ممّا لا شكّ فيه أنّ أصول الفكر السياسيّ قد ارتبطت تاريخياً بعقلانية الفكر اليوناني الهادئة، فقد استبدل اليونانيون إلقاء أنفسهم في دائرة الدين باتّخاذ مواقع في مملكة الفكر، فسعوا إلى إدراك الكون على ضوء العقل، هكذا تحدّث (أرنست باركر) في كتابه (أفلاطون وسابقوه)، فقد كانت المدينة في نظرهم الوحدة المثالية للحياة الاجتماعية والتجمّع الأمثل للكائنات البشرية، وهنا بدأت تباشير الدولة الحديثة، وهنا أيضاً كانت بواكير المدينة- الدولة أو الدولة – المدينة، الذي اصطُنع في عصرنا، رغم اختلاف الوسائل التقنية للإنتاج أو القتل، وفي حجم المجتمعات والمعتقدات الدينية، فمشكلة السلطة كما يراها (ريمون أرون) في كتابه (أبعاد الوعي التاريخي)، أنها خالدة سواءً حُرثت الأرض بالمعول أم بالجرافة، فقد كانت المدينة أو الدولة صغيرة المساحة وهذا الإطار الضيّق لم يكن يسهّل قوة وألفة الحياة المشتركة أو انسجام الغايات الأخلاقية، وإنما كان يضمن للمواطنين وضعاً قانونياً مناقضاً لوضع رعايا الإمبراطوريات الشرقية ذات المساحات الشاسعة. فالمدينة، بتفكيكها للمجتمع القبلي، كانت هي من حرّرتهم من الوصايا الثقيلة للعشيرة والعائلة، وجعلت منهم كائنات فردية ومستقلة نسبياً وكانت هناك مسألة أخرى تعتبر سياسية بصورة مباشرة أكثر، مسألة الدستور، وبعبارة أخرى، شكل الحكم، والذي يتّصل بشكل وثيق بخُلق المدينة.
إنّ التاريخ يبيّن لنا أنّ أغلبية المدن قامت بالتتابع بتجربة كلّ أشكال الحكم: من المَلكية إلى الارستقراطية، ثم إلى الطغيان وأخيراً إلى الديمقراطية. وكأنّ مبدأ منطقياً للتطوّر كان يقودها في اتجاه محدّد ومتشابه، وهذه الظاهرة كانت تقدّم مادّة غزيرة للتفكير النقديّ، ولاسيما فيما يتعلق بالقيمة المقارنة لمختلف العوامل المؤهلة لقيادة البشر: كالقوة والعدد والثروة والكفاءة.. الخ. وبدل أن يتوقّف هذا الجدل بسبب افتقاده لما يغذّيه بعد انتصار الديمقراطية " ما حدث في أثينا"، أخذ هذا الجدل بالانطلاق وذلك لسببين: أوّلاً بسبب المهزومين (الأقلية) مثل الارستقراطيين الذين كان يداعبهم الحلم بثأر عادل، وثانياً لأنّ الديمقراطية بطبيعتها تحيى بالحوار والمجابهة الخطابية والعلنية بين الأفكار العامّة، التي تكون أحياناً مجرّد أقنعة للمصالح الخاصّة، فالديمقراطية لا يمكنها أن تستند إلى قاعدة التقاليد، إنها تحيى في الهواء الحر للفكر الحي.
إنّ الفكر السياسي اليوناني، بظهوره ونشاطه ضمن إطار المدينة – الدولة، كان يتميّز باهتمام مزدوج، فالاهتمام الأخلاقيّ والاهتمام العمليّ مرتبطَان ببعضهما بشكل وثيق، حيث كان المفكّرون يتصوّرون المدينة باعتبارها تجمّعاً أخلاقياً للعيش المشترك، وفق قواعد الخير ومن أجله، وكانت المدينة تسعى لهدف أخلاقي وتبين طريق الوصول إليه، كما كانت تحدّد الوسائل والغايات، وهنا، لم تكن تصطدم بأيّ منافسة من قبل كنيسة أو تجمّع دينيّ مزوّد بأجهزة خاصة به، فالدين لم يكن إلّا مظهراً من مظاهر أخرى للحياة المدنية، وإنّ الاهتمام العملي لم يكن ينفصل عن هذا الاهتمام الأخلاقي، ولم يكن له أيّ صلة بنفعية مبتذلة، فإذا كان من الضروري التوصل إلى الحقيقة أو إلى المعرفة أو العلم، فهذا لا يكفي، فعلى الحقيقة أن تتحوّل إلى عمل، ويمكننا تشبيه ذلك بممارسة الطبّ، وعلم الطبّ كلّ يستهدف عملاً خيراً للإنسان حول الإنسان، فممارسته ذات معايير وقواعد، ومن هنا يُفهم لماذا كان البعض من بين أكبر المفكّرين اليونانيين يتوق لدور المشرّع والمصلح وطبيب الجسم السياسي، ولماذا كان أفلاطون يحلم بإعادة صياغة المدينة وفقاً لنموذجه الفلسفي المثالي.
ماهو شكل الحكم أو الدستور الأكثر قدرة على أن يؤمّن لمدينةٍ الازدهار المادّيّ والخير الأخلاقيّ في نفس الوقت؟ هذا السؤال أثار نقاشا هامّا وحوارا كبيرا.
يمكن أن نعيد إلى (هوميروس) التفكير التقليدي حول مزايا الملَََكية والارستقراطية والديمقراطية والشكل المختلط بينها، إلا انّه يجب انتظار (هيروديتس) لرؤية العناصر المبعثرة الناشئة عن هذا التفكير. إنّ ما أنتجته تداعيات كل منهما ومن لحق بركبهما هو تنفس كراهية الطغيان والمفهوم الشرقي البربري للسلطة وبالوقت ذاته حبّ الحرية اليونانية، هذه الحرية القائمة على القانون، فأثينا أصبحت ذات صدارة بالنسبة للنظام السياسي، فدستورها لم يكن تقليداً للآخرين بل مثالاً ينبغي إتباعه، هذا النظام كان يعمل لفائدة الأكثرية وليس مضرّاً للأقلية، هذا النظام اسمه الديمقراطية ويرتكز على المساواة والحرية، هذه الحرية التي قامت على تغييب الإكراه والتعصب بصورة عامة حياتياً، وعلى قبول مشاركة كل مواطن في حكم المدينة بصورة خاصة سياسياً، فهذه الحرية كانت تمارس ضمن حدود الاحترام الواجب للحكام والقوانين، لاسيّما تلك التي تؤمّن الدفاع عن المضطهدين والتي تلحق احتقاراً كلياً بمن يخترقها. ومن هذا الخضمّ، انبثقت اهتمامات غير تلك المتعلقة بشكل الحكم، إنها من نوع فلسفي أكثر، ولا ينفصل عن عمل سابق طويل ومعقد للفكر البحت، إن الأمر يتعلق الآن بجوهر المدينة – الدولة وطبيعتها ومبرر وجودها كتجمع بشري، وهذا ما أدّى إلى طرح مسألة سلوك الأفراد إزاءها.
أفلاطون الذي حمله الميل الطبيعي للمشاركة في الشؤون العامة يقول: أخيراً فهمت أن كل المدن الحاليّة تُحكم بطريقة سيئة، لأنه لا أمل تقريباً في شفاء تشريعاتها بدون تحضيرات نشيطة تتضافر مع ظروف مواتية: " لذلك كنت مدفوعاً بشكل لا يقاوم لمدح الفلسفة الحقيقية، ولإعلان أنّ، على هديها فقط، يمكن أن تتعرف على أين تكمن العدالة في الحياة العامة، وفي الحياة الخاصة. إن المصائب لن تتوقف إذن بالنسبة للناس قبل أن يصل للسلطة عِرق من الفلاسفة الأنقياء والحقيقيين، أو أن يأخذ رؤساء المدن، بفضل نعمة إلهية بالتفلسف حقيقة".(1)، وفي هذا الوقت أسّس أفلاطون أكاديمية لتعليم هذه الفلسفة الحقيقية، القادرة وحدها على شفاء المدن المريضة والجنس البشري المريض. إذاً، فالفلسفة التي أنتجها أفلاطون كانت عبر السياسة ومن أجلها، فكتاب الجمهورية لم يكن يستهدف تفضيل هذا الشكل أو ذاك من أشكال الحكم الموجودة، إنما هو عرض الدستور الكامل، وإظهار ما ستكون عليه سياسة يسيطر عليها أسمى مبدأ للعدالة، وكيف ستتصرّف مدينة يجري فيها التعبير عن فكر الخير على أفضل وجه ممكن. أمّا أرسطو فقد اعتبر أنّ الجماعة السياسية أو المدينة تتويج طبيعيّ وضروريّ لنموّ تدريجيّ تعتبر كلّ مرحلة من مراحله بحدّ ذاتها طبيعية وضرورية، فهي ليست - كما يعتبرها أيضاً- ثمرة الحيلة ونتاج الاتفاق الاعتباطي، فبعد الأسرة، الجماعة الأولى التي كوّنتها الطبيعة من أجل إشباع الحاجات اليومية، ظهرت القرية، وهي جماعة مشكّلة من عدّة أسر، وأخيراً ظهرت الجماعة المشكّلة من عدّة قرى وهي المدينة، فهي المجتمع الكامل، وهي الوحيدة التي يمكن أن تكون كذلك، وفيها يجد الأفراد ملكات جديدة، حياة جديدة، وبنفس الوقت هوية جديدة. هوية كمواطنين، وإنّ هذا الانتماء هو الغاية الطبيعية للنمو الفرديّ، فهو يعطي الإنسان معناه الحقيقيّ، ويسمح له بتحقيق طبيعته الحقيقية. لأن الإنسان، من حيث ماهيته، كائن خُلقَ لكي لا يعيش بشكل كامل، ولا يتفتح بشكل كامل إلّا في المدينة، هذه الاعتبارات تبين إذن أن المدينة تدخل في عداد الوقائع التي توجد بشكل طبيعي، وأن الإنسان بحكم الطبيعة حيوان سياسي، إن هذا يعني القول بأن السياسة وعلم الأخلاق لا يشكلان مبدئياً في نظره، وكما هو الحال بالنسبة لأفلاطون ، علمين منفصلين. فإذا كان الخير الأعظم للمدينة والخير الأعظم للفرد يشكلان، لسبب منهجي، موضوعاً لدراسات منفصلة، فإنهما ليسا أقل تضامناً مع بعض بشكل حميم. إن المدينة جهاز، لكنها جهاز أخلاقي، ولهذا فإنه مزود بضمير، إن ضميره وأخلاقياته لا يمكن أن توجد إلّا لدى أعضائه، الذين تتطابق غاياتهم مع غاياته، ففيهم تجرب المدينة هذه المشاعر أو تلك، فتوافق عليها أو ترفضها. إن السياسة علم أخلاق عالية، أخلاق سيدة.
كما طرح أرسطو، في تأملات تمهيدية لبحث حول الدستور المثالي، سؤالين مرتبطين بشكل وثيق بهذه الصلة بين السياسة وعلم الأخلاق. الأول يتصل بطريقة الحياة المرغوبة بها أكثر بالنسبة للفرد، والثاني بالغاية العليا لنشاط الدولة.حيث يؤكد أرسطو في كتابه (علم الأخلاق) على أن الدستور المثالي هو الدستور الذي يؤمّن للمواطن طريقة الحياة المرغوب بها أكثر. أمّا عن الغاية العليا لنشاط الدولة فيقول: إن واجب المشرّع الحكيم هو التأمل مليّاً، سواء تعلق الأمر بالمدينة أم بأسرة أم بشعوب أم بأي جماعة أخرى، في كيفية تحقيق مشاركتها في حياة طيبة وفي السعادة التي بإمكانها بلوغها، إن من واجبه في حالة ما إذا كان هناك جيران لها، أن يرى أنواع النشاطات التي يجب القيام بها وذلك على ضوء طباعها المختلفة. (2)
يقول جان جاك روسو في العقد الاجتماعي:" في اليونان، كان الشعب يفعل بنفسه كل ما كان عليه أن يفعله. لقد كان باستمرار متجمعاً في الساحة. وكان يسكن مناخاً لطيفاً، ولم يكن قط جشعاً، وكان العبيد يقومون بأشغاله، أما قضيته الكبرى فكانت حريته… ماذا! ألا تبقى الحرية إلا بمساعدة العبودية؟ ممكن. إن الحدين الأقصيين يلتقيان. وكل ما ليس قط من الطبيعة له مساوئه، والمجتمع المدني أكثر من أي شيء آخر ". فصحيح أن الحرية الديمقراطية في أثينا بقيت جزئياً بمساعدة العبودية، لكن التعميم القائل بأن العبيد كانوا يقومون بأشغال الشعب، خاطئ، لأن جماهير الفقراء الذين كانوا في أثينا كما في أغلب الديمقراطيات يشكلون الأكثرية، وإن ما هو حقيقي بشكل دقيق، بالمقابل، هو أن المواطن، على الصعيد السياسي(حيث العبد لم يكن موجوداً أبداً) وإن كان فقيراً كان شخصاً ذا امتيازات، وأن المواطنة، مهما كان حائزها هزيلاً، كانت وظيفة. ولهذا فإن المدينة كانت تبدو في الواقع للرافضين احتكاراً لذوي الامتيازات، وغير مضيافة بالنسبة للعبيد والأجانب، وكانت الحرية المدنية المزعومة تبدو خدعة ينبغي نبذها لصالح الحرية الحقيقية، حرية الحكيم الذي يكفي نفسه بنفسه في المدينة العالمية الواسعة والغامضة.
وإذا ما أردنا أن نحدّد أولى الأسس الأخلاقية والسياسية للمدينة، فإنّ الجواب الشافي سيكون عند أرسطو حيث يقول: "نعم، إن غاية المدينة هي بالتأكيد أن تحوّل تعددية الأفراد والتجمعات إلى وحدة، وتجعل منهم جماعة أو تجمعاً كاملاً، إلّا أنها لا تمتلك قط، بالطبيعة، الوحدة المطلقة التي نسبها أفلاطون وآخرون إليها، أي مطلقة كما هي مشاعية الملكيات والنساء والأطفال. إن أفلاطون ينسى أن هناك في الإنسان دافعين يسيطر عليهما الاهتمام والحبّ، وهما: شعور الملكية والمحبّة المقتصرة على النفس. إنّ كّلّ فرد يهتمّ بقوّة بما هو له، وقليلاً جداً بما هو للجميع. فأيّ تشجيع يقدم لعدم الاكتراث أكثر من التفكير بأنه سيكون هناك دائماً شخص آخر للاهتمام بكائن أو بشيء ما! إن كل الآباء، في نظام "الجمهورية"، سينظرون لكل الأطفال بلا مبالاة متساوية، ولن يكون لدى أي شخص اللذة في أن يُظهر نفسه كإنسان ممتع ومسعف للآخرين بفضل الأموال التي يمتلكها ". حيث أن المدينة لا تتألف فقط من عدد كبير من الأفراد، وإنما أيضاً من عناصر متمايزة نوعياً، وأن هذا التمايز هو الذي يسمح بقيام تبادلات من كل نوع بين هذه العناصر، تبادلات يتغذى بها الكل الاجتماعي ويتقوى. إن الخير الأكبر للمدينة، يكمن في هذا التمايز وليس فقط في ما يجعلها "واحدة" بصفة مطلقة ومفرطة، إن مثل هذه الوحدة التي تلغي الاختلافات، بدل التوفيق بينها، تصبح ناراً مهلكة ومدمِّرة. ويقول أرسطو أيضاً في كتابه "السياسة" : يجب بالتأكيد، وبمعنى ما، أن تشكل الأسرة وحدة، والمدينة أيضاً. لكن هذه الوحدة لا يجب أن تكون مطلقة، لأن هناك في السير نحو وحدة نقطةً إذا تمّ عبورها فانه لن يكون هناك مدينة، أو انه إذا تمّ تجاوزها فإن المدينة، وان استمرت بالوجود، ستجد نفسها قاب قوسين أو أدنى من زوالها، وستصبح جماعة سياسية من نوع أدنى، وهذا بالضبط كما لو أردنا أن نجعل من سيمفونية نغماً واحداً أو أن نختصر السلم الإيقاعي في حركة واحدة. لقد كان أرسطو إذاً يدعو لوحدة حقيقية بدل الوحدة المزيّفة. وقد رأى مصدر هذه الوحدة، الداخلية قبل كل شيء، في العدالة، والصداقة، اللتين يجب أن تسودا بين أعضاء المدينة. وقد ميّز بين عدالة تامة وعدالة خاصة، فالعدالة التامة هي الفضيلة الكاملة أو مجموع الفضائل أو كل الفضائل مجموعة في واحدة، ولكن شريطة أن يكون المقصود هو الفضيلة العاملة لمصلحة الغير، فالذي يمتلكها لا يَقصِر ممارستها على شؤونه الخاصة فقط، وإنما يشعر بأنه مُلزَمٌ بانجاز أعمال مفيدة للآخرين: سواء كانوا حكاماً أم مجرد أعضاء في المدينة. إنها مهمة صعبة وجديرة بالإعجاب، وكما يقول المثل: في العدالة تتلخص كل فضيلة.
إن الصلة بديهية مع المفهوم الأخلاقي للمدينة باعتبارها جماعة أخلاقية غايتها الحياة الطيبة، والخير، ويحكمها القانون الذي هو تعبير عن هذه الغاية: القانون الذي لا يشكل إلّا شيئاً واحداً مع الالتزام الأخلاقي. القانون الذي هو القاعدة الأخلاقية للجماعة. بهذا المعنى يُسمَّى عادلاً مَن يخضع للقانون، ويعرَّف العدل بأنه الشيء المتفق مع القانون: أي الشرعية، أمّا الظلم فهو اللاشرعية. وأن الصداقة ترافق العدالة، فهناك، في كل جماعة، عدالة وبنفس الوقت صداقة. إن الفضيلتين، على ما يبدو، تختصان بنفس المواضيع، وتتعلقان بنفس الأشخاص، إن الفضيلة تكبر، بالطبيعة، مع الصداقة، ولهذا فإن لهما نفس التوسع. إن أرسطو يضع العدالة كما يفهمها في مظاهرها المختلفة، في أساس التجمع السياسي. ولكن حيث تكون العدالة، توجد أيضاً الصداقة. ويذهب الفيلسوف في "علم الأخلاق"، لحد القول بأن الناس إذا اتحدوا برباط الصداقة فلن يكون لديهم حاجة للعدالة، في حين أنهم، لو كانوا عادلين، سيحتاجون زيادة على ذلك للصداقة. ويلحّ على قيمة صلة الصداقة في المدينة، ويعلن أنها تشدّ اهتمام المشرّعين أكثر من العدالة نفسها، لأنّ هؤلاء يسعون جاهدين لجعل الوفاق ينتصر على الخلاف: إلّا أن الوفاق يشبه، إلى حدّ ما، الصداقة. ويكرّر أرسطو في " السياسة " بأنّ الصداقة هي الخير الأكبر، لأنها تخفّف للحد الأدنى بالضبط، احتمالات الفتن.
إننا نعلم أيّ صلة حميمية تجمع بين العدالة التامّة والقانون. القانون، أو الشرعة الأخلاقية للجماعة السياسية، باعتباره تعبيراً عن الأوامر الخالدة للأخلاق. القانون، المعبِّر أيضاً عن العقل" العقل المتحرر من الرغبة"، والمجرد من الشهوات العمياء التي تجعل من الفرد فريسة لها وتجعله لا شخصي حقيقة. القانون الذي، باعتباره عقلاً وأخلاقاً، هو أيضاً طبيعي، مثلما أن المدينة، الشكل الأعلى للحياة الأخلاقية، طبيعية. وهكذا فإنّ سيادة القانون ستكون في نفس الوقت سيادة للعقل والأخلاق والطبيعة.
وأخيراً، هل يجب في المواضيع التي يكون فيها القانون عاجزاً عن تقرير أيّ شيء، أو عن التقرير كما يجب، أن تعود الكلمة الأخيرة لإنسان واحد، للإنسان الكامل!، أو لكل هيئة المواطنين؟ إن المواطنين المجتمعين في جمعية، هم، في أيامنا،عليهم أن يكونوا هم من يحكمون ويتداولون، ومواضيع قراراتهم كلها عبارة عن حالات خاصة. صحيح أنه إذا أخذنا كل عضو في الجمعية على حدة، فإننا سنجد بأنه يتوفر، على وجه الاحتمال، على جدارة أقل من جدارة الإنسان الكامل، لكن المدينة – الدولة مؤلفة من عدد كبير من الأفراد، والوليمة التي يجلب إليها المدعوون معهم حصتهم هي أفضل من الوليمة التي يقدمها شخص واحد. ولهذا السبب أيضاً فإن الجمهور يُعتبر، غالباً، قاضياً أفضل من الإنسان الواحد، مهما كان.

المراجع:

الأعمال الكاملة لأفلاطون – الرسالة السابعة.
السياسة - أرسطو

المراجع

alawan.org

التصانيف

تاريخ  أحداث  مجتمع