عندما نقل الأخ كمال التومي مجموع النصوص التي كنت كتبتها حول بعض أعمال عبد الفتاح كيليطو قصد نشرها ضمن كتاب مزدوج اللغة، اقترحت عليه عنواناً: "الأدب والميتافيزيقا". سأحاول فيما يلي تبرير هذا العنوان، مبرّرا في الوقت ذاته ما قد يظهر فضولا فلسفيا.
الظاهر أنّ هذا الفضول ليس أمرا طارئا على الفلسفة، فلطالما ادّعت الفلسفة خلال تاريخها أنّ مهمّتها الأساسية هي التأسيس، مهمّتها إقامة الأسس، أو لنقل على الأقلّ إنّها كانت تحسّ في نفسها قدرة على التأسيس. في هذا المعنى برّرت لنفسها خلال حقبة ليست بالقصيرة تدخّلها في العلوم، برّرت فضولها العلمي. وقد تبيّن فيما بعد أنّ العلوم ليست في حاجة إلى مثل هذا التأسيس، وأنّ التدخّل الممكن للفلسفة في مجال العلوم، إن كان ولا بدّ منه، لا يمكن أن يكون إلا مغايرا، ولنكتف هنا بالإشارة إلى انتقادات باشلار ومساهماته في هذا المجال.
الأمر نفسه ينطبق على علاقة الفلسفة بالأدب. إنّ ربط الفلسفة بالأدب لا ينبغي أن يفهم هنا تأسيسا فلسفيا للفعالية النقدية، كأن تدّعي الفلسفة أنّ كلّ نقد يقوم على جهاز مفاهيميّ ومهمّتها هي، هي أن تعمل على إبراز الأسس الفلسفية التي يقوم عليها ذلك النقد.
إن لم يكن الأمر على هذا النحو، وان لم تكن علاقة الفلسفة بالأدب علاقة تأسيس، فما المقصود بربط الأدب بالميتافيزيقا عن طريق هذا الواو الذي يحبّ أحد الزملاء التونسيين أن يسمّيه "واو القضية"؟
محاولة للإجابة عن هذا السؤال، ربّما اقتضى الأمر توضيحا للفظ الميتافيزيقا الوارد في العنوان. فليس المقصود من الميتافيزيقا البتة جهة من جهات الفكر، أو فرعا من فروع الدراسات. لكي لا نحشر أنفسنا في الاستشهادات لنكتفِ بالقول إنّها أنتو - لوجيا، أي منطق للكائن، وإنها حاضرة في مختلف الأشكال الثقافية التي عرفها، ويعرفها الإنسان، وهي حاضرة في الأدب، وأساسا في اللغة التي قيل إنها " مأوى حقيقة الوجود".
إذا أخذنا الميتافيزيقا بهذا المفهوم فما علاقتها بالأدب؟ هل هي تستغيث به لسدّ فراغ تعجز هي عن ملئه؟ هذه على أيّة حال هي الإجابة التي يظهر أنّ ناقدا متميّزا كـ"ميلان كونديرا" يعطيها لهذا السؤال. يقول في "فنّ الرواية": "وبالفعل، فإنّ جميع التيمات الوجودية الكبرى التي يحلّلها هايدغر في كتابه "الوجود والزمان"، والتي يعتبر أنّها أهملت من طرف كلّ الفلسفة الأوروبية السابقة عليه، قد تمّ الكشف عنها وإظهارها وإضاءتها بواسطة أربعة قرون من الرواية. لقد اكتشفت الرواية، بطريقتها الخاصة وبمنطقها الخاص، المظاهر المختلفة للوجود واحدا تلو الآخر: فمع معاصري سرفانتيس تتساءل الرواية عن ماهية المغامرة، ومع صامويل ريتشاردسون تشرع في تحليل ما يقع دواخل الإنسان، وفي الكشف عن الحياة السرية لعواطفه ومشاعره، ومع بلزاك تكشف تجذّر الإنسان في التاريخ، ومع فلوبير تستكشف أرض اليوميّ التي ظلت إلى ذلك الحين مجهولة، ومع تولستوي تنكبّ على تدخّل أثر اللامعقول في اتخاذ القرارات الإنسانية وفي تحديد السلوك البشري. كذلك تستقصي الرواية الزمن: اللحظة الماضية المنفلتة مع مارسيل بروست، اللحظة الحاضرة المنفلتة مع جيمس جويس، ومع توماس مان تتساءل الرواية عن دور الأساطير التي تتحكم في خطواتنا وتوجهها…"
حاولت في دراسة سابقة أن أبيّن حدود هذا النوع من الإجابة، وتكفي الإشارة هنا أنّ من الصعب التسليم بأنّ هناك وحدة بين التيمات الأدبية وقضايا الميتافيزيقا، وقد سبق أن أكّدنا أنّ الميتافيزيقا لا تعنينا هنا من حيث هي قضايا، وانما من حيث هي بنية وجود، بنية أنتو- تيو-لوجية، فحتى إن كان ولا بدّ من ربط الأدب بالفلسفة، فمن المؤكّد أنّ ذلك لن يتمّ عبر التيمات بقدر ما يتم عبر الاستراتيجيات، بحيث تتشابك استراتيجية الفلسفة باستراتيجية الأدب لتصبحا كتابة تستهدف مراوغة اللغة وتقويض الميتافيزيقا وتفكيك أزواجها.
لو استعرنا عبارة لجيل دولوز، لقلنا إنّ الفلسفة ستأخذ على عاتقها عندئذ "أن تجعل النقد يمتدّ". فإذا كان النقد ينصبّ مثلا على مفهوم المؤلف في الكتابة الأدبية، أو على جدلية الحضور والغياب في النص الأدبي، فانّ التدخل الفلسفي يمكن أن يتناول المسائل ذاتها كي "يجعل الفكر يمتدّ" ويبحث عما إذا كان ما يقوله الناقد عن المؤلف يمكن أن يمتدّ إلى مفهومات أكثر تجريدا كالذات الفاعلة والخاص والملكية والخصوصي ..le propre, la propriété.
القول ذاته يصدق عندما يتعلّق الأمر مثلا بقضايا الترجمة. لا أظنّ أنّ مسعى الفيلسوف، وهو يهتم بقضايا الترجمة، هو أن يلغي التناول الذي يمكن لدراسة لسانية أو أدبية أن تقوم به في هذا المجال، مهمّته في هذا الباب هو أن يجعل اهتمام هؤلاء يمتدّ إلى القضايا التي يطرحها الاستنساخ، والى مفهومات النموذج والتطابق والتكرار والتشابه والاختلاف…
لا ينبغي أن يفهم من هذا التدخل نوعٌ من التمارين التطبيقية التي يخوضها الفيلسوف بعد أن يكون قد مارس استراتيجيته في مجاله الخاص. إنّ هذا التدخل على العكس من ذلك قد يتّخذ عندنا، إن لم نقل أهمّ، فعلى الأقلّ أحد المجالات الأكثر خصوبة في الفكر الفلسفي اليوم. وقد سبق للأستاذ العروي أن بيّن في المقدمة التي وضعها لترجمته الجديدة لـ "الايديلوجية العربية المعاصرة"، كيف أن النقد الإيديولوجي قد اتخذ في الثقافة العربية المعاصرة الأدب قنطرة عبور. يقول: " إن ثلثي، بل قل ثلاثة أرباع النقد الإيديولوجي يظهر عندنا في شكل نقد أدبي، أي يتخذ الرواية والقصة والمسرحية كوسيلة لترويج الأفكار السياسية والاجتماعية…لا ننسَ أنّ كلاّ من محمد عبده وسلامة موسى وطه حسين روّجوا لأفكارهم التجديدية بواسطة دراستهم للأدب العربي، قديمه وحديثه". لسنا مجبرين بطبيعة الحال أن نقول إنّ مهمّة الأدب هو الترويج لأفكار اجتماعية وسياسية، إلا أننا لا نملك إلا أن نسلّم أن كثيرا من الأفكار التحديثية لم تمرّ في ثقافتنا عبركتاب"الزمان الوجودي" لعبد الرحمان بدوي، وإنما بالأولى عبر ما راج حول كتاب مثل كتاب "في الأدب الجاهلي".
وربما على النحو ذاته يمكن أن نبرّر الأهمية التي اتخذتها التفكيكية في أمريكا داخل أقسام الدراسات اللغوية والأدبية. ففي وسط تهيمن عليه روح الوضعية الجديدة، لا يتّخذ تاريخ الفلسفة، الذي يشكّل المادّة الأساسية التي اشتغل عليها التفكيك في موطنه، لا يتخذ ذلك التاريخ أهمية كبرى، فلا يتبقى للتفكيك والحالة هذه إلا أن ينهج قنوات أخرى ليمارس فعاليته.
في هذه الحال يغدو الدرس الأدبي ميدانا خصبا لتقويض الميتافيزيقا وتفكيك أزواجها، خصوصا اذا كان ذلك الدرس يرصد المنطق الذي يحكم نصوصا طالما ألفنا "حفظها" دون أن نعمل على إذكاء حدّة التوتر بينها وبيننا.
ولا داعي إلى التأكيد أنّ أعمال الأخ عبد الفتاح تفسح للفيلسوف مثلما للناقد الأدبي، مجالا خصبا في هذا الباب. فعنه يمكن أن نقول ما قالته حنة أرندت عن هايدغر حينما بلغ سنّ الثمانين:" أحدهم، إذ انفصم الحبل الذي يشدّه إلى التراث، اكتشف الماضي من جديد…فاستعاد الفكر حيويته، وتمكّن من استنطاق الذخائر الثقافية للماضي، تلك الذخائر التي كنّا نعتقد أنها ماتت، وهاهي الآن تقدّم لنا أشياء تخالف أشدّ المخالفة ما كنا نعتقده".
*ألقي ضمن ندوة تكريمية لأعمال عبد الفتاح كيليطو.
المراجع
موسوعة الاوان
التصانيف
فلسفة