وبين
كرامات الأولياء وبين ما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة: منها أن كرامات
الأولياء سببها الايمان والتقوى والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله.
وقد قال تعالى: قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون {الأعراف:33} فالقول على
الله بغير علم والشرك والظلم والفواحش قد حرمها الله تعالى ورسوله فلا تكون سببا
لكرامة الله تعالى بالكرامات عليها فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة
القرآن بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات أو
كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش فهي من الأحوال الشيطانية لا من
الكرامات الرحمانية.
ومن هؤلاء من إذا حضر سماع
المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار فإذا
حضر رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه فيسقط كما جرى هذا لغير واحد ومن هؤلاء
من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت سواء كان ذلك المخلوق مسلما أو نصرانيا أو مشركا
فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث فيظن أنه ذلك
الشخص أو هو ملك تصور على صورته وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله كما كانت
الشياطين تدخل في الأصنام وتكلم المشركين.
ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان
ويقول له: أنا الخضر وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه كما قد جرى
ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب
يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته وهم يعتقدون أنه ذلك الميت ويقضي
الديون ويرد الودائع ويفعل أشياء تتعلق بالميت ويدخل إلى زوجته ويذهب وربما يكونون
قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته ومن هؤلاء
شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال: إذا أنا مت فلا تدع أحدا يغسلني فأن أجيء وأغسل
نفسي فلما مات رأى خادمه شخصا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه فلما قضى ذلك
الداخل غسله أي غسل الميت غاب وكان ذلك شيطانا وكان قد أضل الميت وقال: إنك بعد
الموت تجيء فتغسل نفسك فلما مات جاء أيضا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت
قبل ذلك
ومنهم من يرى عرشا في الهواء
وفوقه نور ويسمع من يخاطبه ويقول: أنا ربك فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان
فزجروه واستعاذ بالله منه فيزول
ومنهم من يرى أشخاصا في اليقظة
يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين وقد جرى هذا لغير واحد (وهؤلاء
منهم من يرى ذلك عند قبر الذي يزوره فيرى القبر قد انشق وخرج إليه صورة فيعتقدها
الميت وإنما هو جني تصور بتلك الصورة ومنهم من يرى فارسا قد خرج من قبره أو دخل في
قبره ويكون ذلك شيطانا وكل من قال: أنه رأى نبيا بعين رأسه فما رأى إلا خيالا)
ومنهم من يرى في منامه أن بعض
الأكابر إما الصديق رضي الله عنه أوغيره قد قص شعره أوحلقه أو ألبسه طاقيته أو
ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر إنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه
وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات والجن الذين
يقترنون بهم من جنسهم وعلى مذهبهم والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطىء فإن كان
الإنسي كافرا أو فاسقا أو جاهلا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال وقد يعاونونه
إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن
وغيرهم ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة أويقلب فاتحة الكتاب أو
سورة الإخلاص أو آية الكرسي أو غيرهن ويكتبهن بنجاسة فيغورون له الماء وينقلونه
بسبب ما يرضيهم به من الكفر وقد يأتونه بمن يهواه من امرأة أو صبي إما في الهواء
وإما مدفوعا ملجأ إليه إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها والإيمان بها إيمان
بالجبت والطاغوت والجبت: السحر والطاغوت: الشياطين والأصنام وإن كان الرجل مطيعا
لله ورسوله باطنا وظاهرا لم يمكنهم الدخول معه في ذلك أو مسالمته
ولهذا لما كانت عبادة المسلمين
المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله كان عمار المساجد أبعد عن الأحوال
الشيطانية وكان أهل الشرك والبدع يعظمون القبور ومشاهد الموتى فيدعون الميت أو
يدعون به أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب - أقرب إلى الأحوال الشيطانية
من ضوابط الحكم على خرق العادة
النظر في سيرة واستقامة من خرقت له:
وأما تمييز الولي الصادق الذي
قد تجري على يديه الكرامات من الدعي الكاذب الذي يموه على الناس ويخدعهم، فإنما
يكون ذلك بحسب صلاحه وتقواه، من قيامه بالفرائض والنوافل، واتقائه الكبائر،
والصغائر، واتصافه بالصفات الكريمة، واستدامته عليها، فإن اتصف شخص بكل هذه الصفات
الطيبة، وعرفت عنه، ثم حدث على يديه شيء من الخوارق فيما لا يخالف الشرع، فيجوز أن
يطلق على ذلك الخارق اسم (كرامة).
أما إن كان الرجل على خلاف
ذلك، مشتهرا بالفسق والفساد والضلال، وغير ذلك، فإن كل ما يجري على يديه لا يعتد
به بالغا ما بلغ، والله أعلم .
من شروط الكرامة:
قال الإمام الشاطبي رحمه الله:
(ومن الفوائد في هذا
الأصل أن ينظر إلى كل خارقة صدرت على يدي أحد، فإن كان لها أصل في كرامات الرسول
صلى الله عليه وسلم ومعجزاته؛ فهي صحيحة، وإن لم يكن لها أصل؛ فغير صحيحة، وإن ظهر
ببادئ الرأي أنها كرامة؛ إذ ليس كل ما يظهر على يدي الإنسان من الخوارق بكرامة، بل
منها ما يكون كذلك، ومنها ما لا يكون كذلك.
وبيان ذلك بالمثال أن أرباب
التصريف بالهمم والتقربات بالصناعة الفلكية، والأحكام النجومية، قد تصدر عنهم
أفاعيل خارقة، وهي كلها ظلمات بعضها فوق بعض، ليس لها في الصحة مدخل، ولا يوجد لها
من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم منبع؛ لأنه إن كان ذلك بدعاء مخصوص، فدعاء
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على تلك النسبة، ولا تجري فيه تلك الهيئة، ولا
اعتمد على قران في الكواكب، ولا التمس سعودها أو نحوسها، بل تحرى مجرد الاعتماد
على من إليه يرجع الأمر كله، والتجأ إليه، معرضاً عن الكواكب، وناهياً عن الاستناد
إليها؛ إذ قال: ((أصبح
من عبادي مؤمن بي وكافر))... الحديث وإن تحرى وقتاً، أو دعا إلى تحريه، فلسبب بريء من هذا كله؛
كحديث التنزل، وحديث اجتماع الملائكة طرفي النهار، وأشباه ذلك) إلى أن قال رحمه
الله: (وهذا الموضع مزلة قدم للعوام، ولكثير من الخواص؛ فلتتنبه له) .
خرق العادة بمجرده لا يدل على
الولاية:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله تعالى:
(وكل من خالف شيئاً مما
جاء به الرسول، مقلداً في ذلك لمن يظن أنه ولي لله، فإنه بنى أمره على أنه ولي الله،
وأن ولي الله لا يخالف في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله؛ كأكابر
الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم
يكن كذلك؟!
وتجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم
في اعتقاد كونه وليا لله أنه قد صدر عنه مكاشفه في بعض الأمور، أو بعض التصرفات
الخارقة للعادة؛ مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها،
أو يمشي على الماء أحياناً، أو يملأ إبريقاً من الهواء، أو ينفق بعض الأوقات من
الغيب، أو يختفي أحياناً عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت
فرآه قد جاءه، فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم أو مريض،
أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي الله،
بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء، أو مشى على الماء، لم يغتر
به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وموافقته لأمره ونهيه.
وكرامات أولياء الله تعالى
أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة -وإن كان قد يكون صاحبها وليا
لله- فقد يكون عدوا لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار، والمشركين، وأهل
الكتاب، والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل
من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي الله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم،
وأفعالهم، وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن،
وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام الظاهرة.
مثال ذلك: أن الأمور المذكورة
وأمثالها، قد توجد في أشخاص، ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل
يكون ملابسا للنجاسات، معاشرا للكلاب، يأوي إلى الحمامات، والقمامين، والمقابر،
والمزابل، رائحته خبيثة، لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف...) . اهـ.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله:
(ومن هنا يعلم أن كل
خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، فلا يصح ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على
أحكام الشريعة، فإن ساغت هناك فهي صحيحة مقبولة في موضعها، وإلا لم تقبل إلا
الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء عليهم السلام؛ فإنه لا نظر فيها لأحد؛ لأنها
واقعة على الصحة قطعاً؛ فلا يمكن فيها غير ذلك، ولأجل هذا حكم إبراهيم عليه السلام
في ذبح ولده بمقتضى رؤياه، وقال له ابنه: يَا
أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ {الصافات:
102}، وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم.
وبيان عرضها أن تفرض الخارقة
واردة من مجاري العادات، فإن ساغ العمل بها عادة وكسبا، ساغت في نفسها، وإلا فلا؛
كالرجل يكاشف بامرأة أو عورة، بحيث اطلع منها على ما لا يجوز له أن يطلع عليه، وإن
لم يكن مقصوداً له، أو رأى أنه يدخل على فلان بيته وهو يجامع زوجته ويراه عليها،
أو يكاشف بمولود في بطن امرأة أجنبية؛ بحيث يقع بصره على بشرتها، أو شيء من
أعضائها التي لا يسوغ النظر إليها في الحس، أو يرى صورة مكيفة مقدرة تقول له: (أنا
ربك)، أو يرى ويسمع من يقول له: (قد أحللت لك المحرمات)، وما أشبه ذلك من الأمور
التي لا يقبلها الحكم الشرعي على حال، ويقاس على ذلك ما سواه، وبالله التوفيق) . اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
(خرق العادة قد يقع
للزنديق بطريق الإملاء والإغواء، كما يقع للصديق بطريق الكرامة والإكرام، وإنما
تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة) .
وقال العلامة الشوكاني رحمه
الله:
(ولا يجوز للولي أن
يعتقد في كل ما يقع له من الواقعات والمكاشفات أن ذلك كرامة من الله سبحانه، فقد
يكون من تلبيس الشيطان ومكره. بل الواجب عليه أن يعرض أقواله وأفعاله على الكتاب
والسنة، فإن كانت موافقة لها، فهي حق، وصدق، وكرامة من الله سبحانه، وإن كانت
مخالفة لشيء من ذلك؛ فليعلم أنه مخدوع ممكور به، قد طمع منه الشيطان؛ فلبس عليه) .
اهـ.
وقال الدكتور تقي الدين
الهلالي شيخ التوحيد والسنة في بلاد المغرب – بل في كثير من بلاد العالم الإسلامي
– رحمه الله تعالى -: (.. ومن هذا تعلم أن ظهور الخوارق، وما في عالم الغيب – ليس
دليلاً على صلاح من ظهرت له تلك الخوارق، ولا على ولايته لله البتة؛ فإن كل مرتاض
رياضة روحية تظهر له الخوارق على أي دين كان، وقد سمعنا وقرأنا أن العباد الوثنيين
من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام) .
اهـ.
(إذن، فيجب على كل مسلم
التحقق من ذلك، ولا يجوز القطع بولاية كل من فعل خارقاً من خوارق العادات؛ لأن
الغاية من خرق العادة عند المشعوذين: التلبيس على المسلمين في دينهم، كما كانت الشياطين
تخدع المشركين، فتدخل في أجواف الأصنام وتصدر أصواتاً، يظنون أن أصنامهم تتحدث
إليهم، أو تحركها الشياطين من مكانها، فيظنوا أنها تتحرك من تلقاء نفسها.
ولقد ذكر الشعراني أن الشيطان
كان يدخل في أجواف الأصنام، والغربان، والعصافير، ويتكلم على ألسنتها بما شاء، حتى
عبدت من دون الله) .
من القادر على التمييز بين
(الأحوال الرحمانية) و(الأحوال الشيطانية)؟
يتمكن إبليس من الإنسان على
قدر حظه من العلم، فكلما قل علمه اشتد تمكن إبليس منه، وكلما كثر العلم قل تمكنه
منه؛ ولذلك لا تشتبه (الكرامة الرحمانية) بالحال (الشيطانية) إلا عند الجهال، وأهل
الأهواء، بخلاف أهل العلم والبصيرة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(فإذا كان العبد من هؤلاء فرق بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، كما يفرق
الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد
والفرس الرديء، وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب
الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبي الكذاب، فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول
الله رب العالمين، وموسى، والمسيح، وغيرهم، وبين مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي،
وطلحة الأسدي، والحارث الدمشقي، وباباه الرومي، وغيرهم من الكذابين، وكذلك يفرق
بين أولياء الله المتقين، وأولياء الشيطان الضالين) . اهـ.
وقال ابن الجوزي رحمه الله:
(ومن العباد من يرى
ضوءاً أو نوراً في السماء، فإن كان في رمضان قال: رأيت ليلة القدر، وإن كان في
غيره قال: فتحت لي أبواب السماء، وقد يتفق له الشيء الذي يطلبه، فيظن ذلك كرامة،
وربما كان اختباراً، وربما كان من خدع إبليس، والعاقل لا يساكن شيئاً من هذا، ولو
كان كرامة) .
كان أبو ميسرة فقيه المغرب
يختم كل ليلة في مسجده، فرأى ليلة نورا قد خرج من الحائط، وقال: تمل من وجهي؛ فأنا
ربك، فبصق في وجهه، وقال: (اذهب يا ملعون) ، فطفئ النور .
(وكم اغتر قوم بما يشبه
الكرامات، فقد روينا بإسناد عن حسن عن أبي عمران قال: قال لي فرقد: (يا أبا عمران،
قد أصبحت اليوم وأنا مهتم بضريبتي، وهي ستة دراهم، وقد أهل الهلال وليست عندي،
فدعوت، فبينما أنا أمشي على شط الفرات إذا أنا بستة دراهم، فأخذتها فوزنتها، فإذا
هي ستة لا تزيد ولا تنقص)، فقال: (لا تصدق بها، فإنها ليست لك)، قلت: -أبو عمران
هو إبراهيم النخعي فقيه أهل الكوفة- فانظروا إلى كلام الفقهاء، وبعد الاغترار
عنهم، وكيف أخبره أنها لقطة، ولم يلتفت إلى ما يشبه الكرامة، وإنما لم يأمره
بتعريفها لأن مذهب الكوفيين أنه لا يجب التعريف لما دون الدينار، وكأنه إنما أمره
بالتصدق بها لئلا يظن أنه قد أكرم بأخذها وإنفاقها.
وبإسناد عن إبراهيم الخراساني
أنه قال: احتجت يوماً إلى الوضوء، فإذا أنا بكوز من جوهر، وسواك من فضة، رأسه ألين
من الخز، فاستكت بالسواك، وتوضأت بالماء، وتركتهما وانصرفت.
قلت: في هذه الحكاية من لا
يوثق بروايته، فإن صحت دلت على قلة علم هذا الرجل؛ إذ لو كان يفهم الفقه علم أن
استعمال السواك الفضة لا يجوز، ولكن قل علمه فاستعمله، وإن ظن أنه كرامة، والله
تعالى لا يكرم بما يمنع استعماله شرعاً، إلا إن أظهر له ذلك على سبيل الامتحان) .
قال القشيري: (قال إبراهيم
الخواص: طلبت الحلال في كل شيء حتى طلبته في صيد السمك، فأخذت قصبة، وجعلت فيها
شعرا، وجلست على الماء، فألقيت الشص، فخرجت سمكة، فطرحتها على الأرض، وألقيت ثانية،
فخرجت لي سمكة. إذ من ورائي لطمة لا أدري من يد من هي، ولا رأيت أحداً وسمعت
قائلاً يقول: أنت لم تصب رزقاً في شيء إلا أن تعمد إلي من يذكرنا فتقتله. قال
إبراهيم: فقطعت الشعر، وكسرت القصبة، وانصرفت) .
ولو أن هذا الصوفي تدبر قوله
تعالى: أُحِلَّ
لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ {المائدة: 96}،
لجزم قاطعا بأن اللاطم لم يكن سوى إبليس؛ إذ الله لا يعاقب على صيد ما أباحه، ولا
يحرم صيد الأسماك؛ لأنها تذكر الله عز وجل؛ فإنه ما من شيء إلا يسبح بحمده ويذكره،
ولو تركنا ذبح الأنعام –وهي تذكر الله- تعالى-أيضا، لم يكن لنا ما يقيم قوى
الأبدان.
وذكر محمد بن أبي الفضل
الهمداني المؤرخ قال: حدثني أبي قال: كان السرمقاني المقرئ يقرأ على ابن العلاف،
وكان يأوي إلى المسجد بدرب الزعفراني، واتفق أن ابن العلاف رآه ذات يوم في وقت
مجاعة، وقد نزل إلى دجلة، وأخذ منه أوراق الخس مما يرمي به أصحابه، وجعل يأكله،
فشق ذلك عليه، وأتى إلى رئيس الرؤساء، فأخبره بحاله، فتقدم إلى غلام بالقرب إلى
المسجد الذي يأوي إليه السرمقاني أن يعمل لبابه مفتاحاً من غير أن يعلمه، ففعل
وتقدم إليه أن يحمل كل يوم ثلاثة أرطال خبزاً سميداً، ومعها دجاجة، وحلوى سكرا،
ففعل الغلام ذلك، وكان يحمله على الدوام، فأتى السرمقاني في أول يوم فرأى ذلك
مطروحاً في القبلة، ورأى الباب مغلقاً فتعجب، وقال في نفسه: هذا من الجنة، ويجب
كتمانه، وأن لا أتحدث به، فإن من شروط الكرامة كتمانها، وأنشدني:
من أطلعوه على سر فباح به
|
|
لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
|
فلما استوى حاله، وأخصب جسمه،
سأله ابن العلاف عن سبب ذلك، وهو عارف به، وقصد المزاح معه، فأخذ يوري ولا يصرح،
ويكني ولا يفصح، ولم يزل ابن العلاف يستخبره حتى أخبره أن الذي يجده في المسجد
كرامة؛ إذ لا طريق لمخلوق عليه، فقال له ابن العلاف: (يجب أن تدعو لابن المسلمة،
فإنه هو الذي فعل ذلك)، فنغص عيشه بإخباره، وبانت عليه شواهد الانكسار . اهـ.
أمثلة من الأحوال الشيطانية:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله في شأن أصحاب الأحوال الشيطانية: (وهؤلاء تقترن بهم الشياطين، وتنزل
عليهم، فيكاشفون الناس ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس
الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين، قال تعالى: هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ
أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ {الشعراء:
221-223}، وهؤلاء جميعاً ينتسبون على المكاشفات، وخوارق العادات، إذا لم يكونوا
متبعين للرسل، فلابد أن يكذبوا، وتكذبهم شياطينهم، ولابد أن يكون في أعمالهم ما هو
إثم وفجور؛ مثل نوع من الشرك، أو الظلم، أو الفواحش، أو الغلو، أو البدع في
العبادة.
ولهذا تنزلت عليهم الشياطين،
واقترنت بهم، فصاروا من أولياء الشيطان، لا من أولياء الرحمن؛ قال الله تعالى: وَمَن
يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {الزخرف: 36}).
ومن الأحوال الشيطانية حال
(عبد الله بن صياد)، الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد ظن بعض
الصحابة أنه الدجال، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد
أنه ليس هو الدجال، لكنه كان من جنس الكهان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((قد خبأت لك خبئا)) قال: ((الدخ الدخ))، وقد كان خبأ له سورة الدخان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((اخسأ فلن تعدو قدرك)) ، يعني إنما أنت من إخوان الكهان، والكهان كان يكون لأحدهم القرين
من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع، وكانوا يخلطون الصدق
بالكذب، كما هو في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: ((إن الملائكة تنزل في
العنان – وهو السحاب – فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع، فتوحيه
إلى الكهان، فيكذبون معها مئة كذبة من عند أنفسهم)) .
وهذا المسيح الدجال الذي هو
أعظم فتنة تمر على البشرية في تاريخها، حتى حذر جميع الأنبياء منه أممهم، وحتى قال
فيه النبي صلى الله عليه وسلم: فيما رواه أبو داود عن عمران بن حصين رضي الله
عنهما: ((من سمع الدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه
مؤمن فيتبعه؛ مما يبعث به من الشبهات)) ،
وسوف يأتي بأعظم الخوارق:
فمنها: ما رواه حذيفة رضي الله
عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار)) .
ومنها: أنه يستعين بالشياطين؛
فقد روي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ((وإن من فتنته أن يقول لأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك،
أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بني
اتبعه؛ فإنه ربك)) .
ومن فتنته أنه يأمر السماء
فتمطر، والأرض فتنبت، ويدعو البهائم فتتبعه، ويأمر الخرائب أن تخرج كنوزها
المدفونة فتستجيب.
ومن فتنته أنه يقتل ذلك الشاب
المؤمن فيما يظهر للناس، ثم يدعي أنه أحياه، فيقول ذلك الشاب: ((والله
ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم)) .
يقول شيخ الإسلام في شأن أصحاب
الأحوال الشيطانية:
(وهؤلاء تأتيهم أرواح
تخاطبهم، وتتمثل لهم، وهي جن وشياطين، فيظنونها ملائكة؛ كالأرواح التي تخاطب من
يعبد الكواكب والأصنام.
وكان من أول ما ظهر من هؤلاء
في الإسلام: المختار بن أبي عبيد الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث
الصحيح الذي رواه مسلم في (صحيحه) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سيكون في ثقيف كذاب ومبير)) ، وكان الكذاب: المختار بن أبي عبيد. والمبير: الحجاج بن يوسف،
فقيل لابن عمر وابن عباس: إن المختار يزعم أنه ينزل إليه، فقالا: صدق، قال الله
تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن
تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {الشعراء: 221-222}.
وقال الآخر: وقيل له: إن
المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال: قال الله تعالى: وَإِنَّ
الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ{الأنعام:
121} .
(والأسود العنسي الذي
ادعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة، فلما قاتله
المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه
امرأته، لما تبين لها كفره، فقتلوه.
وكذلك مسيلمة الكذاب، كان معه
من الشياطين من يخبره بالمغيبات، ويعينه على بعض الأمور.
وأمثال هؤلاء كثيرون؛ مثل
الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة، وكانت
الشياطين تخرج رجليه من القيد، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبح الرخامة إذا مسحها
بيده، وكان يري الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء، ويقول: هي الملائكة،
وإنما كانوا جنا، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه،
فقال له عبد الملك: إنك لم تسم الله، فسمى الله، فطعنه فقتله .
وهكذا أهل الأحوال الشيطانية
تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها؛ مثل آية الكرسي، فإنه قد ثبت في
(الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، لما وكله النبي
صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر، فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة، وهو يمسكه
فيتوب فيطلقه، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما
فعل أسيرك البارحة؟))، فيقول: زعم أنه لا يعود، فيقول: ((كذبك
وإنه سيعود))، فلما كان في المرة الثانية، قال: دعني حتى
أعلمك ما ينفعك: إذا أويت إلى فراشك فاقرآ آية الكرسي: اللّهُ
لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ {البقرة: 255}...
إلى آخرها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك
شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صدقك وهو كذوب)) ،
وأخبره أنه شيطان.
ولهذا إذا قرأها الإنسان عند
الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها؛ مثل من يدخل النار بحال شيطاني، أو يحضر سماع
المكاء والتصدية، فتنزل عليه الشياطين، وتتكلم على لسانه كلاماً لا يعلم، وربما لا
يفقه، وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة؛ كما يتكلم
الجني على لسان المصروع، والإنسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك، بمنزلة المصروع
الذي يتخبطه الشيطان من المس، ولبسه، وتكلم على لسانه، فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما
قال) . اهـ.
من الخوارق ما لا يكون بتسبب
شيطاني مباشر، وإنما يكون بطريق التعلم والحيلة، كما يفعله النصارى كثيراً، وكما
كان يفعل ابن تومرت ، وكما روي عن الحلاج، من أنه (كان يدفن شيئاً من الخبز، والشواء،
والحلوى في موضع من البرية، ويطلع بعض أصحابه على ذلك، فإذا أصبح قال لأصحابه: (إن
رأيتم أن نخرج على وجه السياحة)، فيقوم، ويمشي الناس معه، فإذا جاءوا إلى ذلك
المكان، قال له صاحبه الذي أطلعه على ذلك: (نشتهي الآن كذا وكذا)، فيتركهم الحلاج،
وينزوي عنهم إلى ذلك المكان، فيصلي ركعتين، ويأتيهم بذلك، وكان يمد يده إلى
الهواء، ويطرح الذهب في أيدي الناس ويمخرق، وقد قال له بعض الحاضرين يوما: (هذه
الدراهم معروفة، ولكن أؤمن بك إذا أعطيتني درهما عليه اسمك واسم أبيك)، وما زال
يمخرق إلى وقت صلبه) .
ومن ذلك ما ذكره بعض أصحاب ابن
الشباس قال: (حضرنا يوماً عنده، فأخرج جدياً مشوياً، فأمرنا بأكله، وأن نكسر عظمه
ولا نهشمها، فلما فرغنا أمر بردها إلى التنور، وترك على التنور طبقا، ثم رفعه بعد
ساعة، فوجدنا جديا حيا يرعى حشيشا، ولم نر للنار أثرا، ولا للرماد ولا للعظام
خبرا، قال: فتلطفت حتى عرفت ذلك، وذلك أن التنور يفضي إلى سرداب، وبينهما طبق نحاس
بلولب، فإذا أراد إزالة النار عنه فركه فينزل عليه فيسده وينفتح السرداب، وإذا
أراد أن يظهر النار أعاد الطبق إلى فم السرداب فتراءى للناس).
قال ابن الجوزي رحمه الله
تعالى:
(وقد رأينا في زماننا من
يشير إلى الملائكة ويقول: هؤلاء ضيف مكرمون، يوهم أن الملائكة قد حضرت، ويقول لهم:
تقدموا إلي. وأخذ رجل في زماننا إبريقا جديداً فترك فيه عسلا، فتشرب في الخزف طعم
العسل، واستصحب الإبريق في سفره، فكان إذا غرف به الماء من النهر، وسقى أصحابه
وجدوا طعم العسل، وما في هؤلاء من يعرف الله، ولا يخاف في الله لومة لائم، نعوذ
بالله من الخذلان) .
المراجع
موسوعة الدرر السنية
التصانيف
عقيدة