في ما نقرَاُهُ من نُقُودٍ عربية، بشكل خاصّ حول نصوصٍ في الفكر، أو في الشعر مثلاً، تتبَدَّى لنا “حقيقة” القراءة، أو ما تُخفيه بعض هذه القراءات من خلفيات، تسعى من خلال استراتيجياتها، أو ما تَتَبَنَّاهُ من مفاهيم وطُرُقٍ في القراءة، إلى “الكشف” عن “حقيقة النص”!، أو النصوص التي تقرأها.

قراءات من هذا النوع لا تحمي نفسها بالنِّسبي، أو بالمُحتَمَل، فهي تذهب إلى النص لِـ “تَفْضَحَ” معناه، أو لِـ “تُعَرِّي” جِسْمَهُ من لِبَاسَاتِهِ التي بها كان يَقِي معناه، أو معانيه المُحْتَمَلَة.

هذه القراءات، هي نوع من اليقين، وهي حَصْرٌ لِأُفُق المعنى، أو هي إجْهَازٌ على فائض المعنى في النص.

مثل هذه القراءات، لا تَسْمَحُ بالانشراح، وهي تُغْلِقُ النص، وتَسُدُّ كُلّ شُقُوقه، تُنْهِيهِ، وتَكْتُمُ أنفاسَهُ.

ليس هناك نصوص، يمكن حَسْمُها، فالنص، بطبيعته، وهو جَسَدٌ لُغَوِيٌّ، مُوَارِبٌ، يملك طُرُقاً خاصةً في إخفاء أسراره.

الاعتقاد بأنَّ النص قابل للاسْتِنْفاد، وأنا هنا أعني النصوص المُشْكِلَةَ، هو أمْرٌ لا يقبله العقل، وليس من قبيل الأمور التي يمكن اعتبارُها جِدِّيَةً على الإطلاق.

ظلت النصوص الكبرى في كُلّ الثقافـات الإنسانية ذات طبيعـة إشكالية، وهي كانت دائماً بمثابة الأرض التي لا يُسْتَنْفَدُ عُشْبُها.

كل القراءات التي سَعَت لمقاربة هذه النصوص، أو لاختبار معانيها، خرجَت منها بأقلِّ ما سَعَت إليه. فكل قراءةٍ تَحْدُثُ، في نفس النص، هي تأكيد لانْفِرَاط النص، و لِـ “سَدِيمِيَة” معانيه. ليس ثمَّة ما يُفْضِي إلـى مُطْلَقٍ ما، أو إلـى “حقيقة” واحدة وكاملةٍ. فالنقصان هو ما تشي به القراءات التي تعترف بنسبية قراءتها. النقصان هنا ليس عَجْزاً، فهو كشفٌ عن لُقْيَةٍ، أو لُقًى، لم تكن من قبلُ مُتَاحَةً في قراءات مَرَّت من نفس المكان، أو زَاوَلَت الحَفْرَ في نفس الأرض.

إنَّ القراءات المُتتالية لنفس النص، هي حَفْرٌ فـي نفس الأرض، لكن بآلياتٍ، وبإمكاناتٍ، ووسائل، هي ما لم يكُن مُتاحـاً لمن زاوَلَ الحفـر من قبـل، وهي تأكيدٌ لما يَحْفَلُ به النص من طبقاتٍ، اخْتِرَاقُها لا يَحْدُثُ دُفْعَةً واحدةً، بل هو في حاجة دائمةٍ إلى الحفر، وإلى تغيير وسائل الحفر، وطُرُقِهِ.

لا يوجد نصٌّ مُنْتَهٍ، أو مَحْسُومٌ، كُلُّ النصوص التي تُكْتَبُ في أفّقٍ تخييليٍّ بعيد، أو في أفق معرفي مفتوح، هي نصوص لا تخلو من الابتكار والتجديد، وهي نصوصٌ مُفْعَمَةٌ بالمعاني والدلالات. القراءات التي ذهبت إلى هذه النصوص لامْتِلاكِها، أو لانْتِهاكِ ” حقيقَتِـ”ـها، والانتهاء منها، باعتبارها لم تعد صالحةً للحفر، أو للعُثور في شُقُوقِها على لُقًى، هي قراءات تحكم على نفسها بالموت، فيما النص الذي تسعى لِقَتْلِهِ، أو لِحَصْرِهِ، يبقى حَيّاً، مُتَجَدِّداً، لا تَسْتَنْفِذُهُ “حقيقة” ما، ولا تُفْضِي إلى هلاكه


المراجع

alawan.org

التصانيف

فنون  أدب  أدب عربي