كَفَى حُزْنًا أَنِّي أُنَادِيكَ دَائِمَا *** كَأَنّي بَعِيدُُ أَوْ كَأَنَّكَ غَائِبُ
(الحلاّج)
يرى Jean-Luc Nancyأنّ الأدب والفلسفة كليهما قد ظهرا عندما انسحبت الآلهة من العالم، وتخلّت بغيابها عن ألوهيّتها، أو عن حضورها. وما بقي من حضورها هو ما يبقى من كلّ حضور حين يغيب، أي قول ذلك الحضور بما أنّ القول يجعلنا ببيانه نرى الخسارة ودمار الأشياء واندثار الأجسام وغياب الآلهة. ولمّا كان القول ملتحما بجسد الآلهة النّاطق أضحى من جرّاء انسحابها بلا جسد على غرار الفراغ والمكان والزّمان، وكلّها أشكال من المنزّه (أو اللاّمتجسّد L’incorporel ) الّذي توجد فيه الأجسام دون أن يكون هو ذاته جسما. وبتخلّي الآلهة عن ألوهيّتها انقسم القول عن كلّ حضور متغيّب إلى قسمين: حقيقة ذلك الحضور وقصّته son histoire . فكلتاهما منحدر من أصل واحد، ومتعلّق بالشّيء نفسه، وهو الحضور الّذي انسحب. وإذا كان هذا الحضور قد انفلت، أضحى من العسير اعتبار كلّ قصّة عنه صادقة صدقا كلّيّا ما دام ما يعوزها هو ذاك الحضور الإلهيّ الّذي يثبت صدقها. فحين انسحبت الآلهة استحال تصديق قصّتها مثلما استعصى قصّ حقيقتها. فما ينقص هو ذاك الحضور الّذي يشهد على وجود ما يقصّ وٍٍيثبت صدق العبارة الّتي تقصّ وتقول الحقيقة. وما يفتقر إليه هو جسد الآلهة الّذي ينطق بحقيقته: صنمها الملطّخ بدماء الأضاحي، العابق بعطر البخور. وبذلك النّقصان وذاك الافتقار لم يعد القول مندمجا في الجسم الإلهي، بعد أن انزاح عنه وابتعد بعدا انفصلت به الحقيقة والسّرد. وقد رُسم انفصالهما بنفس الخطّ الّذي رُسم به انسحاب الآلهة. ولكن يظلّ جسد الآلهة رغم ذلك مقتسما بينهما، لأنّ ما بقي بينهما هو جسدها الّذي ما فتئ يشير إلى غيابه على شاكلة جسد مرسوم، أو صورة جسد ممثّل، أو هيئة جسد محكيّ. وفي جميع الهيئات الّتي يمثُل بها لم يعد ذلك الجسدُ المقدّس موجودا، جسدُ الوحش والنّبت والصّاعقة والصّخرة.
إنّ التّمييز بين الأدب والفلسفة هو في واقع الأمر فكّ لهذا التّشابك والتّعانق، ولهذا الاختلاط المقدّس بين الإنسان والإله. وكما أنّ التّمييز بينهما هو بالذّات ما يؤسّس افتراقهما وفرقتهما، فكذلك انفصال الحقيقة عن السّرد هو ما يؤسّس كلّ واحد منهما. ودون ذلك الانفصال ما كان للحقيقة ولا للسّرد أن يوجدا. فبعدم انفصالهما لن يوجد إلاّ الجسد الإلهيّ. وبصفة عامّة يظلّ السّرد والحقيقة مفتقرين للجسد الإلهيّ الغائب لأنّ ما بقي بينهما هو جسم الغياب الفريد. فالسّرد يصف décrit بالحكي أشكال الجسم، أمّا الحقيقة فتسجّل inscrit شغوره وانحفاره excavation والفراغ الّذي خلّفه غيابه. وبين الموصوف والمسجّل يبقى المكتوب وحده خطّا لا ينتهي ماثلا بارزا في مكان الغياب (1).
إن كنّا قد استحضرنا Jean-Luc Nancy في هذا المقام فلا لنبيّن أسلوبه الجنيالوجي الميتافيزيقيّ في زحزحة سؤال ما الحقيقة؟ واستبداله بسؤال متى كانت الحقيقة؟ ، السّؤال الّذي يربط أصل الحقيقة بحضور الجسد الإلهيّ، وإنّما لنظهر أسلوب الفلاسفة حين يتحدّثون عن الأدب. وهو أسلوب يزجّ بالأدب في منطق الحقيقة سواء أكان هذا الأدب شعرا أم سردا أم غير ذلك من أنماط الأقاويل الموسومة. وترتبط بمنطق الحقيقة مشكليّات ومفاهيم كثيرة كالتّطابق والوهم، والصّدق والكذب والزّيف، والحضور والغياب، والوجود والعدم، والأصل والنّسخة، والواقع Le réel والقرين Le double… ولو ربطنا هذه المفاهيم بغياب الآلهة لأفضى بنا ذلك إلى اعتبار أن لا وجود للحقيقة إلاّ إذا أعيد استحضارها بالقول. فمُثُولها لا يكون إلاّ بتمثيلها، إذا فهمنا من التّمثيل re-présentation إعادة واستعادة لحضور مافتئ يغيب.
هل يعني ذلك أنّ الحقيقة المطلقة الواحدة غير المتعدّدة المثاليّة الّتي يلابسها الحضور قد أضحت مستحيلة بعد انسحاب الآلهة ؟ ألا يفضي هذا الانسحاب إلى اعتبار أنّ الحقيقة لا يمكن أن تدرك أو تطرق إلاّ ببدائلها (كالعبارة والحكاية والصّورة…) الّتي تمثّلها وتستعيد حضورها؟ (2).
مهما يكن الجواب فإنّ غياب الآلهة بانسحابها، أو حضورها بغياب جسدها يضعنا وجها لوجه أمام مشهد حداد (3). وما يهمّنا في هذا المقام هو أن نرى: كيف نهض الأدب بالحداد؟ وكيف اضطلع الأديب من خلال النّقل بعمل الحداد؟ والجواب عن هذين السّؤالين يتضمّن بالضّرورة جوابا عن السّؤال التّالي: كيف أعاد الأديب تمثيل تجربة الغياب ؟
يمكن أن نعتبر خطابات الصّوفيّة على اختلافها ممثّلة بامتياز لطراز prototype تجربة الغياب الرّوحيّة. فهي وإن كانت خطابات تتغنّى بحضور الله وامتلائها به فإنّها في أساسها خطابات تنهض على غيابه وتوجد بانعدام حضوره. وهي لهذا السّبب لم تنشأ إلاّ من هذا الحداد. غير أنّه حداد قسريّ لم يقبله المتصوّف، حتّى صار من جرّاء ذلك الرّفض مريضا من فرط عشقه للكائن المنفصل، للواحد الأحد l’Unique ،عليلا من شدّة تشوّقه إلى هذا المُفْتَقَر إليه الّذي يؤسّس بفقدانه صورة الشّوق في تجربة الغياب الرّوحيّة. فالمتصوّفة على حدّ عبارة ميشال دوسرتو Michel de Certeau مرضى الغياب لأنّهم مرضى بالواحد الأحد (4).
لقد سبق أن ذكرنا أنّ الثّابت في كلّ تجربة روحيّة هو القطيعة المؤسّسة. فإن كان الواحد الأحد قد انسحب فلم يعد موجودا الآن وهنا، فلأنّه من خلال قصّة ذلك الانسحاب والخسارة والفقدان قد بدأت قصّة عودته في التّشكّل بطرق مختلفة، هي في آخر المطاف نقض لقصّة انسحابه وتبكيت لغيابه. يقول الحلاّج في شأن هذا الغياب (من مخلّع البسيط):
رَأَيْتُ رَبِّي بِعيْنِ قلبي فقلتُ" مَنْ أنتَ؟ قال: أَنْتَ !
فليس لِِلأَيْنِ منكَ أَيْنٌ وليسَ أَيْنٌ بِحَيْثُ أَنْتَ
أَنْتَ الّذي حُزْتَ كلَّ أَيْنٍ بنحْو(لاَ أَيْنٍ) فَأَيْنَ أَنْتَ
ولَيْسَ لِلْوَهْمِ مِنْكَ وَهْمٌ فيعْلَمُ الوهمُ أَيْنَ أَنْتَ
وجُزْتَ حَدَّ الدُّنُوِّ حَتَّى لم يَعْلَمِ الأَيْنُ أَيْنَ أَنْتَ
ففي بقائِي وَلاَ بَقَائِي وَفِي فَنَائِي وَجَدْتُ أَنْتَ
فِي مَحْوِ إِسْمِي وَرَسْمِ جِسْمِي سألْتُ عَنِّي فقُلْتُ: أَنْتَ
أَشَارَ سِرِّي إِلَيْكَ حَتَّى فَنِيتُ عَنِّي ودُمْتَ أَنْتَ
وَغَابَ عَنِّي حَفِيظُ قَلْبِي عَرَفْتُ سِرِّي فَأَيْنَ أَنْتَ
أَنْتَ حَيَاتِي وسِرُّ قَلْبِي فَحَيْثُمَا كُنْتُ كُنْتَ أَنْتَ
أَحَطْتُ عِلْمًا بكُلِّ شَيْءٍ فَكُلُّ شَيْءٍ أَراهُ أَنْتَ
فَمُنَّ بِاَلْعَفْوِ يَا إِلَهِي فَلَيْسَ أَرْجُو سِوَاكَ أَنْتَ (5)
وجاء في كتاب المواقف والمخاطبات للنّفّري:
"أوقفني في الأدب وقال لي: طلبُك منّي وأنت لا تراني عبادة، وطلبك منّي وأنت تراني استهزاء" (موقف الأدب)
" وقال لي: إذا غبتُ فأجمع عليك المصائب، وسيأتي كلّ كون لتعزيتك في غيبتي، فإن سمعت أجبت، وإن أجبت لم ترني.
وقال لي: لا في غيبتي عزاء، ولا في رؤيتي فضاء " (من موقف العزاء)
" أوقفني في الحجاب فرأيته قد احتجب عن طائفة بنفسه، واحتجب عن طائفة بخلقه، وقال لي: ما بقي حجاب. فرأيت العيون كلّها تنظر إلى وجهه شاخصة فتراه في كلّ شيء احتجب به، وإذا أطرقت رأته فيها.
وقال لي: رأوني وحجبتهم برؤيتهم إيّاي عنّي…
وقال لي: من حجبته بخلقي برزت له، ومن حجبته بنفسي لم أبرز له، ولم يرني." (موقف الحجاب).
" وقال لي: اللّيل والنّهار ستران ممدودان على جميع من خلقت، وقد اصطفيتك، فرفعت السّترين لتراني، وقد رأيتني، فقف في مقامك بين يدي، قف في رؤيتي وإلاّ اختطفك كلّ كون" (موقف عهده) (6).
ومن عبارات أبي يزيد البسطامي المتوفّى سنة 261 هـ الشّطحيّة المطوّلة قوله:
" رفعني ـ الله ـ مرّة فأقامني بين يديه، وقال لي: يا أبا يزيد، إنّ خلقي يحبّون أن يروك. قلت: زيّنّي بوحدانيّتك، وألبسني أنانيّتك، وارفعني إلى أحديّتك، حتّى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هناك."(7).
لنذكّر قبل كلّ شيء أنّ تجربة الغياب الرّوحيّة الّتي خاضها المتصوّفة إنّما هي من التّجارب الخاصّة الباطنيّة. وهي لأجل ذلك تجربة غير عموميّة لا يمكن أن يطّلع عليها سائر النّاس مادامت تجري بالكشف لا بالعيان، وبرفع الحجب لا بالبيان. والسّرّ في ذلك أنّ الله الواحد الأحد يَرَى ولا يُرَى، لا تدركه الأبصار إذا احتجب. وبسبب هذه الخصائص أضحت تجربة الصّوفيّ كشفيّة ينقلب بها إلى صاحب رؤى، موضوعُ شوقه الأقصى هو تجلّي الله له، ومتعتُه الأخرى تكمن في انكشافه له وسفوره من حجبه. بيد أنّ شوق الصّوفيّ هذا هو تشوّق إلى المستحيل لأنّ الله يَرى ولا يُرى، ثمّ لأنّ الله لا يمكن بلوغه بالرّؤية أو بالكلام دون وسائط أو حجب كما تقول الآية "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ " (الشّورى،51،42). ومعنى ذلك أنّه إن لم توجد وسائط وحجب فإنّ الله لا يوجد، ولكن ما أن توجد الحجب والوسائط حتّى يصبح بلوغ اللّه وحيا أو رؤيةً ممتنعا. هذا هو مضمون المستحيل، وفحوى الغياب أيضا الّذي ينهض عليه خطاب التّصوّف ويتأسّس به. وسواء أكان هذا المستحيل قد تجسّم بحلول اللاّهوت في النّاسوت كما يذهب الحلاّج أم بالاتّحاد بالله كما قال البسطامي، أم بوحدة الشّهود كما عاشها النّفّري في كلّ خطراته وتأمّلاته الصّوفيّة، فإنّنا في الواقع أمام غرض لا نكاد نظفر به إلاّ في خطابات العشق الصّوفي، أعني غياب هذا الغائب الّذي يَرَى ولا يُرَى. ومهما يكن الأمر فإنّ هذا الغرض بتنويعاته المختلفة يؤسّس تيولوجيا يمكن تسميتها بتيولوجيا الشّبح Une théologie du fantôme (8) هذا إذا اعتبرنا أنّ أصل الأشباح أن تَرى ولا تُرى، وألاّ تلتقي نظرنتا بنظرتهم أبدا. وهذا اللّقاء المستحيل هو الّذي أطلق عليه دريدا Derrida عبارة Effet de visière الّتي من خلالها نرث القانون (9). والمقصود من عبارة Effet de visière الجزء المتحرّك الأماميّ من الخوذة، وهو الّذي يقي الوجه من الطّعنات. فالفارس الّذي يُجهّز بعُدّة حديديّة ما أن يضع الخوذة ويحكم غلقها على وجهه حتّى ينقطع كلّ تبادل نظر، وبذلك الانقطاع يتأسّس ضرب من الشّبحيّة spectralité لا نرى فيها من ينظر إلينا. و بمقتضاه تستحيل النّظرة regard وينقطع كلّ تبادل نظر، وتتعطّل أيضا كلّ مرآويّة spécularité تعطّلا يتولّد منه هذا التّأثير الّذي وسم بعبارة Effet de visière، أو تأثير كوّة الخوذة إن صحّت التّرجمة. والمقصود من هذه الاستعارة الموضع اللاّمرئي الّذي ينبع منه القانون، ويتكلّم منه ذاك الّذي يأمر، ويصدر أوامره.
بيد أنّ الصّوفيّ، وإن كان بخطاباته المختلفة يؤسّس تيولوجيا الشّبح لا نراه، يقبل في تجربته الرّوحيّة تحمّل محنة الغياب في شكلها الشّبحيّ. وسبب ذلك أنّ موضوع شوقه الأصليّ لا يشبه شوق الأنبياء والرّسل. فهؤلاء يكلّلون تجربة الوحي الرّوحيّة، وهي أيضا من التّجارب الخاصّة، باستنزال ألواح القانون المكتوبة وكتب الشّرائع المقدّسة. أمّا الصّوفيّ فلا يطلب شيئا سوى شوقه إلى هذا المستحيل، أي رؤية هذا الّذي يرانا ولا يراه أحد. فموضوع شوق الصّوفي هو رفع الحجب ليتمّ اللّقاء المستحيل بين نظرة عاشقة تطلب الفناء ونظرة الآخر المطلق الممتنعة. ولأمر مّا قال المتصوّفة برؤية الذّات الإلهيّة وتجلّيها في الآخرة، فهذا التّجلّي مهما يكن زمنه، في الدّنيا أم في الآخرة، هو في حدّ ذاته نفي لكلّ شبحيّة. ويبرز ذلك النّفي في الاستعاضة بعبارة القانون الآمرة المعلّمة حكايةَ الجسد الّذي مسّه الشّوق فجرحه وانتقش فيه الآخر وانكتب. بل إنّه ليبرز في الخطابات الصّوفيّة المؤسّسة لتيولوجيا الشّبح، إذ يرتسم فيها بطرق متنوّعة هذا العبور الغامض من الغياب إلى الحضور الّذي به نجم من جديد جسد الألوهة في مشهد آخر غير المشهد الّذي اختفى منه. وباختصار، ما يرومه الصّوفيّ ويطلبه هو عودة جسد الألوهة بكامل امتلائها وكثافة حضورها. هذا هو موضوع شوقه الأصليّ لا ألواح القانون، وهو أيضا المستحيل ذاته لأنّ الشّوق هو إثبات مستحيل ومعانقة المطلق وامتلاك ما لا يمكن القبض عليه والسّموّ إلى ما لا يمكن بلوغه. فالموضوع المطلق هو رهان الشّوق ذاته، ذلك أنّه في طبيعة الشّوق التّشوّق للمستحيل (10). وبهذا الشّوق إلى الجسد الإلهيّ يضحي الصّوفيّ ممثّلا لطراز الوثنيّ الّذي يتشبّث بموضوع الفقد رافضا كلّ حداد معربا بذلك التّشبّث عن ضرب من السّوداويّة هي في حدّ ذاتها إخفاق ذريع لعمل الحداد. ومن آيات هذا الإخفاق تجلّيه على سبيل المثال في قول بعض المتصوّفة بالاتّحاد والحلول. ففي هذه الضّروب من المجاهدات الرّوحيّة يعير الصّوفيّ جسده للألوهة، مضطلعا بدور وساطة مستحيلة ليس لها من إمكان التّجلّي سوى شطح العبارة المترنّحة وإيماءات الإشارة. ولكن تظلّ متعة الصّوفيّ القصوى كامنة في ما لا ينقال، أي في اتّساع الرّؤيا، في هذاه المرآويّة الّتي يضيق عن أدائها كلّ كلام إلاّ بالسّلب والوهم (11). فالسّلب هو طريقة في ظهور المتعة الأخرى غير المتعة القضيبيّة Jouissance phallique مادام الاستمتاع بها يجري بالكيان وخارج كلّ دالّ (12)، ولكنّه ظهور لا يمكّننا من أن نعرف شيئا عن هذه المتعة، ولذلك لا يمكننا إلاّ أن نفترض وجودها من خلال السّلب والوهم. فهو الدّليل الوحيد على هذه المتعة الّتي اعتبرها بعض المحلّلين النّفسيّين شبيهة بالمتعة الأنثويّة أو قريبة منها، بما أنّها مثلها مفتقرة للدّالّ أو للعبارة الّتي تجلّيها وتُبِينُها وتحدّدها وتسمّيها. ولأجل ذلك كانت هذه المتعة المرآويّة الّتي تعتري الصّوفيّ، هذه المتعة القصوى الّتي يمكن أن يكون شعارها قول النّفّري الشّهير "كلّما اتّسعت الرّؤيا ضاقت العبارة" (13) مجرّد فكرة وإنتاج خياليّ، لأنّ اتّخاذها السّلب والوهم دليلا على وجودها المفترض ينزّلها في مدار خارج اللّغة هو مدار هذه المرآويّة المحضة الّتي تستلب فيها كلّ عبارة إلى حدّ الصّمت وتخسر فيها هبة الكلام إلى حدّ الفناء في المعشوق بوصفه موضوعا لنظرة متعشّقة بعد أن رُفع عنها الحجاب. فتصبح بحكم ارتفاع الحجب وزوال الوسائط الرّمزيّة، مستحيلة، ومن قبيل ما لا ينقال indicible، ومندرجة في سجلّ الاعتقاد.
إنّ أقصى ما يمكن للمتصوّف قوله عن هذه المتعة حينما يستعيد هبة الكلام هو أن يقدّم شهادة عن تلك المتعة المرآويّة، ولكنّها شهادة لا تستعاد فيها المتعة لا بالتّمثيل ولا بالحكاية ولا بالمحاكاة، وإنّما تؤسّس لشيء آخر يتجاوز ما رآه الصّوفيّ، ويقيم في الآن نفسه الدّليل على أنّه (أي الصّوفيّ) لا يتحمّل وقع الانفصال عن الذّات الإلهيّة إلاّ بمقاومة الحداد، كأنّه بذلك يكرّر الصّلاة المسيحيّة القديمة: "Que je ne sois pas séparé de toi". بل إنّ هذه الشّهادة ليست ممكنة إلاّ بالغياب، أي بفناء الرّؤيا وضيقها واستعادة العبارة لاتّساعها وأوساعها. وهذا غير ممكن إلاّ بتلاشي كلّ موضوع مرآويّ وفقدان جسد الألوهة بوصفه غيابا للأصل الّذي يتشوّق الصّوفي إلى امتلاكه والتّمتّع به في شكل معطى على نحو مباشر كأن يكون صورة للتّعشّق أو صوتا للتّهجّد. بيد أنّ ما لا يدركه الصّوفيّ هو أنّ التّمتّع بالأصل بامتلاكه خارج حدود القانون أو النّافع إنّما هو نشدان لمتعة مستحيلة لا يمكن حفظها إلاّ بكتمانها، لأنّ كلّ منظور هو قول محظور، يجعلنا نخسر حرّيّة ابتداع الكلام (14). فإذا انقال فقدت المتعة الجزء اللّعين فيها، أو هذا الإفراط الضّارّ الّذي يعمل القانون على الحدّ منه بمنعه ووضعه في حدود النّافع (15). ويدلّ ذلك كلّه على أنّ التّعامل مع الأصل لا يمكن أن يكون بامتلاكه وأنّ العلاقة به ليست مرآويّة مادامت كلّ علاقة بالأصل هي حدثان غياب (16).
يؤكّد حدثان الغياب أنّ العلاقة الّتي يقيمها المؤمن مع الأصل هي بالضّرورة علاقة كتابيّة Scripturaire وليست رؤيويّة Visionnaire كما يريدها المتصوّف. فهي من صنف مكتوب لا عيانيّ. وتقتضي هذه العلاقة اختفاء كلّ ما من شأنه أن يثبّت النّظر ويفتنه كجسد الآلهة وصنمها، كما تشترط تلاشي كلّ موضوع مرآويّ من شأنه أن يحقّق التّواصل الّذي ينهض أساسا على نفي أضداده، كانعدام التّبادل وانفصال الذّوات وبينونة الكائنات. ومعنى هذا أنّه لا يوجد تواصل مع الأصل ولا تبادل ولا تقارب. فكلّ ما يمكن أن نعقده مع الأصل إنّما علاقة شبحيّة مبنيّة على الفقدان والافتقار والغياب. هذه العلاقة هي الّتي تضيء لنا بنية القانون. فهو قبل كلّ شيء موضع تنكتب فيه الألواح، وتسنّ فيه الشّرائع، ويتكلّم منه ذاك الّذي يأمر. فالكلمة المنبثقة من هذا الموضع هي كلمة تخلق وتهب الوجود وتتمتّع بكلّ سلطة (Auctoritas – Autorité) (17). وكلّ ما يجسّم هذه السّلطة سواء أكان كتابا مقدّسا أم سنّة شريفة أم مجمعا أم مذهبا لا يمكنه أن يكون إلاّ بذلك الغياب. وهو هذا الغياب الّذي حاول الصّوفيّ أن يمنحه شكلا من أشكال الحضور بتحويله إلى موضوع مرآويّ.
الشواهد:
1- انظر : Nancy, Jean-Luc :Entre deux. Magazine littéraire, n°392, Novembre2000, p.p54-57
2- انظر في خصوص هذا الإشكال ما كتبه Rosset Clément في موضوع الواقع. نذكر على سبيل المثال كتابه:
Rosset, Clément : (1984) Le réel et son double. Essai sur l’illusion, folio/essais.
3- المشهد كما يصرّح بذلك Jean-Luc Nancy في آخر مقالته هو مشهد حداد وشوق متزامن. فالفلسفة والأدب مافتئ كلاهما في حداد على الآخر وشوق إليه، إلاّ أنّ كلّ واحد ينازع الآخر في الشّوق وإتمام الحداد. فالجسد الغائب يمثّل لكلّ واحد منهما صورة الآخر: فالفلسفة مختنقة بأدب مستحيل، أي بأدب يمثّل مستحيلها الخاصّ، أو العكس. وأحيانا ينهض الأدب بالحداد الّذي تتحمّله الفلسفة أو تنكره. وأحيانا أخرى تسند الفلسفة الغياب الّذي يخفيه الأدب ويموّهه.
4- انظر: Certeau, Michel de : (1982-1987) La fable mystique ,1. XVIe –XVIIe siècle. Tel Gallimard,p10.
5- انظر: ديوان الحلاّج، تحقيق كامل مصطفى الشّيبي، منشورات الجمل ، الطّبعة الأولى، ألمانيا – كولونيا، 1997، ص32.
6- النّفّري، محمّد بن عبد الجبّار: المواقف والمخاطبات. تحقيق آرثر أربري، تقديم وتعليق عبد القادر محمود، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1985، موقف الأدب، ص81،موقف العزاء، ص82 ، موقف الحجاب،ص138، موقف عهده164-165.
7- نقلا عن، بدوي، عبد الرّحمان: شطحات الصّوفيّة. دار الثّقافة، بيروت ـ لبنان، د.ت، ص28.
8- انظر: Certeau, Michel de : La fable mystique ,1 , op.cit, p1
9- نعتمد في هذا التّعريف للشّبح على كتاب: Derrida , Jacques: (1993) Spectres de Marx. L’État de la dette , le travail du deuil et la nouvelle Internationale. Éditions Galilée,p27 ..
10- Legendre , Pierre : ( 1985) L’inestimable objet de la transmission. Étude sur le principe généalogique en Occident. Fayard, p79.
11- يقول (المحاسبي، الحارث بن أسد: كتاب التّوهّم. عني بنشره الدّكتور آرثر.ج. آربري. القاهرة، مطبعة لجنة التّأليف والتّرجمة والنّشر،1938 ، ص.ص60-61 ): " (…) فتوهّم بقلبك نور وجوههم وما يداخلهم من السّرور والفرح حين عاينوا مليكهم، وسمعوا كلام حبيبهم، وأنيس قلوبهم، وقرّة عينهم، ورضا أفئدتهم، وسكن أنفسهم. فرفعوا رؤوسهم من سجودهم، فنظروا إلى من [لا] يشبهه شيء بأبصارهم، فبلغوا بذلك غاية الكرامة ومنتهى الرّضا والرّفعة. فما ظنّك بنظرهم إلى العزيز الجليل الّذي [لا] يقع عليه الأوهام، و[لا] يحيط به الأذهان، و[لا] تكيفه الفكر، و[لا] تحدّه الفطن، الّذي [لا] تأويه الأرحام، و[لم] تنقله الأصلاب، و[لا] يبدو فيكون مطبوعا منتقلا، الأزليّ القديم الّذي حارت العقول عن إدراكه، فكلّت الألسنة عن تمثيله بصفاته، فهو المنفرد بذاته عن شبيه الذّوات المتعالي بجلاله على مساواة المخلوقين، فسبحانه [لا] شيء يعادله، و[لا] شريك يشاركه…". تبدو الذّات الإلهيّة في هذا الشّاهد سلبيّة négativité محضة لأنّه لم يكن بالإمكان الحديث عنها إلاّ بالسّلب، كما لم يكن بالإمكان التّلفّظ بهذا الحديث إلاّ على سبيل التّوهّم.
12- انظر: André, Serge : (2001-1995) Que veut une femme ? Points/Essais , p15
13- من الطّريف أن يتشابه قول النّفري بما جاء عند فتغنشتاين: "Il ya assurément de l’inexprimable.Celui-ci se montre, il est l’élément mystique."، من كتابه: Wittgenstein , Ludwig : ( 1995 ) Tractatus logico-philosophicus . Suivi de Investigations philosophiques. Traduction de l’allemand par Pierre Klossowski. Intoduction de Bertrand Russel. TEL Gallimard, §6.522, p106
14- انظر:Didier-Weil, Alain : (1995) Les trois temps de la loi. Le commandement sidérant, l’injonction du surmoi et l’invocation musicale. Éditions du Seuil, p70
15- انظر: (André, Serge : (2001-1995) Que veut une femme ? op.cit , p219) الّذي يذكّر بأنّ المتعة هي قبل كلّ شيء لفظ قانونيّ مرتبط بالتّمتّع بالثّروة والغلّة، ولكن دون إفراط. فالمتعة هي هذا الإفراط غير النّافع للثّروة (يقضي على رأس المال) أو الضّارّ بالجسد (يأتي على الصّحّة). وليس القانون سوى هذا الحدّ الّذي يمنع هذا الإفراط، فهو يطمح إلى أن يضع المتعة في حدود النّافع. ونجد هذا الإفراط عند الصّوفيّ حين يبرّح به الشّوق فيطلب الفناء بله الموت. يقول الحلاّج في بعض قصائده: اُقْتُلُونِي يَا ثِقَاتِي ** إِنَّ فِي قَتْلِي حَيَاتِي
وَمَمَاتِي فِي حَيَاتِي ** وَحَيَاتِي فِي مَمَاتِي (…)
16- انظر : Certeau, Michel de : La faiblesse de croire, op.cit, p215
17- انظر: Benveniste , Émile : (1969) Le vocabulaire des instututions indo-européennes. T2 Pouvoir , Droit , Religion. Les Éditions de Minuit , Paris, p143. الّذي يذكّرنا بأنّ السّلطة، أو(Auctoritas – Autorité) في سياق المؤسّسات الهنديّة الأوروبيّة هي قوّة من أصل إلهيّ، بها تحدث الوجود وتجعل الشّيء كائنا.
المراجع
موسوعة الاوان
التصانيف
فلسفة