نيتشه فيلسوف " قلب القيم " بامتياز، هذا ما لا يخفيه نيتشه عن أحد، ولا تطلّ فرصة إلّا ويعرّف نفسه بذلك: أنظر إلى المفاهيم والقيم الصحيّة من زاوية المريض، ثمّ عكس العملية، بالإطلال من منطلق الوعي الذاتي للحياة الثرية على هاوية العمل السرّيّ لغرائز الانحطاط، وإذا ما كانت لديّ براعة ما فإنّما في هذا المجال، وقد غدت لديّ اليوم الخبرة التي تمكنّني من تحويل زوايا الرؤية، إنّه السبب الأوّل الذي بإمكانه أن يجعلني الوحيد المؤهّل لمهمّة قلب القيم. ومن منطق "تحطيم الأصنام والمثل" هذا، استدلّ نيتشه على حرفته " الفلسفة " واختار لها مجازيّاً أكثر الأدوات صلابة وفاعلية " المطرقة "، لكي ينهال دون هوادة على " أكذوبة عالم المُثُل " التي، حسب تعبيره، جرّدت الواقع من قيمته ومن معناه ومن حقيقته. وبناءً عليه فضّل نيتشه " أن يكون مهرّجاً على أن يكون قدّيساً "، وهمّ بالبحث عن كلّ ما هو غريب وإشكاليّ في الوجود.
يقول نيتشه في كتابه "هذا هو الإنسان": إنّني ذو مؤهّلات حربية بطبعي، الهجوم هو إحدى غرائزي، وأعتبر نفسي نقيضاً لكلّ ما يحمل طابعاً بطولياً، والشدّة هي جزءٌ من عاداتي السلوكية كيما أظلّ مرحاً منشرح الصدر في خضمّ الحقائق القاسية. وممارسته الحربية تلك وشدّته تتلخّصان في أربعة مبادئ :
لا أهاجم إلّا ما هو مجلبة للنصر. لا أهاجم إلّا ما لا حليف لي عليه " حيث أقف وحيداً في المعركة وحيث لا أورّط إلا نفسي وهذا ما اعتبره مقياسي الشخصي للسلوك الصحيح" . لا أهاجم الأشخاص كأشخاص، بل استعمل الأشخاص كزجاج مكبّر يمكن للمرء بواسطته أن يجعل كارثة عمومية مراوٍغة ومستمرة ومستعصية على الإدراك أمراً مرئياً واضحاً للعيان. لا أهاجم إلّا ما هو خالٍ من كل خلاف شخصيّ، ومن كلّ خلفيات التجارب السيئة . هكذا تعامل نيتشه مع المسألة الدينية بشكل عامّ، والمسيحية بشكل خاصّ " بوصفها تعاليم أخلاقية ". وهكذا تعامل مع مسيحيي عصره، حيث نعت نفسه بالمناهض لـ" المسيحية" ونقيض " المسيح "، فكان أبعد ما يكون عن مؤاخذة الأفراد بأشياء سبّبها عمل آلاف من السنين، ومن هذا أيضاً بدأ بإعادة التعلّم حيث يقول: إذ أنّ كل الأشياء التي ظلّت البشرية تثمّنها إلى حدّ الآن ليست حتى بالأمور الواقعية، بل خيالات ومجرّد أوهام وبعبارة أكثر شدّة: أكاذيب طالعة من عمق الغرائز السيئة لطبائع مريضة ومضرّة بالمعنى العميق للكلمة، كلّ هذه المفاهيم من شاكلة " الله" و "الروح " و"الفضيلة " و"الخطيئة" و" الماوراء " و" الحقيقة"، وداخل هذه المفاهيم ظلّ يَجري البحث عن عظمة شأن الطبيعة الإنسانية وطابعها القدسيّ، وهكذا تمّ تزوير كلّ مسائل السياسة والنظام الاجتماعي والتربية من الأساس، بحيث تم تكريس أشدّ الناس ضرراً كعظماء، وتعلّّم الناس إبداء الاحتقار تجاه الأشياء (الصغيرة)، وهي الشؤون الجوهرية للحياة. إذاً بهذا الوثوق الرهيب كان نيتشه ممسكاً بمهمّته بما تتضمّنه هذه المهمّة من قيمة تاريخية وكونية، فالإنسان الأخلاقيّ عنده، ليس أكثر قرباً من عالم المعقولات من الإنسان المادّي، إذ أنه ليس هنالك من عالم معقولات، هذا هو المبدأ الذي اكتسب طابعه الصلب والقاطع تحت وقع الضربات المطرقية للمعرفة التاريخية، وهي الفأس التي استخدمها لاجتثاث الحاجة الميتافيزيقة للبشر من الجذور، هذه المهمّة مفادها أنّ الإنسانية ليست منقادة بنفسها إلى الطريق السويّ، ولا هي مسيّرة البتة من قبل العناية الإلهية، بل إنها على العكس من ذلك، قد فسحت المجال، بمفاهيمها القيميّة المقدسة، لغرائز النفي والفساد وغريزة الانحطاط كي تمارس سيادتها(عليها)، فمسألة أصل القيم الأخلاقية تكتسي أهمية من الدرجة الأولى بالنسبة لفيلسوفنا، فعليها حسب تقديره، يتوقّف مستقبل الإنسانية. فالعقلانية والحاجة الميتافيزيقة بالنسبة له هي محض تناقض قيمي " فحين يتراخى أدنى عضو من مجمل جسده ويتخلّى عن حماية حفظ ذاته وتأمين طاقاته الحيوية (أنانيته) بوثوق تامّ، يتداعى لذلك الكلّ، وفي مثل هذه الحالة يأمر العقلاني ببتر العضو المتداعي ولا يتضامن مع انحطاط ذاك العضو، فالعقلاني أبعد ما يكون عن الشفقة تجاهه، ولكن اللاعقلاني، الغيبيّ، ذا الحاجة الميتافيزيقية، يريد بالتحديد انحطاط الكلّ، الإنسانية بكليتها لذلك هو يحفظ العنصر المتفكّك، فبمثل هذا الثمن يتسنّى له السيطرة عليها"، فأيّ معنى تحمل المفاهيم الرافدة للأخلاق ( الله، الروح، الحياة الخالدة…إلخ) إن لم يكن التدمير الفزيولوجي للإنسانية، فمناقضة الغرائز الطبيعية، " أي نكران الذات في كلمة واحدة- ذلك هو ما ظل يسمّى إلى حد الآن بالأخلاق "، فإنّ القول بضرورة الاعتقاد بأنّ كل شيء مسيّر بيد حكيمة، وإنّ كتاباً إلهياّ بمستطاعه أن يمنح طمأنينة نهائية بشأن التسيير الإلهي والحكمة الربانية يعني، مترجماً إلى لغة الواقع " إرادة طمس الحقيقة " التي تشهد بواقع معاكس بائس يبعث على الشفقة، ألا وهو أنّ الإنسانية ظلّت إلى حدّ اليوم مسيّرة بأسوأ ما يوجد من الأيدي ومحكومة من قبل المحتالين، " وانّ أخلاق الانحطاط قد غدت الأخلاق بحدّ ذاتها ".
إذاً فلسفة نيتشه هي فلسفة العقل الحرّ، المنعتق، فلسفة قلب كلّ القيم أو تحريرها من كلّ قيود المعايير الأخلاقية والدينية والمعرفية المتداولة، وهي فلسفة تنضوي على دعوى صريحة وصارخة معاً كي نخلّص الماضي، " أن نحول كل (ذلك ما كان) إلى (ذلك ما أردت)، هذا ما أسمّيه خلاصاً ". ومنه فالإنسان في فلسفة نيتشه لديه شيء غير متشكّل، مادّة، حجارة قميئة تنتظر يد نحّات، وإنّ السعي إلى المعرفة هو إرادة الإنجاب، هذه الإرادة البعيدة عن الله، إرادة الإبداع هذه كما المطرقة مندفعة دوماً باتجاه الحجر، فحدّة المطرقة ورغبة التدمير ذاتها تعدّ شروطاً أولية لا غنى عنها بالنسبة لمهمّة قلب القيم والإطاحة بالمقدّس اللاعقلاني.
فلسفة نيتشه القاسية " كونوا قساةً أشدّاء "، هي نتيجة قناعة راسخة وأساسية بأنّ كلّ المبدعين قساة، وحتى الموضوعية وحدها لا تكفي، بل الموضوعية والموضوعية المتطرّفة هي المطرقة، وهي السلاح الفاعل تجاه وحوش ضخمة ذات تاريخ طويل.
فلسفة نيتشه، فلسفة كونية بلا شكّ، ورغم تلك الصفة العمومية إلا أنها مُحكمة، مثالها بذلك مثال تماسك العقل بالإنسانية وارتباطهما خارج نطاق(الأخلاق العامة) والتي يسميها نيتشه أخلاقا منحطّة، فالأخلاق لا تسمّى أخلاقاً إلّا إذا كانت داعمة للإنسانية البحتة، وأن تكون تلك الأخلاق نتاج عقل مستنير، منفتح، لا مهادن مع اللاعقلاني، هذه الفلسفة التي لا تستطيع بحكم ذاتها أن تخرج عن سياق قوانين العقل، ومطرقة تلك الفلسفة بمثابة مقياس للحقائق، فالطريق إلى الحقيقة طريق معوجّة، والإنسان المثاليّ هو أبعد ما يمكن عن معرفة الطريق السوية، والمثالية بحدّ ذاتها قيد كبير يعرقل مسيرة التقدم. فحين تكتمل مهمة النحت عند نيتشه ويرفع الستار عن تحفة الأخلاق العقلانية، حينئذ فقط تذهب الأمم إن ذهبت أخلاقهم، وتسود بإنسانيتها الأخلاقيّة العقلانيّة، " فمن يكتشف حقيقة الأخلاق سيكون في الآن ذاته قد اكتشف لا قيمة كل القيم التي أعتُقد فيها من قبل، أو التي ما زال يُعتقد فيها، لن يرى ما يستحق التقدير في كل أولئك الذين أُحيطوا بأسمى آيات التقدير، ولا في أولئك الذين كُرّسوا فصيلة مقدسة من بين البشر"، عند هذا الخروج من تيه المثاليّات، سيكون المرء قادرا على تمييز الطريق المفضية إلى ظروف إنسانية – أخلاقية أفضل، وبفضل العقل هذه المرة لا بفضل نقيضه.

المراجع

موسوعة الاوان

التصانيف

فلسفة