من أهمّ محاور الاهتمام وأكثرها إثارة للجدل بالنسبة إلى الفلاسفة والمفكرين الذين اهتمّوا بالمسألة السياسيّة، موضوع التوتر القائم بين الحريّة الفرديّة ومقتضيات النظام الاجتماعي، بين الحريّة والأمن. وهو تأثر ظلّ ملازما لكلّ أشكال الحكم وطرائق تسيير شؤون الناس. وقد اتّخذ في كلّ مرّة صيغة بحيث غذّى النزاعات والصراعات السياسيّة بين الدولة والمجتمع المدني. كما غذّى السّجال النظري والإيديولوجي بين المدارس والتيارات الفكريّة. وكان كلّ طرف يصدر في تفصيله لهذا المطلب أو ذاك (الحريّة أو الأمن) عمّا يعدّ في نظره قيمة سياسيّة وبديهيّة. وكان الحكم على هذا النظام السياسي والقضائي له أو عليه منشدا أحد مبدأين: إمّا ذاك الذي يعتبر أنّ الإنسان خلق لكي يكون حرّا، مع ما يترتّب عن ذلك من اعتبار أنّ النظام القائم على مقولة الأمن هو نظام ظالم ومستبدّ، وإمّا ذاك الذي يعتبر أنّ الإنسان يجب أن يحيى في أمان مع ما يترتّب عن ذلك من تبعيّة عكسيّة يقول بأن النظام القائم على الحريّة هو نظام مؤسّس للطبقيّة يخفي التفاوت ويشرّع للاستغلال.
وبغضّ الطرف عمّا تثيره التحدّيات المفهوميّة من إحراجات نظريّة واختلافات تتعلق بالمعاني والدلالات التي يمكن أن يحمل عليها مفهوما الحريّة والأمن، باعتبار أن لا أحد من الطرفين يرفض هذين المفهومين في حدّ ذاتهما، وإنّما يبدي تحفّظا حول ما يضفي عليهما من دلالات. لذلك يكتسي البحث في علاقة الحريّة بالمواطنة أهمّية كبرى باعتبار المواطنة نموذج الاجتماع المدني السائد على الفكر السياسي والمنشود بالنسبة للواقع العربي ويجد هذا التصوّر تأصيله النظري والفلسفي لدى أهمّ منظري العقد الاجتماعي، وخاصّة منهم جون لوك، سبينوزا. حيث يؤكّد الأخير أنّ الدولة لم توجد لكي تحكم الناس بالقوّة ولكي تحوّلهم من كائنات عاقلة إلى ما يشبه الدمى أو التوائم وإنّما جعلت بالأساس لتحقيق الحرّية. ولكن عندما تقول إنّ الناس قد خلقوا الدولة لكي لا يطيعوا أحدا، فإنّ ذلك لا يعني أن الأمر موكول لحالة من الفوضى حيث يترك الأفراد وشأنهم، ما يهدّد كلّ نظام ويخالف مقتضيات التساكن من تنازل واعتراف والتزام بالحدود، وإنّما المقصود به أنّ الهاجس الذي استبدّ بمؤسّسي الدولة، فلاسفة ومواطنين، هو الحريّة. هذه القيمة التي تعدّ مرادفا لإنسانية الإنسان. إذ أنّ من يتخلّى عن حريته هو كمن يتخلّى عن إنسانيته، بل لقد دفعت الشعوب أرواحها لكي تشتري حريّتها.
وعندما تقصر الدولة مهمّتها على مطلب الأمن ووظيفة حفظ النظام، تأسيسا على المبدأ القاضي بأنّ الإنسان نزّاع إلى العدوان والاعتداء على الآخرين، ما يستوجب مضاعفة الأغلال والمراقبة والعقاب، فإنّها تحوّل الأفراد إلى دوابّ لا يفكرون خارج أجسادهم، وتعدم كلّ أسباب الإبداع والتنميّة، باعتبار أنّ التنميّة حريّة، بل إنّها تصبح أشدّ حساسيّة تجاه كلّ رأي مخالف وتبدي مقاومة عنيفة في وجه كلّ ما هو مغاير. يقول برهان غليون في هذا الصدد، ناقدا النزوع نحو الهيمنة والاستبداد الذي طبع الدولة الحديثة: "إنّ الجوّ الذي تخلقه المراقبة على الكتب والفكر لا يعطّل فقط ملكة التفكير لدى المثقفين ويشجّعهم على الالتحاق بالسلطة، ولكنّه يعمل على تعميم الإمتثاليّة وفقدان الروح النقديّة. وهذه دون شكّ القاعدة الإيديولوجية الرئيسيّة للتكرار والاحترام العقلي والروحي في المجتمعات، وهي شرط تجديد علاقات السلطة القائمة"[1]
ماذا يعني هذا سوى أنّ إلغاء الحريّة، ومنها على وجه التحديد حريّة الثقافة تفكيرا وتعبيرا يؤدّي إلى توحيش حقيقي وحطّ لا متناه لتوعيّة الحياة أو إلى ما يمكن أن نطلق عليه مع هيدغير تصحّر الوجود، غلبة روح التشاؤم واليأس والإحباط، فعندما تقبر الخميرة النقديّة في المجتمع وتبسط الدولة سيطرتها على كل مراكز الإعلام والثقافة والتفكير وعندما تحتكر المعرفة وتصادر الرأي، فلا أصل عندها في صلاح، بل "ترسم الكتابة على عيون ووجوه الناس في الطرقات كما في البيوت بانتظار حلم لن يتحقّق، والجمهور الجديد الضائع والباحث عن اللقمة لا يعرف الفرح أبدا، بل يكاد ينسى أنّ هناك حياة أخرى يحقّ فيها للمرء الكلام والتعبير والنظر والراحة و الحبّ والحريّة"[2].
وعلى هذا الأساس فإنّ الإلحاح على الحريّة واعتبارها أصل المواطنة، مردّه أن لا معنى للحياة في غياب هذه القيمة ولا فرصة للتنميّة والتطوّر والإبداع دون توفّر شرط الحريّة، فعندما تختزل الدولة الحديثة كلّ وظيفتها في مسألة الأمن، وعندما يكون هذا المقصد هو الهاجس الذي يغذّي كلّ برامجها وخططها، فإنّ المؤدّى هو شلّ المجتمع وخلق حالة مرضيّة تصاب فيها الدولة بنوع من الحساسيّة والخوف تجاه كلّ ما يشّذ عن النظام وترد بعنّف على أبسط مبادرة مخالفة. إذ العقل الاستبداديّ عقل إطلاقيّ برفض أن يكون هناك وجهات نظر مبنيّة على تجارب شخصيّة ومعارف مختلفة.
وعلى هذا النحو، فإنّ الأولويّة المطلقة للدولة، وهي تتقلّد مسؤوليّة إدارة شؤون الناس، صحّة وقضاء وتعليما وأمنا، أن تجعل من مبدأ الحريّة رائدها ومقصدها العامّ الذي يخصّ ويوّجه كلّ سياساتها في مختلف المجالات، «فالسياسة الثقافيّة القوميّة لا بدّ أن تعطي الأولويّة لمبدأ حريّة التعبير قبل مضمون هذا التعبير، ولمبدأ تعميم المعرفة قبل مبدأ الكسب السياسي السريع على الصعيد الثقافي. وهذا يعني أخيرا أن تعطي الأولوية لتوحيد الشعب سياسيا "لاأدلجته" وتبشيره مذهبيّا»[3]
ولا يكون ذلك إلاّ بإعادة توزيع السلطات لصالح الأغلبية، وتدعيم ركائز المجتمع المدني لمحاصرة توسّع سلطة الدولة، وإرساء ثقل مضادّ وإحياء المبادرات الفرديّة، وتركها تنمو خارج المؤسّسة الرسميّة. أمّا النزوع نحو الإدماج والاستيعاب بحجّة التأطير والتنظيم، فإنّه يئد كلّ إبداع. وقد كانت المؤسسة في العالم العربي أقرب إلى المقبرة منها إلى المنبت، فرغم تضخّم عدد المؤسسات وتورّمه، فإنها ظلّت معطّلة نظرا للقطيعة السياسيّة بين الدولة والمجتمع ولإرث الشكّ الذي يلقي بثقله على الأفراد الذين يتوجّسون خيفة وترددا تجاه هذه المؤسسات، ونظرا لتحوّل هذه الأخيرة إلى مراكز للمراقبة ومقرّات لا تقبل على أساس الكفاءة وإنّما على أساس الولاء. وذلك أمر لا يعطّل إمكانيّة الإصلاح فحسب، وإنّما يصادر إمكانية التطوّر في المستقبل وينذر الناس والشعوب إلى حالة من الضياع والشك واللامبالاة، يشهد لذلك الفتور وضيق قاعدة المشاركة السياسيّة والإعراض عن كل ما يفترض فيه أنّه مهمّ ومصيري بالسبة إلى الإنسان. كل ذلك يعود بالأساس إلى التسلّط والاستبداد وتراجع الثقة في النفس، بل وانعدامها تماما، وفقدان القدرة على المبادرة، بل والخوف منها.
وقد استبطن المواطن العربي هذه المعاني وتمثلها، فعطلته وشلّت إرادته وحوّلت الوضع الذي يعيشه إلى حالة طبيعيّة أو قدر محتوم لا راد ّ له، ومثلما أصبح الحاكم يخشى كلّ ما يتجاوز حدود المعروف ويخالف المعتاد من الذوق واللفظ والسلوك، كذلك استبدّ هذا الهاجس القاتل بالمواطن نفسه، فقد ارتبط في ذهنه الإقصاء الفكري بالإلغاء الجسدي وأصبح رفض الاختلاف في التفكير تمهيدا بالإقصاء الجسدي، والنتيجة هي الإحجام عن الاختلاف والخوف منه. ويبدو ذلك حتى في أبسط معاملات الحياة ومظاهرها. وقد مثّل هذا الأمر مدخلا ساعد الاستبداد السياسي على الاستحكام في مصائر الناس، ولذلك فإنّ البحث عن الجذور الفكريّة للاستبداد يجب أن يتم بالتنقيب في الثقافة السائدة التي يمثلها كل فرد ولا يجب ردّها إلى الطبقة أو الفئة المهيمنة وحدها. فما كان لهذه الأخيرة أن تتمكن لولا الأرضية الممهدة
لذلك فإنّه لا يجب الاكتفاء بإلقاء اللائمة على الشروط الموضوعيّة أو على الفئة المتسلّطة وجعل كلّ ذلك مشاجب تعلّق عليها الهزائم والإخفاقات، فهذا التوجّه هو بمثابة الهروب إلى الأمام والنظر بعين واحدة، وإنّما يتحمّل الناس أيضا قسطا من الوزر لتواطئهم مع مضطهديهم بسبب الثقافة التي تشكّل موقفهم الذهني.
حاصل الأمر من كلّ ذلك أنّه لا قيمة للتحديث الذي تشهده الأشياء، نقلا للتكنولوجيا وتدعيما للبنية الأساسيّة، ما لم يسبق ذلك أو يرافقه تحديث للأفكار، وأوّل خطوة في هذا التحديث تحرير الإنسان من كلّ أشكال الخوف: من الخرافة والايدولوجيا التقليديّة والسلطة الروحيّة التي كبّلت عقله لردح من الزمن طويل، ولكن أيضا من قوى الاستبداد المعاصر التي تتلبّس برداء العقلانيّة والتنوير فتكرّس نظاما مغلقا يلفظ كل ما يناقضه ويعتبره مجرما وكاذبا، وهو استبداد لا يقلّ قسوة عن استبداد العصور الوسطى ومحاكم التفتيش.
إن التحرر لا يكون بإسقاط ثقافة على واقع لا يهضمها ففي ذلك نوع من العنف والاغتصاب الفكري والحضاري الذي لا يمكن إلا أن يولد مجتمعا مسخا، كما أن التحرر، عقليا كان أم ماديا لا يمكن أن يتحقق ضد الشعب وإنما معه، وبقدر ما يكون له لا عليه لأنّ الايدولوجيا التي تجعل هدفها استبعاد الأغلبية والتعالي عليها، لن تقابلها هذه الأغلبية سوى بمزيد التمسك بالقيم التقليدية كتعبير عن رفض هذه السلطة العصرية الجديدة وهو ما يسود الواقع العربي والإسلامي، سواء في مستوى الدولة أو المجتمع. وإنّ الخطأ الفادح الذي ترتكبه النخبة العربية تمترسها خلف مقولات تجهل حقائق التاريخ والاجتماع وترفض فهم العوامل التي تدفع بفئات المجتمع البسيطة إلى رفض التفاعل مع أطروحاتها، وهو ما من شانه أن يساهم في تعميق الشرخ بين الطرفين، بما يحول دون تحقيق تغيير حقيقي في الواقع السياسي والاجتماعي، وهو في نظرنا مأزق العمل الحقوقي العربي الذي لم ينتبه إلى الآن إلى الأسلوب الأمثل لردم هذه الهوة، وليس تخصيصنا للعمل الحقوقي العربي إلا لأنّ هذا الأخير أصبح في السنوات الأخيرة ملجأ النخب للتغيير فكيف يمكن تجاوز هذا المأزق.
الهوامش:
[1] برهان غليون. مجتمع النخبة معهد الانتماء العربي 1986 ص:285
[2] المرجع السابق ص: 284
[3] المرجع السابق ص: 280
سمير ساسي: باحث جامعي وصحفي من تونس.
المراجع
موسوعة الاوان
التصانيف
سياسة