن التوافق بين أعضاء البرلمان من مؤيّد ومعارض لقضايا المرأة. كأن يُقرّ قانون- في دولة ما لا تزال تُحرّم عمل المرأة- فيعطي المرأة حقّ العمل خارج المنزل، لكن بموافقة الزوج ورضاه، وألا يتعارض عملها هذا مع واجباتها المنزلية والزوجية. فيكون هذا القانون، رغم ما يتضمّنه من تشريع للظلم وعدم المساواة اللاحق بالمرأة، إلا أنّه يحقق مصلحة مؤقتة لها. الأمر الذي يقتضي من المجموعات النسائية متابعة العمل للوصول إلى قانون يحقّق مصلحة المرأة العليا.
وثمّة معضلة أخرى قد تواجه البرلمانيات والبرلمانيين والمؤيّدين لقضايا المرأة، عندما يضطرّون للاختيار بين مشروع قانون يتضمّن مصالح عملية للمرأة، وآخر يتضمّن مصالح إستراتيجية، فلو طُرح للنقاش مثلا،ً مشروع قانون يعطي المرأة الحقّ في تقرير إنجاب الطفل أو عدم إنجابه، وبالتالي يقرّ بإجازة الإجهاض، سنجد أنّ البعدين الدينيّ والأخلاقيّ سيحولان دون إقرار هذا القانون، حتى من قبل المناصرين له. نظراً للمناخ الراهن ولعجز المنظمات والمجموعات النسائية عن تشكيل قوّة ضغط،تُطلق المطالب أو الحملات ذات الصلة، فيصبح جلّ ما يمكن العمل عليه في هذا الصدد، هو إقرار قانون يتضمّن مصلحة عملية للمرأة، كإدخال بعض التعديلات على القوانين السائدة، مثل إجازة الإجهاض في ظروف استثنائية، كما في حالة الحمل من سفاح قربى أو الاغتصاب.
وعليه يمكننا القول، إنّ وصول المرأة العربية إلى كرسيّ البرلمان ومشاركتها في صياغة وسنّ القوانين أمر فيه نصر للمرأة العربية، وهو أمر واعد، إلا أنّ وجود المعضلات آنفة الذكر، واجتماعها مع ما يكتنف مجتمعاتنا من معوقات فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية، أمكنها أن تضعف ولا تزال، من قدرة البرلمانية العربية على خدمة قضايا مجتمعها، وقضاياها النسائية الخاصة. الأمر الذي يتوجّب معه استمرار العمل على تقوية الحركات النسائية المحلية، ودعمها من قبل القوى المناصرة لها، من أحزاب سياسية ومنظمات المجتمع المدني، لتغدو حركات قادرة على إيصال الأكفاء من النساء والرجال إلى مواقع صنع القرار، خاصة ضمن الهيئات التشريعية، حيث يعملون بحكم القانون وعبره، على إحداث تطوير أو تغيير في البنى القانونية، تعكس أثارها على البنى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية في المجتمع، بما يتوافق مع طموحات المرأة في المساواة وعدم التمييز، وينسجم ومنظومة القوانين الدولية التي نحن جزء منها.

المراجع

alawan.org

التصانيف

تاريخ  أحداث  أحداث جارية   سياسة