الانعتاق السياسي، كما لاحظنا، لا يعنى انعتاق الأفراد من الدين، أو حذف الدين من الفضاء الاجتماعي، بل يعني انعتاق الدولة من أيّ افتراض مسبق لا يتناسب وماهيتها السياسية والأخلاقية وطابعها العامّ. وليس ثمة أيّ تناقض أو تضادّ بين أن يكون الفرد مؤمنا بهذا الدين أو ذاك وأن يكون مواطناً، أي عضواً في الدولة السياسية. ولكنّ المسألة لا تنتهي هنا، فلا بدّ من انعتاق الأفراد من أيّ سلطة سوى سلطتهم على أنفسهم، وليس لهذه السلطة من اسم آخر سوى سلطة الدولة، أي سلطة القانون.
فالإنسان، الكائن العاقل والأخلاقي، المعرف بالعمل والإنتاج والإبداع، ليس "مادة أوّلية للسلطة"، أيّ سلطة، على الإطلاق، وليس موضوعاً لها، ولو كانت حقاً نوعاً من سلطة الإنسان على ذاته، أعني سلطة القانون وسلطة الضمير الأخلاقي، ونوعاً من حكم الشعب نفسه بنفسه. والشعب، بوصفه بنية علائقية قوامها المواطنون الأحرار، وكلّ واحد منهم سيّد نفسه، كما يفترض، هو مصدر جميع السلطات، لا مادة للسلطة ولا موضوعا لها.
الإنسان هو مادّة الدولة وصانعها، بل خالقها ومبدعها من ذاته؛ والدولة هي تجلّي ماهيته وخصائصه النوعية، أو تموضعها، أعني تجلّي أو تموضع العقل والأخلاق، بالتلازم الضروريّ، في كائن سياسيّ وأخلاقيّ هو من طبيعة الإنسان ذاته. فإذا صحّ أن الحرية هي ماهية الإنسان وجوهره، تكون السلطة، التي تستحق أن يطيع الإنسان قوانينها، سلطة الدولة فحسب، أي سلطة القانون وحكم الشعب، ونوعاً من ضمير أخلاقي جمعيّ، أو معادلاً موضوعياً للضمير الأخلاقي الجمعيّ. فلا يعود مستغلقاً ولا مستهجناً تعريف كارل ماركس للدولة بأنها "الحياة الأخلاقية للشعب"، أو بأنها "تجريد المجتمع المدني وتجريد كل فرد من أفراده، وتحديد ذاتي للشعب".
إذا كان "الله" خلق الإنسان من مادة طبيعية، هي مادته، وسوَّاه على صورته ومثاله، فإنّ الإنسان خلق الدولة ووضع مبادئها وقوانينها من ذاته، أي من مادة روحية، هي العقل والأخلاق. هذا ما يحدّ كل قول آخر في الدولة، ويعين الحدّ الفارق، بل الحدود الفارقة بين الدولة والسلطة، ويميز سلطة الدولة (سلطة القانون) من سائر السلطات الأخرى، سواء في ذلك سلطة المصالح الخاصة العمياء أو سلطة الدين الوضعي ووزراء الله. ويرسي أساساً مكيناً للحياة السياسية والأخلاقية؛ فلا يجدر بالإنسان أن يطيع أحداً، كائناً من كان، سوى عقله وضميره، ولا يليق به أن يخضع لأيّ قوة، كائنة ما كانت، سوى قوة العقل والضمير، سواء في حياته الفردية الخاصة أو في حياته النوعية العامة.
سلطة القانون هي سلطة الإرادة العامة على ذاتها، وعلى كل واحد من أفرادها بالتساوي، هي سلطة الإرادة العامة على ما في كلّ فرد من أفرادها من عنصر العمومية، التي بها يصير الفرد عضواً في الجماعة المدنية، وعضواً في الدولة السياسية. ولمّا كان القانون هو ماهية الدولة وجوهرها، فإنه تجلّي العقل والأخلاق، وتجسيد موضوعيّ للحرية أو تجسيد للحرية الموضوعية. ولذلك قال سقراط: "القانون فوق أثينا"، أي فوق مدينة أثينا (الدولة) وفوق الإلهة أثينا، حامية المدينة. وقال ماركس: "وجد القانون من أجل الإنسان، ولم يوجد الإنسان من أجل القانون".
سلطة القانون، مفهومة على هذا النحو، أي على أنها سلطة الإرادة العامة على ذاتها وعلى كلّ واحد وواحدة من أفرادها، هي الضمانة الموضوعية الوحيدة للمساواة، البادئة بالمساواة السياسية، أعني المساواة أمام القانون، وتكافؤ الفرص وتساوي الشروط. المساواة، بهذه المعاني، هي الواقع الفعلي للعدالة، التي تنمو وتنبسط، ولكنها لا تكتمل؛ إلا إذا كنا نتخيّل عدالة مطلقة أو عدالة جوهرية ليست سوى خيال، إن لم نقل ليست سوى وهم. الذين يريدون عدالة جوهرية لا يريدون العدالة، سواء كانوا إسلاميين أو شيوعيين أو قوميين اشتراكيين.
البؤرة التي تتقاطع فيها الأخلاق والسياسة لا تزال غائرة تحت مظالم الاستبداد وركام الحروب والنزاعات والانفجارات الوحشية، التي تؤكد أن الحالة الطبيعية، التي رسم هوبز صورتها بألوان قاتمة، لم تكن افتراضاً نظرياً صرفاً. حالة الطبيعة، هنا، سلطة غاشمة، هي سلطة القوة الوحشية، تتجلى في صور وأشكال شتى، ولكنها السلطة، التي كتبت ولا تزال تكتب مزاميرها وأسفارها وآياتها، بأدواتها الهمجية المعروفة، على جلود البشر وعلى أديم حياتهم وعلى صفحات نفوسهم البيضاء. ما يجري اليوم في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين والسودان والصومال.. وغيرها كثير هو ضرب من نكوص إلى حالة الطبيعة وحرب الجميع على الجميع. الاستبداد المحدث والفاشية والنازية والستالينية والقوموية، العرقية / المذهبية والليبرالية الجديدة واليمين الجديد والنازية الجديدة وضروب التطرف والعنف والحركات "الجهادية" .. لم تكن وليست اليوم سوى نماذج لماكيافيلية جديدة ليست كلبية ماكيافلي ومطلقية أميره إزاءها سوى عمل هواة وأهون الشرور.
السلطة، التي تنبع من كلّ شيء، كما وصفها ميشيل فوكو، تلتهم كلّ شيء، وتطغى على كلّ شيء، ما لم تكن سلطة الدولة، أي سلطة القانون. ولم يكن لها أن تفعل ذلك لولا قدرتها الفائقة على تحويل الإنسان إلى مجرد موضوع، بل إلى وسيلة وأداة، لتحقيق أهداف توصف بأنها وطنية أو قومية دينية أو إنسانية، فهل يعقل أن تتحقق أهداف وطنية وإنسانية على أشلاء الإنسان؟!
الإنسان مادّة الدولة وصانعها من أجل حريته ورفاهيته وسعادته، لا مادّة السلطة، إلا إذا كانت هذه المادّة هي العناصر الحيوانية الخالصة في الإنسان الطبيعيّ. إذا كان الأمر كذلك فالإنسان لا يزال أدنى مرتبة من الحيوان، كما كان في ماض بعيد، يوم كان يعبد الحيوان أو يقدّسه أو يتخذ منه طوطماً.
ليس ثمّة في بلادنا وثقافتنا ما هو أكثر ابتذالاً من لفظ السياسة، وليس فيها من لفظ أكثر إثارة للتوجس والقلق والخوف أكثر من لفظ السياسة، مجرّد اللفظ. لعلّه لم يعد مجرّد لفظ، بل كائن خرافيّ ذو وجوه كثيرة ومختلفة كثرةَ الأفراد الذين يلبسونها واختلافهم؛ هذه الوجوه جميعاً، المتفاوتة في القبح والدمامة، وفي ما تبديه أو تخفيه من أنانية وجشع ومن غطرسة ولؤم أو مسكنة ونفاق .. هي وجوه السلطة، التي هي سلطة بالفعل أو سلطة بالقوة. وليس لدينا موضوع يسهل على أيّ كان أن يخوض فيه أكثر من موضوع السياسة / السلطة، فنّ الحكم، فنّ إدارة البشر والأشياء؛ فنّ تخفيض الإنسان إلى وسيلة وأداة، لتحقيق الأهداف "النبيلة"، فنّ الاستهانة بحياة الآخرين وحرّيتهم وحقوقهم وكرامتهم الإنسانية، ففي تسمية هذه القباحة فناً إساءة إلى جميع الفنون التي أنتجت روائع، في حين لم تنتج هي ذاتها سوى مسوخ، لأنها لا تزال قائمة على مبدأ "حقّ الأقوى"، لا على مبدأ الحقّ.
ليس العرب وحدهم من يجهلون ما هي الدولة، وبم تمتاز من السلطة، وليس العرب وحدهم من لم يعيشوا تجربة الدولة وسلطة الدولة، إلا لماماً، بل معظم الأمم والشعوب والجماعات، التي لم تدخل العصر الحديث إلا بصفتها مادّة لفعل الآخرين وسماداً لتاريخهم؛ ذلك أنّ الدولة، كما نحاول إنشاء صورتها وتحديد ماهيتها، معطى حديث، ينتمي إلى العصر الحديث أو إلى الأزمنة الحديثة. إنها نتاج ثلاث واقعات كونية ليس بوسع أحد أن يعيش خارجها أو بمعزل عنها: الواقعة الأولى هي الثورة الصناعية، التي أحدثت تغييراً جذرياً في بنية العمل البشري وفي قوى الإنتاج وفي عملية الإنتاج الاجتماعي، بفضل تفتح الروح الإنساني واستقلال الوجدان وازدهار الثقافة وتراكم المعارف والخبرات وتقدم العلوم واندماج العلم بالعمل. وما مهد لها وواكبها من تقدم في الفكر النظري وفي سائر فروع المعرفة. والثانية هي نشوء نظام الإنتاج الرأسمالي، الذي غدا نظاماً عالمياً، ولا تني عالميته تتّسع وتتعمق. والثالثة هي الثورة الديمقراطية، التي قادتها البرجوازية، أو الطبقة الثالثة، فوسمت المجتمعات بميسمها، ثم وسمت العصر الحديث كله بميسمها. هذه الواقعات الثلاث ثلاثة وجوه لأعظم ثورة في التاريخ البشريّ، وهي الثورة الثالثة، بعد ثورتين لا تقلّ أيّ منهما عنها عظمة وعمقاً وشمولاً، أعني ظهور الاجتماع البشريّ، والثورة الزراعية أو النيوليتية.
موضوعية هذه الواقعات الثلاث وكونيتها تضعان حداً لأيّ سجال أيديولوجي حول الدولة الإسلامية (الخلافة الإسلامية) أو الدولة الاشتراكية أو الدولة الفاضلة أو دولة الأمة العربية التي يسمونها (الدولة القومية). كما تضعان حداً لما سمّاه عبد الله العروي "أدلوجة الدولة"، التي يفترض أن تسبق نظرية الدولة. فليس بوسع أيّ جماعة اليوم، وليس بوسع أيّ شعب أو أمة أن تعيش خارج هذه الواقعات الكونية، إلا إذا اختارت إحداها أن تعيش خارج التاريخ، وهو خيار مستحيل. فالجميع في التاريخ مثلما الجميع في العالم، ولكنّ الفرق يكمن في كون جماعة ما جماعة سياسية وذاتاً حرّة ومستقلة وسيدة، أو كونها جماعة ما قبل سياسية وما دون سياسية وموضوعاً لإرادة آخرين وسماداً لتاريخهم. الفرق إذاً هو الفرق بين الحرية والتبعية، على كل صعيد، وعلينا أن نختار.
ومن ثمّ فإنّ قيم الحداثة ومناهجها ومنجزاتها لا تندرج في باب الخيارات الأيديولوجية إلا على صعيد الأفراد. وما يبدو لنا خياراً أيديولوجياً على صعيد فئات اجتماعية بعينها، تعارض الحداثة بالأصالة دفاعاً عن هوية وهمية، ليس سوى قناع لمصالح هذه الفئات المحافظة التي أعتقد أنها تخوض معركتها الأخيرة مرتكزة على ثلاث دعائم هي الاحتكار والفساد والإرهاب، وهذه ثلاثة وجوه للاستبداد السياسيّ والاستبداد الدينيّ اللذين كانا ولا يزالان متلازمين يغذّي كل مكنهما الآخر ويتغذّى منه. فإنّ موضوعية الواقعات الثلاث تجعل الخيارات التاريخية، خيارات الحرية والمساواة والعدالة، خيارات إنسانية كونية تستند إلى عالمية النظام الرأسمالي وعالمية الثورة الصناعية وعالمية الديمقراطية. هذا لا يعني طمس الهويات الخاصة للأمم والشعوب، بل يعني أنّ هذه الهويات صارت تتحدد بالكلّ الإنسانيّ، وليس بوسع أيّ منها أن تحدّد الكلّ، ذلك أنّ المنجز الحضاري لهذه الواقعات الثلاث منجز إنسانيّ بامتياز، ليس غربياً ولا شرقياً ولا شمالياً ولا جنوبياً. الجماعات والأمم والشعوب التي تضع نفسها خارج هذا المنجز الكوني تحكم على نفسها بالعقم والبوار.
الواقعات الثلاث التي أشرنا إليها تتجلّى في المجتمع المدني، البورجوازي، الحديث، والدولة السياسية الحديثة المنفتحين على آفاق إنسانية كونية. المجتمع المدني والدولة السياسية حدّان جدليان في كلية عينية، (كالقطبين: السالب والموجب في المغنطيس) لا ينفكّ أحدهما عن الآخر إلا بانتفاء الكلية العينية ذاتها، أي بانفراط العقد الاجتماعي، والانتكاس إلى حالة الطبيعة، حالة ما قبل السياسة وما دون السياسة وحرب الجميع على الجميع، كما هي الحال اليوم في العراق ولبنان وفلسطين والسودان وغيرها كثير، ولا ينتفي أحدهما إلا بانتفاء الآخر؛ فلا دولة سياسية بلا مجتمع مدني ولا مجتمع مدنياً بلا دولة سياسية، ونعني بالدولة السياسية الدولة الوطنية الحديثة أو الدولة القومية الحديثة، ولا فرق، الدولة التي تبدو لغير مواطنيها (من الخارج) دولة وطنية أو قومية، وتبدو لمواطنيها جميعاً (من الداخل) دولة حقّ وقانون.
المجتمع المدني والدولة السياسية، بوصفهما حدّين جدليين في كلية عينية، هما، معاً، الأساس الذي نهضت عليه الحداثة بوجه عامّ والحداثة السياسية بوجه خاصّ. وهما، معاً، الإطار المرن للحداثة، بجميع منطوياتها. هذه الكلية العينية ذاتها، أي وحدة المجتمع المدني والدولة السياسية، تحمل في أحشائها جنين الديمقراطية. ومن ثمّ فإنّ الدولة السياسية هي المقدمة اللازمة أو الضرورية للدولة الديمقراطية.
ليس من الممكن فصل الدولة الحديثة، في مفهومها وفي واقعها الفعلي معاً عن الحداثة، التي كانت في مبدئها وأساسها ثورة عقلية جرت خلفها جميع العربات، بتعبير بول هازار، الذي لخّص أزمة الضمير الأوروبي بين عامي 1680 و 1715 بقوله: كانت أغلبية الفرنسيين تفكر كما فكر بوسويه؛ بغتة فكّر الفرنسيون كما فكر فولتير: إنها ثورة1." أجل ثورة في الفكر، بوصفه مسعى متواصلاً لاكتشاف العناصر العقلية في الواقع. وليست العناصر العقلية سوى العناصر العامة والكونية والإنسانية بالتساوي. أجل إنها الثورة: ثورة في الفكر وفي مناهج المعرفة وثورة في العلوم وثورة في الإنتاج وثورة في القيم، ليست كالثورات التي شهدنا وخبرنا، أي ليست من فعل إرادة جزئية طائشة. الحداثة سيرورة انتقال من القديم إلى الحديث، من منطق السكون والثبات إلى منطق الحركة والحياة، انتقال من نمط حياة كان قائماً على الاستبداد والظلم والتبعية .. إلى نمط حياة جديد يقوم على الحرية وكل ما ينتج منها ويتصل بها. الحداثة اتساق منطق الفكر ومنطق الحياة، ونعني بالفكر هنا فكر الخاصة والعامة على السواء، نظرة جديدة إلى الحياة، إلى الطبيعة وإلى المجتمع والدولة وإلى الإنسان، بل نظرة جديدة إلى الذات، في جميع مظاهرها وصيغها الفردية والجماعية. قوام هذه النظرة الجديدة انتقال من نظام اجتماعي سياسي وأخلاقي قائم على الواجبات إلى نظام جديد، بل حديث، قائم على الحقوق.
الحداثة، في موضوعنا، رؤية جديدة، بل حديثة، لما هي / ولما ينبغي أن تكون عليه، العلاقة الجدلية بين السلطة والحرية، إذ لا يمكن حذف أي منهما أو الاستغناء عنها، خلافاً للرؤية الثنوية، التعادمية. فما هذان النقيضان اللذان لا يمكن حذف أيّ منهما أو الاستغناء عنه؟ الحرية والسلطة؛ الحرية والقانون؛ العشوائية والانتظام؛ الفوضى والنظام؛ الفرد والجماعة. المجتمع والدولة؛ المجتمع المدني والدولة السياسية… وما في حكمها.
الحداثة لم تنتصر للحرية على حساب السلطة؛ بل استبدلت بهذه الأخيرة، أي السلطة، سلطة القانون، أي سلطة الدولة. فحيثما وجدت الدولة لم تعد السلطة سلطة فرد مستبدّ أو سلطة أقلّية أو نخبة، أو سلطة عاهل أو ملك، أو سلطة جماعة مذهبية أو إثنية أو سلطة حزب أو طغمة، بل صارت سلطة الدولة فحسب، سلطة القانون فقط؛ ومن ثم صارت السلطة، أعني سلطة الدولة، من ماهية الحرية ذاتها. تلكم هي العلاقة الجدلية، الديالكتية، بين الحرية الذاتية والحرية الموضوعية.
الحداثة لم تنتصر للسلطة على حساب الحرية، ولا للدولة على حساب المجتمع ولا للمجتمع على حساب الفرد، إلا ما كان، ولا يزال، من مظاهر التطرف واختلال التوازن وميل عن العدالة والاعتدال، وغيرها مما يتصل بعدم التناسب بين المبادئ والمصالح، ولا سيما المصالح الخاصة العمياء، التي تصدر عن أنانية جشعة وكلبية مقيتة، سواء على صعيد الأفراد أو على صعيد الجماعات والمجتمعات والدول.
التعارض بين الحرية والسلطة انتقل إلى ميدان الدين، فكانت حركات الإصلاح الديني، كالإصلاح اللوثري والإصلاح الكاثوليكي المضادّ، اللذين أسهما، من موقعين مختلفين في ترسيخ العلمانية وتسريع وتائر نموها وانبساطها، في العالم المسيحي الحديث، ومحاولات الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وغيرهم، في العالم الإسلامي الحديث. نمو العلمانية وانبساطها في العالم المسيحي، وتعثرها في العالم الإسلامي، مرتبطان بمدى توقيع أو وقعنة ما هو إنساني في الدين، مسيحياً كان هذا الدين أم إسلامياً. هنا يكمن جذر نمو العلمانية وانبساطها أو تعثرها وانغمادها، لا في طبيعة الدين المسيحي ولا في طبيعة الدين الإسلامي. الانعتاق السياسي، في أهم وجوهه هو توقيع أو وقعنة ما هو إنساني في الدين، أي جعله واقعاً مدنياً وسياسياً، وهذا ليس مشروطاً بتخلي الأفراد عن دينهم، إلا إذا أرادوا ذلك. لذلك كان الكاتب يشدد على حقيقة أن الإنسانية أساس الوطنية ورافعتها. توقيع أو وقعنة ما هو إنساني في الدين من شأنه أن يؤنسن الدنيا والدين معاً، ويؤنسن السياسة والأخلاق معاً.
إذا كانت الحرية هي ماهية الإنسان وجوهره، ماهية الفرد، من الجنسين، وجوهره، فمن الضروري أن تكون السلطة سلطة الحرية على ذاتها، أي سلطة الإنسان على ذاته، بدءاً من الفرد الواقعي، الذي يفترض أنه حر في توجيه حياته أو حياتها الوجهة التي تريد أو يريد، وعيشها بالطريقة التي تريد أو يريد، بصفتها أو بصفته عضواً كامل العضوية في مجتمع. سيقول قائل: إذاً، المجتمع قيد على حرية الفرد، وحد يحدها، ويحد منها، وكذلك الدولة، وهما قوتان عاتيتان، فماذا يتبقى للفرد من حريته، إذا كان لا معنى واقعياً للحرية إلا إذا كانت حرية الفرد؟ ذلكم هو لب الإشكالية، التي ليس لها من حل منطقي وواقعي إلا بإعادة تعريف، كل من الفرد والمجتمع والدولة، في ضوء العلاقة الجدلية بين الفردي والخاص والعام.
المراجع
alawan.org
التصانيف
تاريخ أحداث