ثمّة قصّة مأساوية في التاريخ الإسلاميّ في صدر الإسلام، تثير عند تأمّلها مجموعة من التساؤلات العميقة التي يستحسن الوقوف عندها لأكثر من سبب. والقصة هي حكاية أبي طالب بن عبد المطلب عمّ النبي محمد، الذي مات دون أن يشهر إسلامه، وفق أكثر الروايات السنّية.
بداية، دعونا نتفكّر في القصة.
يروى البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قوله: "لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ‘يا عماه قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة‘، فقال: ‘لولا أن تعيّرني قريش يقولون: ما حمله عليه إلا جزع الموت، لأقررت بها عينك، ولا أقولها إلا لأقرّ بها عينك، فأنزل الله عز وجل: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)."
وينقل ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق "حدثني العباسُ بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس … إلى أن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي عمّ قلها ـ أي كلمة التوحيد ـ استحلّ لك بها الشفاعة يوم القيامة، فأجابه أبو طالب: يا ابن أخي، والله ـ لولا مخافة السبّة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظنّ قريش أنني إنّما قلتها فزعا من الموت، لقلتها، ولا أقولها إلا لأسرّك بها، فلما تقارب الموت من أبي طالب، نظر العباس إليه فوجده يحرّك شفتيه، فأصغى إليه بأذنيه ثم قال: يا ابن أخي لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم أسمع."
وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد أنه سمع النبي ذكر عنده عمّه فقال: "لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه تغلي منه أمّ دماغه". وروى مسلم من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه".
ورووا أن علياً جاء النبي بعد موت أبي طالب فقال له: إنّ عمك الضالّ قد قضى فما الذي تأمرني فيه؟" فأمره بأن يغسله ويدفنه دون أن يصلّي عليه. واحتجوا به لم ينقل أحد عنه أنه رآه يصلي، والصلاة هي المفرقة بين المسلم والكافر، وأنّ علياً وجعفرَ لم يأخذا من تركته شيئاً.
وروي عن النبي أيضا أنه قال: إنّ الله قد وعدني بتخفيف عذابه لما صنع في حقي وإنه في ضحضاح من نار. ورووا عنه أيضاً إنه قيل له: لو استغفرت لأبيك وأمك فقال: لو استغفرت لهما لاستغفرت لأبي طالب فإنه صنع إليّ ما لم يصنعا، وأنّ عبد الله وآمنة وأبا طالب في حجرة من حجرات جهنم.
نحن هنا أمام جملة من الأمور ينبغي التوقف عندها رويّا:
1- في الحديث، عن عبادة بن الصامت، قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأنّ الجنّة حقّ والنار حقّ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل، وفي رواية: أدخله الله الجنّة من أيّ أبواب الجنة الثمانية شاء. وإذن يكفي للمرء أن ينطق بالشهادة لكي يدخل الجنة، حتى ولو ارتكب المعاصي، فسرق وكذب وغشّ، لأنّه سوف يحاسب فترة من الزمن تطول أو تقصر، ثم يحشر مع المتقين في الجنة إلى أبد الآبدين. وبالمقابل فإنّ الرجل الذي رعى النبي غلاما وصحبه في رحلاته إلى الشام وعامله كأفضل ولد من أولاده وحماه ودينه طوال حياته، فسوف يحشر في النار إلى الأبد الآبدين. هذا تناقض غير مقبول في الدين، يرفضه العقل والمنطق والحسّ السليم. إنّ موقف أبي طالب الرافض لإطلاق الشهادة هو في منتهى النبل والأخلاق، مهما كان الدافع إليه. ونحن لا نستطيع أن نعرف ما إذا كان أبو طالب قد آمن في سريرته بدين محمد أم لا. وثمّة أدب شيعيّ كثير يبرهن على أنه فعل وأخفى ذلك. ولكن ذلك لا يهمّنا نحن، لأنه أمر فرديّ تماما. ما يهمّنا هو الشجاعة النادرة التي تحلّى بها الرجل وهو على سرير الموت، إذ يقول لابن أخيه لولا أن تعيّرني قريش يقولون: ما حمله عليه إلا جزع الموت، لأقررت بها عينك،" وفي رواية أخرى وفي رواية ابن هشام " لولا مخافة السبّة عليك وعلى بني أبيك من بعدي." ههنا شجاعة ونخوة وحرص على ابن أخيه وسمعته من بعده. وهذا موقف نادر لا يتحلّى به إلا الخلّص من الرجال والنساء النادرين.
2- يقول النبي: إن عمّه "في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه تغلي منه أمّ دماغه." في هذه الرواية لغة غير لائقة بحقّ رجل غريب، ناهيك عن قريب كان بمثابة الأب للنبيّ. ولا يملك المرء ألا يسأل نفسه: هل حقا يستطيع رجل بحلم محمد وعمق نظرته وحسن خلقه أن يستخدم هذه الصورة المقذعة بحقّ الرجل الوحيد الذي أحسن إليه، عندما كان الجميع يضطهدونه، وهو الذي قال لابن أخيه عندما طلبته قريش فقال: "يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه،" قال: "اذهب يا ابن أخي فلن أسلمك أبدا إلى ما لا تحبّ." إن العقل والفؤاد والمنطق والتحليل السليم لا يمكن أن يقبل من رجل مثل محمد قولا كهذا بحقّ عمه. ومن هنا فنحن أمام احتمالين: إمّا أنّ الرجل قال ذلك، وبالتالي فإنّ ما قيل عن حلمه ورجاحة عقله كان غير صحيح، وإما أنه لم يقل ذلك، وهو الأرجح عندي، ومعنى ذلك أنّ الحديث النبوي سواء أجاء في صحيح البخاري أم مسلم أم الترمذي والنسائي وابن ماجة ومن لفّ لفّهم، ينبغي ألا يؤخذ من الآن فصاعدا حجّة على أيّ قاعدة في الدين أو الدنيا.
3- ومثل ذلك قصة عليّ الذي يأتي محمدا فيقول له: "إن عمّك الضالّ قد قضى فما الذي تأمرني فيه؟" ففي ذلك نقص في اللياقة لا تستقيم ودماثة عليّ. فهو هنا يتحدّث عن أبيه الذي أمر القرآن باحترامه وتوقيره حتى ولو يكن مسلما. "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وقل لهما قولا كريما." كما أنه يخاطب محمّدا مخبرا إياه عن وفاة عمه، فهل يعقل أن يستخدم هذه اللغة؟ كل ذلك يجعلنا نعيد التفكير في قضية الموروث الذي يأخذه عامّة المسلمين كتحصيل حاصل، بينما يحتاج أغلبه للتدقيق ولإعمال العقل فيه، ورفض غير المعقول منه سواء أرواه أبو هريرة (خصوصا) أم غيره، وسواء أأورده البخاري أم غيره.
4- ولكنّ أغرب ما قيل في الحكمة من وفاة أبي طالب على ملّة عبد المطلب هو ما رواه ابن كثير، إذ يقول: "وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية؛ إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه ولاجترؤوا عليه ولمدّوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه." ههنا انتهازية غير مقبول من بشر سويّ لتكون مقبولة من خالق الأكوان، الذي يضحّي برجل شريف وشهم وشجاع، لكي يحمي نبيه من ألسنة قريش ويجبرهم على احترامه. ثم يرسله بيديه إلى ضحضاح من النار، لا يخرج منها أبدا.
المراجع
alawan.org
التصانيف
تاريخ أحداث تاريخ إسلامي