المصطلحات ذات العلاقة:
المصلحة:
مصدر ميمي من صلح يصلح بفتح عين الفعل وضمّها في الماضي والمضارع، وهي ضد المفسدة والصلاح ضد الفساد وأصلها جلب منفعة أو دفع مضرة. قال الشوكاني: " قال الخوارزمي: والمراد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق". (إرشاد الفحول: ص 242)
وبين المصلحة والحاجة عموم وجهي، فقد تُطلق المصلحة على الحاجة وغيرها، وكذلك الحاجة قد تكون في محل المصالح واستعملت المصلحة بمعنى الحاجة العامة في قول العز بن عبد السلام: لأن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة. (قواعد الأحكام: ص 326)
وقول ابن قدامة في السفتجة بعد أن ذكر الخلاف فيها حيث قال: " وقد نصّ أحمد على أن من شرط أن يكتب بها سفتجة لم يجز ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر. وروي عنه جوازها كونها مصلحة لهما جميعاً".
وبعد أن ذكر أقوال المجيزين والمانعين قال: " والصحيح جوازه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر لواحد منهما.
والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرّة فيها بل بمشروعيتها ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاؤه على الإباحة (المغني: 6/436-437)
عموم البلوى:
وهو الحالة أو الحادثة التي تشمل كثيراً من الناس ويتعذّر الاحتراز منها. (ابن عابدين: الحاشية 1/310)
أو ما تمس الحاجة إليه في عموم الأحوال. (كشف الأسرار: 3/16) كنجاسة النعل والخف تطهر بالدلك وإن كان رطباً على قول أبي يوسف وهو الأصح المفتى به لعموم البلوى. (ابن عابدين: 1/309-310).
وعموم البلوى كالحاجة لا يرفع نصاً. قال ابن نجيم: لا اعتبار عند أبي حنيفة بالبلوى في موضع النص كما في بول الآدمي فإن البلوى فيه أعم. (الأشباه والنظائر ص 84)
الغلبة:
الغلبة تنزل منزلة الضرورة في إفادة الإباحة. ألا ترى أن أسواق المسلمين لا تخلو عن المحرّم. (البدائع: 6/30)
عسر الاحتراز:
ومعناها صعوبة التحفظ عن أمر وهي في العبادات وغيرها. قال الكاساني: كل فضل مشروط في البيع ربا سواء كان الفضل من حيث الذات أو من حيث الأوصاف إلاّ ما لا يمكن التحرز عنه دفعاً للحرج. (بدائع الصنائع: 5/187).
وعبّر عنه القرافي بالتعذر حيث قال: " المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف " (الفروق: 3/198)
وأما خليل فقد قال: " لا إن عسر الاحتراز منه " (الزرقاني: 1/17)
وعفى عما يعسر كحدث مستنكح: "أي عما يعسر الانفكاك عنه بعد وجود سببه وهو المشقة". (الزرقاني وبحاشيته البناني1/41)
كل ما لا يمكن الاحتراز منه معفو عنه. (ابن تيمية الفتاوى: 1/592) وعسر الاحتراز هو عبارة عن المشقة اللاحقة في العبادة أو المعاملة.
المشقة:
التي تكون بمعنى الحاجة هي الواقعة في مرتبة متوسطة. ولإيضاح ذلك ننقل كلام القرافي في الفروق على أقسام المشقة حيث يقول ممزوجاً بابن الشاط باختصار محمد بن علي بن حسين المالكي في تهذيب الفروق ما يلي: "الفرق الرابع عشر بين قاعدتي المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها":
اعلم أن التكليف إلزام الكلفة على المخاطب يمنعه من الاسترسال مع دواعي نفسه هو أمر نسبي موجود في جميع أحكامه حتى الإباحة.
ثم يختص غير الإباحة بمشاق بدنية بعضها أعظم من بعض. فالتكليف به إن وقع ما يلزمه من المشاق عادة أو في الغالب أو في النادر كالوضوء والغسل في البرد والصوم في النهار الطويل والمخاطرة بالنفس في الجهاد ونحو ذلك، لم يؤثر ما يلزمه في العبادة لا بإسقاط ولا بتخفيف لأن في ذلك نقص التكليف إن لم يقع التكليف بما يلزمه من المشاق كان
التكليف على ثلاثة أقسام:
الأول: متفق على اعتباره في الإسقاط أو التخفيف كالخوف على النفوس أو الأعضاء والمنافع لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة فلو حصلنا هذه العبادة مع الخوف على ما ذكر لثوابها لأدى لذهاب أمثالها.
الثاني: متفق على عدم اعتباره في ذلك كأدنى وجع في أصبع لأن تحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة لشرف العبادة وخفة المشقة.
الثالث: مختلف فيه فبعضهم يعتبر في التخفيف ما اشتدت مشقته وإن بسبب التكرار لا ما خفت مشقته وهو الظاهر من مذهب مالك.
فيسقط التطهير من الخبث في الصلاة عن ثوب المرضع كل ما يعسر التحرز منه كدم البراغيث ويسقط الوضوء فيها بالتيمم لكثرة عدم الماء والحاجة إليه والعجز عن استعماله.
وبعضهم يعتبر في التخفيف شديدة المشقة وخفيفها.
هذه الأقسام الثلاثة تطرد في جميع أبواب الفقه فكما وجدت المشاق الثلاثة في الوضوء، كذلك نجدها في العمرة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوقان الجائع للطعام عند حضور الصلاة والتأذي بالرياح الباردة في الليلة الظلماء والمشي في الوحل وغضب الحكام وجوعهم المانعين من استيفاء الفكر وغير ذلك. وكذلك الغرر في البيع ثلاثة أقسام وهكذا في كل أبواب الفقه. (1/131-132)
وبين أن لكل عبادة مرتبة. قلت: وكذلك منهيات المعاملات لكل منها مرتبة.
مجالات تدخل فيها الحاجة:
الحاجة والغرر:
من أهم المجالات التي تدخلها الحاجة عقود الغرر وتقدمت بعض النصوص التي تدل على اغتفار يسير الغرر للحاجة.
ونريد أن نذكر الآن ما هو الغرر؟ وأصل النهي عنه ومدى تأثير الحاجة في إلغاء حكمه.
والغرر عرّفه القرافي بأنه: الشيء الذي لا يدري هل يحصل أو لا. وعرّف الجهالة بأنها: ما عُلم وجوده وجهُلت صفته.
وعرّف الجرجاني الغرر بأنه: ما يكون مجهول العاقبة لا يدري أيكون أو لا (التعريفات).
وقيل: ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول. قال الأزهري: ويدخل في بيع الغرر البيوع المجهولة التي لا يحيط بكنهها المتبايعان. (التاج: 3/443)
وبيع الغرر ممنوع شرعاً بعموم الكتاب لقوله - تعالى -: "وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِـالْبَاطِلِ"{البقرة2/88}.
ومحرّم بنصوص السنّة. ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى اله عليه وسلّم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر (شرح مسلم للنووي11/156). وأخرجه مالك في الموطأ مرسلاً عن أبي حازم بن دينار عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَعِ الغَرَرِ(المنتقى للباجي: 5/41).
علّق عليه الباجي بقوله " نهيه صلّى اله عليه وسلّم عن بيع الغرر يقتضي فساده ومعنى بيع الغرر والله أعلم ما كثر فيه الغرر وغلب عليه حتى صار البيع يوصف ببيع الغرر فهذا الذي لا خلاف في المنع منه ".
وأما يسير الغرر فإنه لا يؤثر في فساد عقد بيع فإنه لا يكاد يخلو منه عقد. وإنما يختلف العلماء في فساد أعيان العقود لاختلافهم فيما فيها من الغرر هل هو من حيز الكثير الذي يمنع الصحة أو من حيز القليل الذي لا يمنعها، فالغرر يتعلق بالمبيع من ثلاثة أوجه: من جهة العقد، والعوض، والأجل (المنتقى: 5/41).
قلت: وجه ما ذكره الباجي وغيره أن مجرد وجود الغرر ليس مبطلاً للعقد حتى يكون غالباً ناشئاً عن كون إضافة البيع إلى الغرر هي من إضافة الموصوف إلى الصفة. ووصف ابن مالك في التسهيل هذا النوع من الإضافة بأنه من شبه المحضة ومثل له بمسجد الجامع لأن المسجد هو الجامع وذلك صفته ومعنى هذا أن النهي وارد على بيع غرر وليس عن بيع فيه غرر والفرق يدركه البصير بموارد الألفاظ.
وقال القرافي: " قاعدة: الغرر ثلاثة أقسام: متفق على منعه في البيع كالطير في الهواء ومتفق على جوازه كأساس الدار ومختلف فيه هل يلحق بالقسم الأول لعظمه أو بالقسم الثاني لخفته أو للضرورة إليه كبيع الغائب على الصفة والبرنامج ونحوهما؟
ويقول النووي: "(فرع) الأصل أن بيع الغرر باطل لهذا الحديث والمراد ما كان فيه غرر ظاهر يمكن الاحتراز منه فأما ما تدعو إليه الحاجة ولا يمكن الاحتراز عنه كأساس الدار وشراء الحامل مع احتمال أن الحمل واحد أو أكثر وذكر أو أنثى وكامل الأعضاء أو ناقصها وكشراء الشاة في ضرعها لبن ونحو ذلك فهذا يصح بيعه بالإجماع.
قال العلماء مدار البطلان بسبب الغرر والصحة مع وجوده على ما ذكرناه وهو أنه إذا دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن الاحتراز عنه إلاّ بمشقة أو كان الغرر حقيراً جاز البيع وإلاّ فلا.
أما الشيخ تقي الدين بن تيمية فإنه قيّد الحاجة بالشدّة عندما قال في حديثه عن الجوائح: " والحاجة الشديدة يندفع بها الغرر اليسير والشريعة مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرّم فكيف إذا كانت المفسدة منفية". (الفتاوى الكبرى4/32)
الغرر المضاف:
واعتبر المالكية أن الغرر إذا كان مضافاً لأصل جائز يغتفر للحاجة بخلاف ما لو كان الغرر أصلاً في العقد فيبطل العقد.
وهذا الكلام واضح في أمرين أحدهما أن الغرر قد يجوز تبعاً للحاجة ويجوز منه اليسير وأن الربا لا يجوز منه قليل ولا كثير.
وهذه نصوص تبين حدود تأثير الحاجة في المنهيات وذلك بحسب مرتبة النهي فما كان في مرتبة وسطى كالغرر تؤثر فيه بشروط وما كان في مرتبة عليا لا يتأثر بها.
ومن هذا القبيل تأثير الحاجة معتمدة على اشتمال العقد على معنى الرفق والمعروف فقد يكون العقد في أصله حراماً ولكنه يباح للحاجة بناءً على ما علم من التفات الشارع للمعروف والرفق.
ومن ذلك أنهم أجازوا إجارة لا تعرف فيها طبيعة المنافع المستأجر عليها ولا الذات المستأجرة وذلك في صيغة عرفت عند المالكية بـ"أعني بغلامك لأعينك بغلامي".
وتصور هذه المسألة من مختصر خليل ممزوجاً بشارحه الزرقاني: " وجاز أعني بغلامك على حرثي ونحوه لأعينك بغلامي. أراد أو نفسي على حرثك أو غيره. ولذا حذف متعلق حال كون ذلك، إجارة لا عارية، لأنها بغير عوض وهذا بعوض، تحدث المنفعة أم لا، تساوى زمنها أو اختلف، تماثل المعان به للآخر أم لا، كحرث وبناء وغلام وثور فلا يشترط اتحاد المنفعة ولا عين المستعمل). وهذه إجارة، ومعلوم أن الإجارة كالبيع. أركانها، والركن الثاني الأجر- هو كالثمن يطلب كونه معروفاً قدراً وصفة " هذا كلام ابن عرفة (المواق: 5/389).
وهذه الصيغة التي اعتبرت تشتمل على جهل قدر الأجرة وصفتها؛ لأنها قد تكون ثوراً في مقابل غلام، وقد تكون حرثاً في مقابل البناء لأن الإعانة معروف حسب عبارة الزرقاني (نفس المرجع).
قلت: قوله فكان ذلك ضرورة إلى آخره معناها هنا الحاجة كما قدمنا. وكذلك نصّوا على أن (قولهم الصفقة تفسد إذا جمعت حلالاً وحراماً مخصوص بالمعاوضات المالية بالبيع والشراء. (في الزرقاني: 7/79)
الحاجة ترجح المختلف فيه بين العلماء:
وقد نصَّ المالكية على جواز العمل بالضعيف بثلاثة شروط: أن تلجئ إليه الضرورة، وأن لا يكون ضعفه شديداً جداً، وأن تثبت نسبته إلى قائل يُقتدى به علماً وورعاً. ذكره البناني في حاشيته على الزرقاني عن المسناوي(5/124).
ونظمه سيدي عبد الله في مراقي السعود حيث قال:
وذِكْـرُ ما ضَعِّفَ لَيْسَ للعَمَلْ
- إِذْ ذاكَ عَـنْ وِفَاقِهِمْ قَدِ انْحَظَلْ
بلْ للتَّـرَقي في مَـدارِجِ السَّنا - ويَحْفَـظَ المُـدْرَكَ مَنْ لَهُ اعْتِنا
أو لِمــُراعَاةِ الخِلافِ المُشْتَهِرْ - أوِ المُراعاةِ لِكُلِّ مَا سُطِــــرْ
وكَوْنِهِ يُلْــجى إليهِ الضَّرَرُ - إنْ كانَ لَمْ يَشْتَــدّ فِيهِ الخَوَرُ
وثَبَتَ العَــزْوُ وقَـدْ تَحَقَّقَا - ضُرّاً من الضُّرِّ بِهِ تَعَلَّــــقَا
أصل مشروعية الحاجة رفع الحرج والتيسير فهي تشترك مع الضرورة في مسألة رفع الحرج وهي مبنية على التسهيل والتيسير والتوسع.
إجمال الفروق بين الضرورة والحاجة:
بعد هذا العرض يتبين أن الفرق بين الضرورة والحاجة يرجع إلى:
التعريف في أن الضرورة في معناها الفقهي الأخص شدة وضيق في المرتبة القصوى تبيح المحرّم، وفي معناها الأصولي كلي ينتظم الأحكام التي بها قوام الأديان والأبدان.
والحاجة مشقة في مرتبة وسطى في معناها الفقهي تلحق بالضرورة الفقهية في إباحة منهي ضعف دليله وتدنت مرتبته في سلم المنهيات وفي معناه الأصولي كلي أورث عدم اعتباره مشقة وحرجاً للعامة وأدى اعتباره إلى سهولة ويسر فكان أصلاً لعقود منصوصة حادت عن قياس أو خرجت عن قاعدة كلية أو أدى إليها اجتهاد مجتهد استصلاحاً أو استحساناً.
أصل المشروعية في أن النصوص المتعلقة بالضرورة نصوص واضحة محددة تتعلق برفع حرج وشدة من نوع خاص.
والنصوص التي ترجع مشروعية الحاجة إليها تتعلق برفع الحرج بصفة عامة أعم من تلك التي قبلها وأقل تحديداً.
وهذان الفرقان بين الضرورة وبين الحاجة ثابتان في الضرورة بالمعنى الأصولي (الضروري) ومتعلقها مستمر، أي أن الحكم الملحق من أجلها على خلاف القياس مستمر بناء على دليل الاستحسان أو المصلحة المرسلة وفي الضرورة بالمعنى الفقهي ومتعلقها مؤقت من باب الرخصة بالمعنى الأخص وهي تغيير حكم لعذر مع علة الحكم الأصلي.
وفي الحاجة بمعنى الحاجي وهو المعنى الأصولي ومتعلقها مستمر أي أن الحكم ثابت بها مستمر سواء كان منصوصاً معللاً بها كالسلم والإجارة …إلى آخره، أو منسوباً إليها استحساناً كالاستصناع للحاجة والتعامل أو استصلاحاً كجواز تلاوة الحائض عند مالك.
والحاجة بمعنى الحاجي يشترط فيها أن تكون عامة وأما الحاجة الفقهية وهي كالضرورة الفقهية لأنها ملحقة بها وتوسيع لمعناها وهذه ترفع الحرج مؤقتاً بخلاف الضرورة بمعناها الفقهي فإنها تبيح مع قياس النص المانع صريحاً فيما توجد فيه فترفعه مؤقتاً وتشاركها الحاجة الفقهية في التوقيت لكنها تختلف معها في مرتبة دليل الحكم الذي ترفقه فالأولى ترفع حكماً دليله قطعي كالنص بدليله الظاهر والاقتضاء والإشارة والمفهوم والقياس.
أما الثانية فإنها ترفع حكماً دليله ظني كحال العام وبخاصة العام الضعيف في نوادر الصور كما أسلفنا وهذا الاختلاف في طبيعة الدليل الذي تواجهه كل منهما ناشئ عن اختلاف المشقتين فالمشقّة في محل الضرورة هي مشقّة كبرى بينما المشقّة في محل الحاجة هي مشقّة وسطى.
أما الضرورة بمعنى الضروري عند الأصوليين فإنها تكون تأصيلاً لأحكام منصوصة من الشارع أو مجتهد فيها عن طريق المصلحة المرسلة.
يكمن الفرق بين الضروري والحاجي في أن ما كان من قبيل الضروريات فهو أرفع مرتبة مما كان من قبيل الحاجيات تأصيلاً وتعليلاً، فما كان من الضروريات من حفظ نفس ودين ونسل ومال وعقل يقع في المرتبة العليا من المصالح الشرعية ولهذا فإنه معتبر في غيبة الشاهد الخاص عند من يعمل بالمصالح المرسلة وهو مالك - رحمه الله تعالى -ولم يستبعده من لا يعمل بها كالغزالي في المستصفى بشروط وابن قدامة في الروضة.
أما الحاجيات فلتدني مرتبتها فإن الاستصلاح في محلها نفاه كثير من العلماء كالغزالي في المستصفى وابن قدامة في الروضة.
وهذا في رأيي هو القول الفصل وإن وضعها قاعدة فقهية أحدث ارتباكاً عند كثير من الباحثين حيث أباحوا بالحاجة دون استفصال ودون النظر في شروط الاستصلاح والاستحسان.
ولم ينتبهوا إلى أن الحاجة لا تؤثر فيما ثبت النهي عنه بأدلة قوية بحيث تعتبر في مرتبة قوية من مراتب النهي فلا تؤثر في تحريم الخمر والميتة والدم. بل إنما تؤثر في عموم ضعيف كثرت أفراده وتناوله التخصيص وإنما تؤثر في مرتبة المنهيات لا توصف بأنها في أعلى درجات المنهيات فمن المعلوم أن محرّمات المقاصد ليست كمحرّمات الوسائل والذرائع وهذه فروق دقيقة توزن بميزان دقيق.
وباختصار فإن الفرق بين الضرورة وبين الحاجة يتجلى في ثلاث مراتب: مرتبة المشقّة ومرتبة النهي ومرتبة الدليل.
فإن الضرورة في المرتبة القصوى من المشقّة أو من الأهمية والحاجة في مرتبة متوسطة.
والنهي الذي تختص الضرورة برفعه هو نهي قوي يقع في أعلى درجات النهي لأن مفسدته قوية أو لأنه يتضمن المفسدة فهو نهي المقاصد بينما تواجه الحاجة نهياً أدنى مرتبة من ذلك لأنه قد يكون نهي الوسائل.
أما مرتبة الدليل فإن الدليل الذي ترفع حكمه الضرورة قد يكون نصاً صريحاً من كتاب أو سنّة أو سواهما. أما الدليل الذي تتطرق إليه الحاجة فهو في الغالب عموم ضعيف يخصص، أو قياس لا يطرد في محل الحاجة، أو قاعدة يستثنى منها.
من خلال التعامل مع هذه المراتب الثلاث يتبين فقه الفقهاء وفطنة الأذكياء في التمييز بين الضرورة بمعنييها الفقهي والأصولي والحاجة بمعنييها الأصولي والفقهي.
تطبيقات معاصرة:
فيما يلي بعض التطبيقات المعاصرة لمبدأ الحاجة:
1 فتوى المجلس الأوروبي بشأن شراء بيوت السكنى في ديار غير المسلمين:
نبدأ هذه التطبيقات بفتوى أثارت جدلاً في الساحة الفقهية وهي فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث المتعلقة بقرار إباحة شراء بيوت السكنى في ديار غير المسلمين ترجيحاً لمذهب أبي حنيفة ومن قال بقوله انطلاقاً من مبدأ الحاجة.
نظر المجلس في القضية التي عمت بها البلوى في أوروبا وفي بلاد الغرب كلها، وهي قضية المنازل التي تشترى بقرض ربوي بواسطة البنوك التقليدية.
وقد قدمت إلى المجلس عدة أوراق في الموضوع ما بين مؤيد ومعارض قُرئت على المجلس، ثم ناقشها جميع الأعضاء مناقشة مستفيضة، انتهى بعدها بأغلبية أعضائه إلى ما يلي:
1- يؤكد المجلس على ما أجمعت عليه الأمة من حرمة الربا وأنه من السبع الموبقات، ومن الكبائر التي تؤذن بحرب من الله ورسوله، ويؤكد ما قررته المجامع الفقهية الإسلامية من أن فوائد البنوك هي الربا الحرام.
2- يناشد المجلس أبناء المسلمين في الغرب أن يجتهدوا في إيجاد البدائل الشرعية التي لا شبهة فيها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً مثل (بيع المرابحة) الذي تستخدمه البنوك الإسلامية، ومثل تأسيس شركات إسلامية تنشئ مثل هذه البيوت بشروط ميسرة مقدورة لجمهور المسلمين، وغير ذلك.
3- كما يدعو التجمعات الإسـلامية في أوروبا أن تفاوض البنوك الأوروبية التقليدية لتحويل هذه المعاملة إلى صيغة مقبولة شرعاً، مثل (بيع التقسيط) الذي يزاد فيه الثمن مقابل الزيادة في الأجل، فإن هذا سيجلب لهم عدداً كبيراً من المسلمين يتعامل معهم على أساس هذه الطريقة، وهو ما يجري به العمل في بعض الأقطار الأوروبية، وقد رأينا عدداً من البنوك الغربية الكبرى تفتح فروعاً لها في بلادنا العربية تتعامل وفق الشريعة الإسلامية، كما في البحرين وغيرها.
ويمكن للمجلس أن يساعد في ذلك بإرسال نداء إلى هذه البنوك لتعديل سلوكها مع المسلمين.
وإذا لم يكن هذا ولا ذاك ميسراً في الوقت الحاضر، فإن المجلس في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية، لا يرى بأساً من اللجوء إلى هذه الوسيلة وهي القرض الربوي لشراء بيت يحتاج إليه المسلم لسكناه هو وأسرته، بشرط ألا يكون لديه بيت آخر يغنيه، وأن يكون هو مسكنه الأساسي، وألا يكون عنده من فائض المال ما يمكنه من شرائه بغير هذه الوسيلة.
وقد اعتمد للمجلس في فتواه على مرتكزين أساسيين:
المرتكز الأول:
قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وهي قاعدة متفق عليها مأخوذة من نصوص القرآن في خمسة مواضع، منها قوله - تعالى -في سورة الأنعام: "وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ"}الآية: 119{. ومنها قوله - تعالى -في نفس السورة بعد ذكر محرّمات الأطعمة: "فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"}الآية: 145{ومما قرره الفقهاء هنا أن الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة، خاصة كانت أو عامة.
والحاجة هي التي إذا لم تتحقق يكون المسلم في حرج وإن كان يستطيع أن يعيش بخلاف الضرورة التي لا يستطيع أن يعيش بدونها، والله - تعالى -رفع الحرج عن هذه الأمة بنصوص القرآن كما في قوله - تعالى -في سورة الحج: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ"}الآية: 78{، وفي سورة المائدة: "مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ"}الآية: 6{والمسكن الذي يدفع عن المسلم الحرج هو المسكن المناسب له في موقعه وفي سعته وفي مرافقه بحيث يكون سكناً حقاً.
وإذا كان المجلس قد اعتمد على قاعدة الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، فإنه لم ينس القاعدة الأخرى الضابطة والمكملة لها، وهي أن ما أبيح للضرورة يقدّر بقدرها، فلم يجز تملّك البيوت للتجارة ونحوها.
والمسكن ولا شك ضرورة للفرد المسلم وللأسرة المسلمة، وقد امتن الله بذلك على عباده حين قال: "والله جعل لكم من بيوتكم سكناً"{النحل: 80}
وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسكن الواسع عنصراً من عناصر السعادة الأربعة أو الثلاثة والمسكن المستأجر لا يلبي كل حاجة المسلم، ولا يشعره بالأمان وإن كان يكلف المسلم كثيراً بما يدفعه لغير المسلم ويظل سنوات يدفع أجرته ولا يملك منه حجراً واحداً، ومع هذا يظل المسلم عرضة للطرد من هذا المسكن إذا كثر عياله أو كثر ضيوفه، كما أنه إذا كبرت سنه أو قلّ دخله أو انقطع عرضة لأن يُرمى به في الطريق.
وتملك السكن يكفي المسلم هذا الهم، كما أنه يمكنه أن يختار المسكن قريباً من المسجد والمركز الإسلامي والمدرسة الإسلامية، ويهيئ فرصة للمجموعة المسلمة أن تتقارب في مساكنها عسى أن تنشئ لها مجتمعاً إسلامياً صغيراً داخل المجتمع الكبير، فيتعارف فيه أبناؤهم، وتقوى روابطهم، ويتعاونون على العيش في ظل مفاهيم الإسلام وقيمه العليا.
كما أن هذا يمكن المسلم من إعداد بيته وترتيبه بما يلبي حاجته الدينية والاجتماعية مادام مملوكاً له.
وهناك إلى جانب هذه الحاجة الفردية لكل مسلم الحاجة العامة لجماعة المسلمين الذين يعيشون أقلية خارج دار الإسلام، وهي تتمثل في تحسين أحوالهم المعيشية، حتى يرتفع مستواهم، ويكونوا أهلاً للانتماء إلى خير أمة أُخرجت للناس، ويغدوا صورة مشرقة للإسلام أمام غير المسلمين، كما تتمثل في أن يتحرروا من الضغوط الاقتصادية عليهم، ليقوموا بواجب الدعوة ويساهموا في بناء المجتمع العام، وهذا يقتضي ألاّ يظل المسلم يكد طول عمره من أجل دفع قيمة إيجار بيته ونفقات عيشه، ولا يجد فرصة لخدمة مجتمعه أو نشر دعوته.
المرتكز الثاني: (وهو مكمل للمرتكز الأول الأساسي)
هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني - وهو المفتى به في المذهب الحنفي وكذلك سفيان الثوري وإبراهيم النخعي وهو رواية عن أحمد بن حنبل، ورجحها ابن تيمية فيما ذكره بعض الحنابلة من جواز التعامل بالربا وغيره من العقود الفاسدة بين المسلمين وغيرهم في غير دار الإسلام.
ويرجح الأخذ بهذا المذهب هنا عدة اعتبارات، منها:
1- أن المسلم غير مكلف شرعاً أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام لأن هذا ليس في وسعه ولا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع وفلسفة الدولة واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي. وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فرداً مثل أحكام العبادات وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث وغيرها من الأحوال الشخصية بحيث لو ضيق عليه في هذه الأمور ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها لوجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
2- أن المسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود الفاسدة ومنها عقد الربا في دار القوم، سيؤدي ذلك بالمسلم إلى أن يكون التزامه بالإسلام سبباً لضعفه اقتصادياً وخسارته مالياً، والمفروض أن الإسلام يقوّي المسلم ولا يضعفه، ويزيده ولا ينقصه، وينفعه ولا يضرّه، وقد احتج بعض علماء السلف على جواز توريث المسلم من غير المسلم بحديث أبي داود أن مُعاذاً قال سَمِعْتٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: الإِسْلامُ يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ"فورث المسلم" أي يزيد المسلم ولا ينقصه، ومثله: " الإِسْلامُ يَعْلُو لا يُعْلَى " وهو إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراضونها بينهم سيضطر إلى أن يعطي ما يطلب منه ولا يأخذ مقابله فهو ينفذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارم ولا ينفذها فيما يكون له من مغانم، فعليه الغرم دائماً وليس له الغنم، وبهذا يظل المسلم أبداً مظلوماً مالياً بسبب التزامه بالإسلام، والإسلام لا يقصد أبداً إلى أن يظلم المسلم بالتزامه به، وأن يتركه في غير دار الإسلام لغير المسلم يمتصه ويستفيد منه، في حين يحرم على المسلم أن ينتفع من معاملة غير المسلم في المقابل في ضوء العقود السائدة والمعترف بها عندهم.
وما يُقال من أن مذهب الحنفية إنما يجيز التعامل بالربا في حالة الأخذ لا الإعطاء لأنه لا فائدة للمسلم في الإعطاء وهم لا يجيزون التعامل بالعقود الفاسدة إلاّ بشرطين الأول: أن يكون فيها منفعة للمسلم، والثاني: ألا يكون فيها غدر ولا خيانة لغير المسلم، وهنا لم تتحقق المنفعة للمسلم.
فالجواب: أن هذا غير مسلَّم، كما يدل عليه قول محمد بن الحسن الشيباني في السير الكبير، وإطلاق المتقدمين من علماء المذهب، كما أن المسلم وإن كان يعطي الفائدة هنا فهو المستفيد إذ به يتملك المنزل في النهاية.
وقد أكّد المسلمون الذي يعيشون في هذه الديار بالسماع المباشر منهم وبالمراسلة: أن الأقساط التي يدفعونها للبنك بقدر الأجرة التي يدفعونها للمالك بل أحياناً تكون أقل. ومعنى هذا أننا إذا حرّمنا التعامل هنا بالفائدة مع البنك حرمنا المسلم من امتلاك مسكن له ولأسرته، وهو من الحاجات الأصلية للإنسان كما يعبّر الفقهاء، وربما يظل عشرين سنة أو أكثر يدفع إيجاراً شهرياً أو سنوياً ولا يملك شيئاً على حين كان يمكنه في خلال عشرين سنة وربما أقل أن يملك البيت.
فلو لم يكن هذا التعامل جائزاً على مذهب أبي حنيفة ومن وافقه لكان جائزاً عند الجميع للحاجة التي تنزل أحياناً منزلة الضرورة في إباحة المحظور بها.
ولاسيما أن المسلم هنا إنما يؤكل الربا ولا يأكله، أي هو يعطي الفائدة ولا يأخذها والأصل في التحريم منصب على (أكل الربا) كما نطقت به آيات القرآن، وإنما حرم الإيكال سداً للذريعة كما حرمت الكتابة له والشهادة عليه فهو من باب تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد.
ومن المعلوم أن أكل الربا المحرّم لا يجوز بحال، أما إيكاله بمعنى إعطاء الفائدة فيجوز للحاجة، وقد نصّ على ذلك الفقهاء وأجازوا الاستقراض بالربا للحاجة إذا سدت في وجهه أبواب الحلال.
ومن القواعـد الشـهيرة هنا: أن ما حـرم لذاته لا يباح إلاّ للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة، والله الموفق.
وتعليقنا على هذا القرار: نقول عنه باختصار إنه لا يبيح التعامل بإطلاق بالربا في ديار غير المسلمين كما هو مقتضى مذهب أبي حنيفة ومن قال بقوله لكنه يبيحه في حالة الحاجة الشخصية التي لا تتجاوز محلها فهو ترجيح مقيد بالحاجة طبقاً لشروط الترجيح بالحاجة التي نقلناها عن مالك.
وإن كنت لا اتفق مع صياغة بعض الفقرات وبخاصة فيما يتعلق بالقول أن الحاجة وحدها تكفي في إباحة هذا التعامل.
والحقيقة أن الحاجة لا تكفي في إباحة الربا وإنما تعتمد الفتوى على قول العلماء القائلين بهذا مرجحاً بأصل عام شهد الشرع باعتباره وهو الحاجة والتيسير.
2 قرار مجمع الفقه الإسلامي: 63(1/7) بشأن شراء أسهم في شركات تتعامل أحياناً بالربا: فيما يلي بعض البنود التي وردت بقرار مجمع الفقه الإسلامي فيما يختص بهذا الموضوع: إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9-14 مايو 1992م.
بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "الأسواق المالية" الأسهم، الاختيارات، السلع، بطاقة الائتمان، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي:
أولاً ـ الأسهم:
1- الإسهام في الشركات:
أ-بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.
ب-لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرّم، كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرّمات أو المتاجرة بها.
ج-الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرّمات كالربا ونحوه بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة.
2 تحديد مسؤولية الشركات المساهمة المحدودة:
لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها، لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة.
ثانياً ـ التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة:
السـلع: يتم التعامل بالسلع في الأسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي:
الطريقة الأولى: أن يتضمن العقد حق تسليم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه. وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة.
الطريقة الثانية: أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هيئة السوق.
وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة.
الطريقة الثالثة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد أجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطاً يقتضي أن ينتهي فعلاً بالتسليم والتسلم وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين، ويمكن أن يعدّل ليستوفي شروط السلم المعروفة فإذا استوفى شروط السلم جاز. وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها.
- الطريقة الرابعة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمّة في موعد أجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرطاً يقتضي أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين، بل يمكن تصفيته بعقد معاكس. وهذا هو النوع الأكثر شيوعاً في أسواق السلع، وهذا العقد غير جائز أصلاً.
وتعليقنا على هذا القرار المتعلق بالأسواق المالية نرى أن المجمع تارة لم يعتبر الحاجة لما عارضها من الدليل الذي يجعل اعتبارها ملغي وتارة اعتبرها. فعلى سبيل المثال:
1- الفقرة (ج): الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرّمات كالربا ونحوه بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة.
وبهذا يرى المجمع أن الربا لا تبيحه الحاجة ولا عبرة بقلته بالنسبة لأعمال الشركة وأنشطتها باعتبار ذلك وصفاً طردياً والمجمع في ذلك كان مصيباً كل الإصابة لأن الربا كما أسلفنا في مرتبة من النهي لا تبيحها إلاّ الضرورة.
وكان بودي أن تُحذف كلمة (الأصل) التي أصبح البعض يتذرّع بها لإباحة الاشتراك في هذه الشركات بدعوى التطهير، وقد بيّنا خطأ ذلك في بحث آخر.
2-قرر المجمع أن لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محددة برأس مالها.
والمجمع تجاوز عن مشكلة الديون التي على الشركة فإن أصحابها وإن كانوا يعلمون أنها مرتبطة برأس مال الشركة فإنهم مع ذلك إنما تعاقدوا مع أرباب الشركة وهذا القرار فرع عن الاعتراف بالشخصية المعنوية والأصل في الشريعة اعتبار الذمّة الشخصية والمجمع قرر ذلك للحاجة.
3-في الفقرة الأخيرة من الطريقة الثالثة قرر المجمع أنه (لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها) ولم يعتبر الحاجة مع أن مذهب مالك والأوزاعي جواز ذلك ما لم تكن السلعة طعاماً.
هذه القرارات تدل على تعامل حذر مع مبدأ الحاجة، ولعل بحثنا هذا يسهم في إيضاح معايير التعامل مع الحاجة.
بالإضافة إلى ما تقدم فقد منع المجمع عقود التوريد في قرارات سابقة وأكّد هذا المنع في دورته الأخيرة بالرياض بتاريخ 25 جمادى الثانية 1421هـ، ماعدا ما يتعلق منها بالاستصناع بناءً على تأجيل العوضين.
والذي يظهر لي: أن عقود التوريد من المجالات التي تدخل فيها الحاجة لعدم وجود نص فيها وقد أجاز مالك تأجيل العوضين في السلم بشرط لثلاثة وإلى غاية أجل المسلم بلا شرط النقد وأجازه في الاستجرار في الشراء من دائم العمل كالخباز.
وأجازه في أكرياء الحج وهو كراء مضمون تأجل فيه العوضان بحاجة الناس إلى ذلك وقد نقلنا كلام ابن سراج عن المواق وفيه أن مالك: "أجاز تأخير النقد في الكراء المضمون". (التاج والإكليل: 5/390).
قال خليل: (أو في مضمونه لم يشرع فيها إلاّ كراء حج فاليسير) وكان مالك يرى أن لا بد أن ينتقد ثلثي الكراء في المضمونة إلى أجل، ثم رجع وقال: " قد اقتطع الأكرياء أموال الناس فلا بأس أن يؤخروهم بالنقد ويعربونهم الدينار وشبهه " (التاج والإكليل: 5/3939).
قلت: قوله (ويعربونهم) أي: يعطونهم عربوناً.
كما أجيز الاستصناع للحاجة وقد أقر المجمع جوازه مع أن جواز تأجيل العوضين مذهب ابن المسيب - رضي الله عنه -.
وأنا أرى إعمال الحاجة في مثل هذه العقود مما لم يرد فيه نص إذا ثبتت الحاجة المعتبرة التي يؤدي عدم ارتكابها إلى مشقة وحرج يلحق العامة بغض النظر عن تحقق ذلك في آحاد صورها وقد شرحنا رأينا في تأجيل البدلين في بحثنا في البورصات المقدم إلى المجلس الأوروبي للإفتاء.
النتائج:
في هذا الفصل عرفنا الضرورة لغة بأنها الضيق والشدة والحاجة وأنها اصطلاحاً " أمر إذا لم يرتكبه المضطر هلك أو قارب الهلاك " في معناها الأخص وأنها تطلق على الحاجة. وأنها أصولياً الكلي الذي ينتظم المحافظة على ضرورات الحياة الخمس من جهة الوجود ومن جهة العدم. وبيّنا أصل مشروعية الضرورة.
وعرّفنا الحاجة لغة بأنها الافتقار إلى الشيء وذلك هو المأربة والمأربة هي الحاجة.
وعرّفناها اصطلاحاً بأنها ما نزل عن الضرورة بحيث يؤدي فقده إلى مشقة وقلق وحصوله إلى سعة وتبسط.
ثم إن الحاجة منها ما هو حاجة عامة بشرية وهذه تحدث حكماً مستمراً وهي من باب الكلي الذي لا يجب تحققه في آحاد صوره فتكون أساساً للاستحسان والاستصلاح.
وحاجة خاصة فقهية تعتبر توسيعاً للضرورة تعطي حكمها وتقدر بقدرها وأنها رخصة بالمعنى الأخص، وذكرنا أمثلة لذلك وناقشنا وضع قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة في القواعد الفقهية وأخرجنا أصلها الأصولي مسلسلاً من الجويني إلى تلاميذه.
كما أوضحنا أن قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة ليست على إطلاقها وإن الحاجي لا يمكن أن يكون نداً للضرورة الفقهية وأن الأمثلة التي ذكروها منها وهو أغلبها منصوصة في الشرع فما معنى كون الحاجة تنزل منزلة الضرورة فيه إلاّ أنه استثناء من أصل يفيد التحريم كما الضرورة استثناء من نصوص تقضي بالتحريم.
وما عدا هذه المقارنة الجزئية فلا يبدو تنزيلها منزلة الضرورة مطرداً حتى يكون قاعدة فقهية قد بيّنا أنه لا تبيح ما كان النهي فيه قوياً كمحرمات المقاصد فلم تنزل منزلة الضرورة فيها.
وأشرنا إلى تفاوت درجة النهي في المنهيات وبيّنا أنها لا تواجه نصاً بالرفع ولا ترفع عامّاً في كل مدلوله بل ترفع جزئية من جزئياته وهي في الغالب جزئية تنتمي إلى العام بضعف وتلك نكتة لم يطلع عليها الباحثون وقد أيدناها بالاستقراء.
كما أبدينا أوجهاً أخرى تدخل فيها الحاجة حيث لا يكون الخلل في العقد مقصوداً أو حيث يكون الغرض من العقد معروفاً أو فيه شائبة المعروف والارتفاق أو يكون الخلل تابعاً وليس متبوعاً، أو تتوخى الحاجة مواقع الخلاف لتكون مرجحاً لقول مرجوح عرف قائله وثبت عزوه.
وأجملنا الفروق الجوهرية في المراتب الثلاث: مرتبة المشقّة، ومرتبة النهي، ومرتبة الدليل.
وهكذا اتضحت الخطوط الدقيقة للفرق بين الضرورة والحاجة التي فصلناها في القائمة الملحقة.
وذكرنا بعض التطبيقات من قرارات مجمع الفقه الإسلامي بجدة تراوحت بين الإقدام والإحجام طبقاً لتقدير النهي والحاجة والتفاتاً في الغالب إلى وجود نقل يستأنس به أو أصل يعتمد عليه بعد أن ذكرنا قراراً واحداً للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث وعلقنا على هذه القرارات تعليقاً موجزاً دون مناقشة قد تطول وتخرجنا عن سياق المطلوب في هذا البحث وأبدينا وجهة نظرنا الخاصة التي توافق قرارات المجمعين أو تخالف وتباين القرارات وبخاصة في مسألة تأجيل البدلين.
كل ذلك باختصار تارة بالعبارة الصريحة أو بالإشارة السريعة التي يفهمها أهل الاختصاص.
الفروق:
من حيث التعريف: الضرورة شدة وضيق ومشقّة تبيح المحرّم كالميتة والدم ولحم الخنزير ومال الغير والحاجة: افتقار ونقص فهي أعم من الضرورة.
الضرورة: أدلتها نصوص واضحة، والحاجة: أدلتها عمومات.
الضرورة الفقهية: لا تحتاج إلى نص في كل حالة تنزل فيها بل إن الإذن بها عام سوى ما استثنى لأدلة أخرى وقرائن. والحاجة: تفتقر إلى نص لإثبات اعتبارها وأكثر الأمثلة المذكورة كالإجارة والقراض والمساقاة منصوصة.
الضرورة: ترفع النص وغيره، والحاجة مجالها هو تخصيص العموم عند من يراها وبخاصة ما كان تناوله بالعموم ضعيفاً، وقد تخالف قياساً وتستثنى من قاعدة.
الضرورة: أثرها مؤقت محدود بها والحاجة العامة أثرها مستمر.
الضرورة شخصية لا ينتفع بها غير المضطر والحاجة لا يشترط فيها تحقق الاحتياج في آحاد أفرادها.
الضرورة رخصة بالمعنى الأخص والحاجة العامة ليست رخصة بالمعنى الأخص.
الضرورة ترفع نهياً في مرتبة عليا من سلم المنهيات كما ترفع غيره.
والحاجة لا ترفع نهياً في مرتبة عليا من مراتب النهي بل تتوخى محرّمات الوسائل دون محرمات المقاصد.
الضرورة تبيح العقود التي يكون الخلل فيها أصلياً أو تابعاً والحاجة تبيح العقد الذي يكون فيه الخلل تابعاً ومضافاً.
الضرورة تبيح الكثير واليسير والحاجة تبيح اليسير لا الكثير.
الضرورة تبيح الخلل المقصود وغيره، والحاجة تبيح غالباً الخلل غير المقصود في العقد.
الضرورة لا تختص بعقد دون آخر، والحاجة تبيح الممنوع أحياناً في سياق إرفاق ومعروف دون قصد المكايسة.
الضرورة لا تفتقر إلى خلاف، والحاجة ترجح الضعيف في محل الاختلاف بشروط.
وأخيراً لعلنا بهذه الفروق التي تسجل لأول مرة بهذه الطريقة أسهمنا في تجلية هذه المسألة أو على الأقل بيّنا الوجهة الصحيحة التي يجب على الباحثين أن ينموها والمسالك التي ينبغي للدارسين أن يسلكوها، وناقشنا مناقشة غير مسبوقة قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة في القواعد الفقهية مع أننا لا ندعي الاستيعاب.
وبالنسبة لفقه الأقليات فإن هذه القاعدة بالإضافة إلى الأمثلة المذكورة في أثناء البحث لها علاقة حميمة بكثير من مسائل فقه الأقليات وتمثل أساس الترجيح في القضايا الخلافية كالجمع بين الصلاتين لحاجة المغترب العامل بناء على ما ذهب إليه طائفة من الفقهاء منهم أشهب من المالكية وابن المنذر من الشافعية وابن سيرين وابن شبرمة إلى جواز الجمع لحاجة ما لم يتخذ ذلك عادة.
قال ابن المنذر: يجوز الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر ولا مرض. وهو قول جماعة من أهل الحديث لظاهر حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن النبي- صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر". فقيل لابن عباس لم فعل ذلك قال: أراد أن لا يحرج أمته.
المراجع
موسوعة " المختار الأسلامي "
التصانيف
عقيدة