حاول كثير من المتخصّصين تفسير المدّ الأصوليّ في الجزائر بنقص التعليم وضعف مناهج التربية وعدم انتشار الثقافة إلى آخره من التفسيرات الإيديولوجية كيلا أقول التسترية. لكن إذا نزلنا إلى الميدان ودقّقنا في الأمر النظر، غير مغفلين لتاريخ الجزائر الثقافي – الاجتماعي، تظهر لنا الأمور مغايرة لذاك الفهم ولتلك المقاربات الاقتصادوية والاجتماعوية. كيف ذلك؟ يقول قائل عربي وما هي قصّة أشقائنا الجزائريين مع الأصولية؟
كان الجزائريون في أغلبهم وحتى أواخر الثمانينات من القرن المنصرم حداثيين بل براغماتيين في سلوكاتهم وتصوّراتهم وأحلامهم إلى حدّ بعيد. كانت الحداثة بمثابة غنيمة حرب، عاشوها تلقائيا كــ ’حداثة لاواعية’. كانوا يتبعون حسّهم الطّبيعي السليم. وذلك لسبب بسيط يتلخّص في أنهم لم يكونوا مطّلعين بعمق على أوامر دينهم ونواهيه، بعبارة أخرى لم يكن لهم علاقة مباشرة بذلك ’ الإسلام العالم ’ إسلام الفقه التوتاليتاري. كان لهم إسلامهم الخاصّ،غير المتعالم، ذلك الإسلام الشعبيّ الفولكلوريّ المتوارث شفاهي. ولكن مع تعميم التعليم ابتداء من بداية الاستقلال التقى جيل ما بعد الاستعمار مع الإسلام النصّي العالم، فأحدث اللقاء أزمة هويّة قويّة، أدّت بدورها إلى خلق رغبة جامحة في إعادة أسلمة الحياة، وهو ما عرف بالصحوة الإسلامية المسكونة بعصاب الالتصاق بالنصوص والاقتراب أكثر فأكثر من ذلك النظام الحياتيّ الذي تبشّر به المدرسة وتدّرسه على أنّه هو المثال والبديل للنظام الشيوعيّ المادّي وللنظام الرأسمالي الظالم. يقدّم كتاب الفلسفة الرسميّ المقرّر لطلاب البكالوريا النظام الرأسمالي كأطروحة والنظام الشيوعيّ كنقيض لها ويأتي النظام الإسلاميّ كتركيب أبديّ، يجمع بين محاسن الأوّل والثاني ويتجنب مساوئ الاثنين معا، وهكذا يُوقف الدياليكتيك نهائيا بعدما قُلب رأسا على عقب. هذا في مادّة الفلسفة أمّا في غيرها، فلا حديث إلا على الشريعة والتمكين لها وممارسة الضغط على الفتيات ليدفنّ أنفسهن تحت حجاب وجلباب، وهكذا بدأت الجزائريات يسدلن الظلام على الضياء كما يقول أبو نواس، وفي أقلّ من عشريتين غاب صبحهنّ تحت ليل. وغرق ذكور الجزائر في توقير زائد لشيوخ الدين، وأصبحوا يشحذون الفتوى من كلّ دجال درويش، وانتشرت بينهم بدع في الهيئة والهندام تدلّ على خلخلة قد مسّت المجتمع الجزائريّ في عمقه وعلى تشظّ في الشخصية يبدو في انتماء الناس إلى عصور متباعدة في آن. فترى فوق الجسد الواحد عباءة تقليدية وتحتها سروال جينز، وفي الرجلين حذاء رياضة من آخر الصيحات..وإيمان بالطبّ الحديث والعلم، وبالرقية الشرعية والجنّ والعفاريت المذكورة في القرآن، حتى من قبل أطبّاء وصيادلة، كما رأينا في كثير من برامج الكاميرا المخفية، المضحكة-المبكية..
مثال طريف: في السبعينات كان الصائمون أقلّية بين عمّال أسبوعية مشهورة في الجزائر وكانوا يتظاهرون بعدم الصوم خوفا من تهكّمات زملائهم، لكن، في الثمانينات أصبح المفطرون أقلّية يدخّنون سجائرهم في سرية خوفا من هراوات زملائهم..
الأصولية هي إذن ثمرة انتشار الثقافة والتعليم وليس العكس، فالذين يريدون تأبيد المؤقّت المتباكون على ذلك الزمن الذي كان فيه الجزائريّ متصالحا مع إسلامه الفلكلوريّ المطعّم أصلا بمكتسبات الحداثة التي ورثها من العهد الاستعماري، يتناسون أنّ الجزائري كان كذلك لأنّه كان بعيدا عن الإسلام الحقيقيّ، وكان حتميا أن يتمّ اللقاء بينه وبين ذاك الإسلام المكتوب، وحينما التقى به رفض الحداثة لأنّه وعى أنّها مناقضة له. وهو محقّ في ذلك، فتعاليم الإسلام تتعارض جليّا مع أهداف الحداثة، وهو أمر طبيعيّ يفسّره البون الزمنيّ الشاسع الذي يفصل بينهما.
وهكذا عاد الحداثيون الجزائريون الواعون بحداثتم إلى مكانهم الطبيعي، فأصبحوا هامشيين كما كان المعرّي وأبو نواس والحلاج وعمر الخيام، وغيرهم في زمن ما يسمّى حضارة عربية إسلامية..
فلماذا نستعمل كلمة أصولية إذن؟ نحن نعيش عودة عامّة إلى الإسلام العالم، الأصيل في كافة أنحاء العالم الإسلاميّ. هي عودة إلى منابع الإسلام: القرآن والسنة والفقهاء الثقاة. فما الفرق بين مسلم راديكاليّ ومسلم معتدل؟ أليس الراديكاليّ هو ذاك الذي يعود إلى أصول الإسلام، إلى أسسه وتعاليمه الصافية، والمعتدل هو من يبتعد عن ذلك مهما كانت درجة ذلك الابتعاد؟
الإسلام عقيدة إيمانية ومشروع مجتمع في نفس الآن، فمن الصعوبة بمكان الفصل بين هذا وذاك. فالقول باضمحلال الأسلمة أو الأصولية تلازما مع التقدّم الثقافي وانتشار التعليم لا معنى له البتّة وإن رفعه البعض شعارا، مدّعين أنّ الإسلام لم يقم بثورته العلمانية بعدُ وأنّ الحلّ كامن وراء التقدّم الاقتصادي والاجتماعي و الثقافي.
فهل تعلمن مسلمو الغرب الذين يعيشون بعيدا عن التخلّف الاقتصادي والثقافي والاجتماعيّ؟ وهل منع الرفاه في بلدان الخليج من السقوط في أحضان الأصولية؟
في كتابه ’ إسلام بلا خضوع. من أجل وجودية إسلامية ’1، يقترح عبد النور بيدار وهو من الذين يدعون ويؤمنون بإمكانية عصرنة الإسلام ليتماشى مع العصر وليخرج المسلم من الخضوع للنص والتعاليم التي لم تعد عقلانية، يذهب بعيدا في إعادة قراءة النصوص بل ونسخ بعضها تماما. لكن ينسى الفيلسوف أنّ الإسلام هو أوّلا وقبل كلّ شيء ’ التسليم والخضوع لإرادة الله’. لا يمكن أن نوفّق بين الإسلام والعصر دون المسّ بلبّ الإسلام ذاته وهو أمر لا يقبله مسلم قط. فأغلب المسلمين ينظرون إلى دينهم على أنه منظومة فكرية وعملية شمولية يجب أن تترتب على ضوئها حياتهم العامة والخاصة. وبالتالي تتحوّل الأغلبية الدينية إلى أغلبية سياسية وهو ما انتبهت إليه وغذّته الأحزاب الإسلامية واستثمرته في صراعها الإنتخابوي مع السلطات القائمة واعدة الناس بأنّها الوحيدة القادرة على تخليصهم من تلك السلطات بطرق سلمية ديمقراطية بعدما فشلت عن طريق العنف. لكن إن خلّصنا الإسلاميّون من النظام القائم المنبوذ فمن يخلّصنا من الإسلاميين؟ ألا يعتبرون الديمقراطية كسفن طارق بن زياد التي كان لا بدّ من إحراقها حين وصلت إسبانيا حتى لا يفكّر أحد باستخدامها ثانية على حدّ تعبير أحد النقاد؟
في بداية تسعينات القرن الماضي، وفي عزّ الأزمة الجزائرية بالذات، وفي غمرة احتدام الصراع بين أنصار توقيف المسار الانتخابي، تجنبا لاستيلاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ على الحكم، وأنصار الذهاب إلى الدور الثاني رغم احتمال فوز الحزب الأصولي فوزا ساحقا، قدّم عالم الاجتماع الجزائري الهواري عدي نظرية جريئة وطريفة تحت عنوان ’’الارتداد الخصب’’، رأى فيها أنّ أحسن طريقة يتفطّن بها الجزائريون إلى هشاشة الخطاب الدينيّ ولاواقعيته هو تجريب حكم الإسلاميين بشكل مباشر. وهو ما يلخّصه لنا الفيلسوف الإيرانيّ داريوش شايغان: "لقد حققنا، نحن الإيرانيون، كلّ فانتازماتنا العتيقة، وقد أهّلنا هذا التطهير أو التنفيس الجماعيّ غير المسبوق أن نفهم اليوم عدم جدوى الأحلام غير القابلة للتحقيق وأن نعي كذلك أن كل دعوة للرجوع إلى الخلف هي ضد مستقبلنا بل هي فخ منصوب للمغفلين. بشكل من الأشكال، نحن في مرحلة متقدمة عن بقية البلدان الإسلامية إذ مازال أهل تلك البلدان يحلمون بالانزلاق. لنقل أننا بدأنا نلمح شعاع الشمس الذي يخرجنا من النفق المظلم بينما هم يحاولون الدخول"2.
فهل ندخل الدهليز ونجرّب ما جربه الإيرانيون مدة ثلاثين سنة لننتبه بعد فوات الأوان أنّ حلم الدولة الإسلامية المثالية كان مجرّد وهم وأنّ سفن طارق بن زياد قد شبعت نارا؟

المراجع

alawan.org

التصانيف

تاريخ  أحداث