الحياة محدودة بالأبعاد
الثلاثة المعروفة (الطول والعرض والارتفاع)، ونحن دائماً نقيس الأمور بعقولنا
وحواسنا التي نشأت منذ مولدنا في عالم تحدّه هذه الأبعاد الثلاثة، ولن نستطيع أن
ندرك البعد (الرابع) الزمني إلا إذا انتقلنا إلى عالم آخر ذي أبعاد أكثر، وفي هذه
الحالة ـ فقط ـ نستطيع أن نطلع على الماضي والحاضر والمستقبل.
ولتوضيح ذلك، فإننا نتحرك
أثناء النوم بعقولنا ومشاعرنا في أبعاد أخرى غير التي نعرفها في اليقظة، فمن الناس
من يرى في نومه أحداثاً قد تتحقق بعد ساعات وأيام أو شهوراً ..
فأين كنا أثناء النوم ؟
وفي أي بعد كان عقلنا
الباطن يتجول؟ .
من المؤكد أننا لم نكن
أثناء النوم موتى، ومع ذلك كنا غائبين بوعينا غير شاعرين بأجسامنا، وبذلك كنا
ميتين بالنسبة لهذا العالم، ولكننا أحياء أثناء النوم لنتجول بأحلامنا في عالم غير
محدد بالأبعاد الثلاثة، بل ربما كنا نمر بتجربة أبعاد أربعة، أو أكثر، فنرى بعض أحداث
الماضي ماثلة أمامنا بالرغم من أنها قد أنقضت، أو قد نرى أحداثاً لم تحدث بعد وإذا
بها تحدث في المستقبل، وكأنما مشاعرنا تنطلق بدون حدود أثناء النوم في الزمان
والمكان دون أن ندري ...!!!
وربما ينطلق هذا الشعور
أثناء اليقظة، فيرى بعض الناس أحداثاً قبيل وقوعها، فهل معنى هذا أنهم يعيشون في
بعد رابع للحظة من الزمن. وليس البعد الرابع الزمني نهاية مطاف الأبعاد.. بل هناك
بعد خامس وبعد سادس وبعد سابع ... الخ ..
وهذه الأبعاد الجديدة لا
نستطيع أن نتخيلها إلا إذا فهمت نملة (مثلاً ) نظرية النسبية لأينشتين التي يستعصي
فهمها على البشر أنفسهم ..!
والموت هو الطريق الوحيد
الذي سيحررنا من عالم الماديات (المحكوم بالأبعاد الثلاثة ) إلى عالم الروحانيات،
حيث نستطيع أن نخلق في الكون، ونطلع على كل أبعاده، فنرى ما لا عين رأت، ونسمع ما
لا أذن سمعت، ونشعر بما لا يخطر على قلب بشر، مصداقاً لقوله تعالى : (لقد كنت في غفلة من هذا
فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) {سورة ق}..
حقاً إن الروح قبس من نور
الله لا تعترف بحواجز الزمان والمكان.
ونحن في حياتنا في الدنيا
نعتبر الكون المحسوس بداية الزمان. والآن نسأل : هل هناك زمان قبل هذا الزمان وهل
هناك زمان بعده؟ يقول ابن رشد: إن ظواهر بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية
الصحيحة تؤكد وجود زمان قبل خلق هذا الكون المحسوس، كما يدل عليه قول الله تعالى : (وهو الذي خلق السماوات
والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء){سورة هود :7}.
وظاهر الآية هنا يقتضي وجوداً
ـ قبل هذا الوجود الفيزيائي، ويقتضي زماناً قبل هذا الزمان! وكذلك ما أخرجه
البخاري في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم :( كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على
الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض).
وهناك آيات قرآنية أخرى ـ
تكررت كثيراً ـ تتحدث عن هذا الزمن الغيبي الذي سبق خلق السماوات والأرض، كما في
قول الله تعالى :( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على
العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون ) {يونس:
3}.
وهذه الآية تفيد ضمناً أن
خلق العرش متقدم على خلق السماوات والأرض في الزمن، كما يتضح أيضاً من الآية
السابقة في سورة هود. وهناك إبهام في جميع الآيات بالنسبة لمدة زمن خلق العرش
والماء !!
وإذا استعرضنا آيات
القرآن الكريم، فإننا سوف نستنتج أمثلة للزمن فيما يلي :
أولاً : الزمن العرش :وهو الزمن الذي يواكب
وجود العرش والماء.
ثانياً : زمن خلق السماوات
والأرض:وهو الزمن أو المدة التي
واكبت خلق الكون المحسوس، والمعبر عنه في القرآن الكريم بستة أيام .
ثالثاً : زمن العروج :وهو الزمن الدال على
السرعة العظمى التي يعرج فيها الأمر إلى ا لله، أو تعرج الملائكة فيها إلى الله عز
وجل، كما يتضح من الآيتين التاليتين : (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في
يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون){السجدة}، (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم
كان مقداره خمسين ألف سنة) {المعارج} .
رابعاً : زمن الآخرة:
وهو المدة التي تستغرقها
مواقف الآخرة، مثل الحشر والميزان والمرور على الصراط والحساب.. وغير ذلك، أو
المدة التي يقضيها الإنسان في الجنة أو النار، والتي نطلق عليها (مدة الخلود). وقد
نسأل: ما هو مقدار زمن الخلود؟ هل هو زمن دائم لا ينقطع ؟ أم له مدة محددة من علم
الله ؟ وهل إذا قلنا بأنه زمن دائم، فهل يكون حينئذ مشارك لله تعالى في أبديته؟
يقول تعالى في آيات كثيرة
من القرآن عن زمن الخلود:( .. خالدين فيها أبداً (22)) {التوبة}. (.. خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير
مجذوذ) {هود}.
وقد يتعرض بعض الناس على
الخلود مستدلين بقول الله تعالى : (كل شيء هالك إلا وجهه.. ) {القصص، وقوله : (وأحصى كل شيء عدداً) {الجن}.
وبرى بعض المفسرين أن
خلود الجنة والنار خلود حادث بإيجاد الله له وأن مدته متجددة دوماً، ومحاطة بعلم
الله عز وجل ومشروط بدوام السماوات والأرض وبإرادة الله عز وجل، ومعنى هذا أن خلود
الآخرة غير مشارك الله تعالى في صفة قدمه وبقائه، والله أعلم .. وعموماً، فإن هذه
الأزمنة الأربعة للعرش والكون والعروج والآخرة جميعاًَ مخلوقة لله عز وجل، وعلمها
عنده سبحانه، وما نحن إلا مجتهدون من أجل الوصول للحقيقة.
الزمن النفسي والزمن
الافتراضي:
أ) الزمن النفسي:
يجمع الفلاسفة والشعراء على أن الزمن يمر سريعاً في أيام السعادة
وبطيئاً في أيام الشقاء، ولقد مررنا جميعاً بهذا الشعور، وكأنما الزمن يسرع أو
يكاد يتوقف، وكلما اقتربنا من شلالات الموت حيث تتساقط مياه نهر الحياة، فإننا
نشعر بأن الزمن يمر سريعاً، وأن تياراته تجرفنا بعنف، وكأنما الزمن شيء مندفع يسري
ولا يتوقف أبداً.
والإحساس النفسي بالزمن
يختلف عن الزمن الفيزيائي المرتبط بالمكان ويعتبر الفيلسوف (هنري برجسون) الزمن النفسي وكأنه
الزمن الحقيقي والديمومة الواقعية، وهو الزمن الذي تستشعره النفس البشرية حينما
تسبح بخيالها لتشاهد إحساساتها وذكرياتها ولذاتها وآلامها ورغباتها، وهو زمان
تتجدد لحظاته مدى الحياة، ولا صلة له بالمكان، لأنه معبر عن الحياة الشعورية.
ولقد بلغ (برجسون) في الاهتمام بالزمن
الشعوري، أو الزمن السيكولوجي، وأهمل تماماً الزمن الواقعي الفيزيائي المرتبط بالمكان.
ولكن (ألكسندر) يقرر أن المكان والزمان
الشعوريين جزء من المكان والزمان الفيزيائيين، ويرى(ابن سينا) أن الزمان يتوقف على النفس! ورغم اختلاف
وجهات النظر نستطيع أن نعرف الزمن النفسي بأنه(الزمن الذي يعاينه كل إنسان شعورياً، ويختلف
تقديره من شخص إلى آخر، على حسب حالته النفسية) وهذا الزمن ليس معزولاً عن العلاقة
الخارجية، وتعبير عن مدى استجابة الفرد لها وتأثره بها.
ولقد أشار القرآن الكريم
إلى هذا الزمن النفسي ضمن إشارته إلى حالات نفسية وفردية أو جماعية من الفرح
والسرور أو الهم والحزن، أو الخوف أو الفزع. وكلها حالات لا يقاس فيها الزمن
العادي إذا أن الزمن الوجداني هذا قد يقصر ويتقلص حتى كأنه برهة’ كما في لحظات
الأنس والسرور، وقد يطول حتى كأنه دهر، كما في لحظات الخوف والانتظار، ونجد إشارة
إلى هذا في قول الله تعالى (تعبيراً عن السعادة بيوم فتح مكة ): (إذا جاء نصر الله والفتح
* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفوجاً * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً
){ القصص }.
وقوله تعالى :( لوصف
ساعات الهزيمة) .
(.. وإذ زاغت الأبصار
وبلغت القلوب الحناجر.. ){ الأحزاب}.
حقاً إن لحظات الحزن تمر
وكأنها دهر كامل، بعكس لحظات السعادة التي تمر كلمح بالبصر!!
ب) الزمن الافتراضي:
هو الزمن الذي يفترضه الذهن وليس له وجود خارجي أو واقع محسوس.
ولقد أشار القرآن الكريم بإمكانية حدوث مثل هذا الزمن الافتراضي
بقدرة الله المطلقة، إذ يقول سبحانه :(قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله
غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً
إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته
جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ){القصص}.
تشير هذه الآيات إلى أن الله قادر على إيقاف دوران الأرض حول نفسها
أمام الشمس، وفي هذه الحالة سيعيش بعض الناس في نهار سرمدي، فينعدم الإحساس بمرور
الزمن، لعدم تعاقب الليل والنهار في هذه الحالة، وبهذا فإن النهار السرمدي والليل
السرمدي يمثلان زمناً افتراضياً قد يحدث بقدرة الله تعالى إذا توقفت الأرض عن
الحركة. كما توضح هذه الآيات نعمة الله في حركة الكون وتعاقب الليل والنهار من
جهة، كما أنها تبين طلاقة القدرة الإلهية من جهة أخرى، فهو سبحانه يستطيع أن يحول
الحياة إلى ليل أو إلى نهار سرمدي بالأمر الإلهي (كن فيكون).
الأمر الإلهي المشمول بالنفاذ الفوري:
نعلم أن كلمة (الآن) في الزمن الفيزيائي ليست تعبيراً للحظة وهمية
للفصل بين الماضي والمستقبل، وإنما هي لحظة لها وجود حقيقي ينسب إليها كل أعمالها
الحاضرة في هذه الدنيا، أما كلمة (الآن) في الأمر الإلهي (أمر الكينونة) فقد جاءت
آيات قرآنية عديدة تشير إليه، كما في قوله تعالى: ( بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما
يقول له كن فيكون ){ البقرة}. (ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن
فيكون) {مريم}. (والله غيب السماوات
والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير) {
النحل}.
وبالنظر إلى هذه الآيات الأربع: نجد أن الثلاث الأولى منها تتحدث عن
تلك اللحظة الزمنية التي يفترضها الذهن واقعة بين الأمر والكينونة، أما الآية
الرابعة فإنها تتحدث عن لحظة النهاية الزمنية التي يأبى العقل إلا أن يفترض وجودها
بين الأمر والفناء، ولقد اختلف العلماء حول المدة الزمنية المنحصرة بين الأمر
والكينونة، أو بين الأمر والفناء، هل هي موجودة أم غير موجودة، وأعتقد أن الأمر
الإلهي في الكينونة أو الفناء هي آن افتراضية لا وجود لها إلا في الذهن البشري،
لأن الله تعالى لا يأمر شيئاً إلا وهو موجود، ولا يكون الشيء موجود إلا وهو مأمور
بالوجود، وبهذا فإن قضاء الأمر الإلهي لا يقدر بزمن أي لا يوجد وقت بين الأمر
والكينونة، أو بين الأمر والفناء.
وقد أشارت آية النحل إلى هذا المعنى حينما ذكرت أن لحظة الآن التي هي
بين الأمر والفناء تمتد بين أصغر جزء، المعبر عن بلمح البصر، وبين جزء أصغر منه لا
يمكن قياسه فيزيائياً، إذ أنه مجرد افتراضه ذهني فقط ليس له حقيقة موضوعية، وهو
المعبر عنه بقول الله سبحانه (أو هو أقرب).
ولقد استعمل القرآن كلمة (الحين) كثيراً بدلاً من كلمة (الآن) ليدل
على أصغر وحدة زمنية، ولننظر إلى قول الله تعالى:( إفَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)
وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ
وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85){الواقعة}.
والحديث هنا عن اللحظة الزمانية الحاسمة التي تبقى للروح إن نقطعها
بعد أن وصلت إلى آخر الحافة بين العالم المحسوس (الحلقوم) وأول عتبة من عالم الغيب
المكنون.
وهذه هي بالضبط اللحظة التي لا أبعاد لها ولا يمكن أن يكون لها تقدير
في معايير العالم المحسوس، وذلك لأن سرعة الروح غير معروفة، ولأن الحد الفاصل بين
عالم الحس وعالم الغيب غير معروف. ولهذا صورت الآية حيرة الجالسين بجوار المحتضر
وهم لا يدرون ماذا يفعلون، ولا يملكون من الأمر شيئاً.. وبهذا يكون (الحين) أو
(الآن)، أي أمر الكينونة وأمر الفناء عند الله جزءاً زمنياً ليس له وجود في الزمن
الفيزيائي، وإنما وجوده ذهني فقط وحقيقة علمه عند الله تعالى .
الله محيط بالمكان والزمان
عرفنا أن للكون بداية من عدم، ونهاية إلى عدم، وهذا في حد ذاته إثبات
لوجود الله وقدراته اللانهائية.
يقول أديموند ويتيكر: (ليس هناك ما يدعو إلى أن نفترض وجود مادة وطاقة قبل الانفجار العظيم)، وإلا فما الذي يميز تلك
اللحظة عن غيرها ؟ والأبسط أن نفترض الخلق من العدم بمعنى إبداع الإرادة الإلهية
للخلق من العدم، علماً بأن هذه الصورة لا تكتمل إلا بوجود الإله ) .. لأن شيئاً ما
لابد أن يكون موجوداً على الدوام؟ هذا الشيء غير مادي (لأن المادة لها بداية) ..
ولابد للمادة أن تكون من خلق عقل أزلي الوجود.. هذا الكائن، وهذا العقل الأزلي، هو
الله ...
إن اكتشاف بداية الكون وتوقع نهاية له سوف يؤدي حتماً إلى الإيمان
بوجود الله، والعلم اليقيني يؤكد وجود الله على هؤلاء الكفار الدهريين الذين
اعتقدوا الكون مستقراً بلا بداية ولا نهاية، أي الكون المستقر الأزلي الدائم Steady state universe.
نحن نعلم أنه لو كان الكون أزلياً ـ كما اعتقد البعض قديماً ـ لما
بقيت في الكون حياة ولما بقي إشعاع ذري أو إشعاع خلفية الكونية، ولفقدت النجوم كل
طاقتها، منذ زمن بعيد. ويرد القرآن على أمثال هؤلاء الملحدين الدهريين، أصحاب مذهب
الكون الأزلي بقول الله تعالى : (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما
لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) { الجاثية}.
وهناك فرضية أخرى طرحها بعض العلماء تجنباً لافتراض حتمية بداية
الكون ونهايته ـ تدعى (نظرية الكون المتذبذب أزلياً )، أي : انفجار ـ تمدد ـ انكماش ـ انسحاق، ثم
انفجار جديد لتتكرر الدورة ) فلا بداية ولا نهاية، بل دورات أزلية من التمدد
والانكماش.
وهذه النظرية عليها تحفظات كثيرة، كما يقول الفيزيائي بلودمان: إن عالمنا لا يمكن
له أن يتكرر في المستقبل، ونحن ندرك الآن أن أي كون مغلق، كعالمنا، لا يمكن أن يمر
إلا بدورة واحدة من دورات التمدد والانكماش وذلك بسبب ضخامة الأنتروبيا (القصور
الحراري) المتولدة في كوننا، الذي هو أبعد ما يكون عن التذبذب.
وسواء كان الكون مغلقاً أو مفتوحاً، مرتداً أم متمدداً على وتيرة
واحدة، فإن التحولات غير المعكوسة في أطوار الكون تدل على أن لهذا الكون بداية
ووسطاً ونهاية محددة. كذلك فإن نظرية (الكون المتذبذب) لا تنسجم مع(النسبة العامة )، ومن هنا يخلق (جون ويلر) إلى أن عملية انكماش كبيرة وهائلة وواحدة من
شأنها أن تنهي الكون إلى الأبد بانهيار واحد!! وبذلك ندرك أنه عندما يحدث انهيار
بالجاذبية في المستقبل فسنكون قد وصلنا إلى نهاية الزمن، وما من أحد قط استطاع أن
يجد في معادلات النسبية العامة أدنى حجة تؤيد القول بعملية تمدد أخرى جديدة، أو
بوجود كون متذبذب، أي دورات أزلية، أو شيء آخر سوى النهاية، ولا شيء غير النهاية
.. وسبحان الله فالعلم الصحيح قبس من أنور القرآن.
ويقول الله تعالى عن الانكماش الكوني المتوقع في المستقبل : (يوم نطوي السماء كطي
السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ) {الأنبياء}.
أي : انتظروا يوماً ينطوي فيه الكون بسماواته وأرضه تماماً كما
يطوي الكاتب الصحف والكتب ليعود الكون بالانسحاق العظيم إلى حيث بدأ .. هذا
الانسحاق واضح أيضاً في قول الله تعالى:(وحّملت الأرض والجبال فدكتا دكةّ واحدة ){ الحاقة}.
وقوله سبحانه وتعالى:(ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً ){ طه}.
ويكرر القرآن الكريم التأكيد على هول هذه اللحظة، التي يسميها
العلماء " الانسحاق
العظيم" (Big Crush)،ويسميها الله : الساعة
والحاقة والصاخة والطامة الكبرى والقارعة وكلما تقرع الأذن وتهز القلوب والوجدان
من هول يوم يتبدل فيه الكون.. كما في قوله تعالى : (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله
الواحد القهار){إبراهيم }.
والله قادر على إعادة خلق الكون، كما قوله تعالى: (.. إنه يبدأ الخلق ثم
يعيده .) {يونس}.
ويتساءل العلماء: هل سنلاحظ إزاحة زرقاء في طيف المجرات بمجرد بدء
الانكماش في المستقبل ؟ .. والجواب : نعم. فهذه الإزاحة علامة فيزيائية من علامات
القيامة. ويتساءلون أيضاً، هل تستحيل الحياة في طور الانكماش مستقبلاً لأن الظروف
لن تكون ملائمة لوجود كائنات حية، حيث تكون كل النجوم ميتة وقد انتهى وقودها
وتحولت إلى أجرام متكورة كالثقوب السوداء؟
وهل (على سبيل الخيال العلمي ) سيموت الناس قبل أن يولدوا في زمن
معكوس عند الانكماش؟ .
وهل ستعود الكواكب المكسورة لتجمع نفسها المضاد، أي كلما ازداد الكون
انكماشاً؟
وغير ذلك من أسئلة مثيرة (1).
والجواب المنطقي والعلمي، في رأي ـ أن هذا الانقلاب الزمني لن يحدث
في طور الانكماش لأنه لا تماثل بينه وبين التمدد ، لأن طور الانكماش ستسيطر عليه
الثقوب السوداء التي ستطحن وتسحق كل شيء سحقاً. وسوف تستحيل الحياة في هذا الطور،
لأن الكون سيكون ـ كما يقول ستيفن هوكنج ـ في حالة اضطراب كامل.
وأعتقد، بل وأؤكد، أنا
شخصياً ـ كفيزيائي مسلم ـ أن طور الانكماش سيكون مصحوباً بأحداث كونية هائلة، كما
ورد بالقرآن الكريم، كتكور الشمس وابتلاع كواكبها في باطنها، وبالتالي اختفاء
الكواكب وانتثارها وتسجير البحار واشتعالها وزوال الجبال، كما في قول الله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ {1} وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ {2} وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ
{3} وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ {4} وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ {5} وَإِذَا الْبِحَارُ
سُجِّرَتْ {6} وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ {7} وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ
سُئِلَتْ {8} بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ {9} وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ{10} وَإِذَا السَّمَاء
كُشِطَتْ {11}{سورة التكوير}. وقال الله تعالى:(إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ {1} وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ {2}
وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ {3} { الانفطار}.وقال الله تعالى:( إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ {1} وَأَذِنَتْ
لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ {2} وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ{3} وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ {4} وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ){
الإنشقاق}.
وقال الله تعالى:(يوم يكون الناس كالفراش
المبثوث* وتكون الجبال كالعهن المنفوش ) {القارعة }.
حقاً إن مرحلة الانكماش قيامة صغرى قبل الانسحاق العظيم ، ولن تبقى
حياة على وجه الأرض، بل سيقول الإنسان يومئذ أين المفر، كما ورد في قول الله تعالى
: (فإذا بر البصر * وخسف
القمر * وجمع الشمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر *
إلى ربك يومئذ المستقر ) { القيامة }.
ولن يحدث استقرار للحياة في يوم تمور السماء فيه موراً، وترجف الأرض
والجبال
وتخرج الأرض كل الاثقال إخراجاً، في زلزال عملاق لا يمكن تصوره، كما
أشار الله إلى هذا وذلك بقوله تعالى : (إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها
). (وإذا الأرض مدت * وألقت ما فيها وتخلت ) { الانشقاق}.
حقاً، إنها تغيرات كونية هائلة ستبرز عند انكماش الكون مؤدياً إلى
نهاية الزمان والمكان، وينفرط بذلك العقد وينتشر الهول والفزع، وعلينا أن نؤمن
بالآخرة لأنها ضرورة حتمية وفيزيائية لهذا الكون، بل وضرورة نفسية راسخة في الضمير
البشري، طمعاً في الثواب والحياة الخالدة في العالم الآخر.
وقد تسألني : لماذا الدنيا دار الفناء والآخرة دار خلود؟ وإليك
الجواب: إن البداية والنهاية في الدنيا قائمة لأجل محدود مسمى عند الله، يعلمه
سبحانه، والنهاية حتمية علمياً وقرآنياً، لأن هذا الوجود محدود بالمكان والزمان،
ولقد علمنا كيف أن الانحلال الإشعاعي الذري والقانون الثاني للديناميكا الحرارية،
وغير ذلك من ظواهر، تؤكد كلها أن للكون نهاية.. أما وجود زمن آخر يسميه البعض( زمن
العرش) قبل بدء " الانفجار العظيم" من جهة، وزمن آخر موصوف بالدوام في الآخرة
من جهة ثانية، فهذا موضوع آخر، لأنهما زمانان خالدان لا تسري عليهما قوانين
الفيزياء.. وليس أمامنا سوى القرآن الكريم نرجع إليه لبيان الغيب الزمني ...
المعروف بالخلود، سواء قبل البداية أو بعد النهاية.
يصف الله تعالى العرش بلا بداية ولا نهاية محيطاً بالمكان والزمان،
بمثل قوله تعالى : (... وسع كرسيه السماوات والأرض .. ) { البقرة}.
بل ويصف النبي صلى الله عليه وسلم كرسي العرش في الحديث الصحيح،
مبيناً نسبة حجم الكون إلى حجم العرش كالصفر إلى (ما لا نهاية ) بقوله: (ما السماوات السبع وما
فيهن، والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن، في الكرسي، إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة).
وقول الرسول الكريم عما قبل بداية الكون:( كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء)، وقول الله سبحانه:( وهو الذي خلق السماوات
والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ){ هود} .
فالآية والحديث هنا لا يعطيان زمناً لوجود العرش على الماء قبل خلق
الكون، لأن الفعل (كان) هذا يأتي بمعنى الكينونة مؤكداً الأزلية والدوام، وليس
معنى الفعل الماضي، بل كان ومازال وسيظل، أي وهو دائماً كذلك، كما في وصف الله
تعالى الفعل لنفسه في قوله سبحانه: ( وكان الله بكل شيء محيطاً) (وكان الله بكل شيء
عليماً) أي وهو عز وجل
دائماً كذلك.. فإذا قال سبحانه (وكان عرشه على الماء) فإن العرش دائماً على الماء قبل وأثناء وبعد الكون، وهذا معناه
والله أعلم ـ دوام السيطرة المطلقة على خلق الحياة من الماء. وقد يكون المقصود ـ والله
أعلم ـ أن كثافة الكون وصلت إلى كثافة الماء في الدقائق الثلاث الأولى بأنوية
مستقرة من الأيدروجين والهليوم بنسبة ظلت ثابتة!
وعلى كل حال .. فالعرش ـ
في رأيي ـ ليس الكون، وليس كرسياً مجسداً ـ كما يتخيل البعض ـ محدوداً بالمكان
والزمان، بل مفهوم معنوي يمثل مطلق القدرة والسيطرة والتحكم الإلهي في مقدرات هذا
الكون، كما في قوله تعالى : (ثم استوى على العرش)، (وسع كرسيه السماوات والأرض)، بل إن كل شيء يتم خلقه في الأرض بعد نهاية
هذا الكون سوف يقع أيضاً في رحاب عرشه، كما في قوله تعالى في وصف يوم القيامة :(وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ
حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ
بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ){الزمر}.فالعرش موجود قبل هذا
الكون وبعده، ولا يصح إخضاع العرش لزمن معين، لأن الله محيط بالمكان والزمان.
ولقد أخضع الله سبحانه وتعالى مخلوقاته للزمن، ولكنه سبحانه تنزه عن
جريان الأزمنة عليه، فكل شيء بالنسبة لعلمه قد حدث، فهو عالم الغيب والشهادة
الكبير المتعال.. والدليل على ذلك أنه سبحانه يصف أحداث المستقبل (كيوم القيامة)
بالفعل الماضي، لأنها جميعاً في علمه، كما في قوله سبحانه : (أتى أمر الله فلا
تستعجلوه ){ النحل}، أي لا تستعجل يا ابن آدم ما قد حدث في علم الله.
فالأمر بالنسبة إلى الله معلوم ومحدد بمكان وزمان، أما بالنسبة لك
فهو مجهول لأنه مستقبل.. بينما الله متعال فوق الزمان والمكان، ورغم هذا التعالي
إلا أنه بلطفه وعنايته موجود دائماً مع المخلوقات جميعاً على اختلاف وتفاوت
أنظمتهم الزمنية. والله أعلم بهم جميعاً، يستجيب لهم، ولا يشغله شأن عن شأنه،
ولذلك يجيب سبحانه الكل في نفس الوقت، كما يظهر في قوله تعالى : ( يسأله من في السماوات
والأرض كل يوم هو في شأن ) { الرحمن}.
فسبحان من لا يشغله آن عن
آن، ولا شأن عن شأن، وسبحانه القاهر على الزمن، فهو القابض للزمن بسلطان ولا يتقيد
بنظام حركي أو مكاني، وهو المسيطر على المكان والزمان، وهو الحي القيوم: (اللّهُ لاَ إِلَـهَ
إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.){سورة البقرة}.
حقاً إن الخالق يختلف في صفاته عن المخلوق، فالله عالم الغيب
والشهادة، وهو سبحانه خالد سرمدي، ومحيط بالمكان والزمان، وهو الأول بلا بداية
والآخر بلا نهاية، والظاهر والباطن.. ولا يصح أبداً أن نخضعه وعرشه للمكان أو
الزمان.
إن الماضي والحاضر والمستقبل أزمنة تنشأ كحلقات متصلة لهذا الكون
الذي نعيش فيه، أي أزمنة تنشأ في تصورنا مع الحركة والانتقال الذي يملأ حياتنا نحن
أهل الفناء.. أي أزمنة تنشأ مع الجريان والسباحة في أفلاك هذا الكون.. ولا تجوز في
حق الخالق حركة أو ميلاد أو وفاة، فهو سبحانه الحي القيوم مطلق الكمال لا تأخذه
سنة ولا نوم، وكل شيء هالك إلا وجهه، وهو حي لا يموت، ولا بقاء على الدوام إلا لمن
له الدوام، وطبقاً لهذا المفهوم الإسلامي، فلن يوجد أي شيء يشارك الله تعالى في
أبديته.
وقد يتساءل البعض :هل زمن الآخرة، الذي سيبدأ بحلول يوم القيامة، أبدي ودائم، وبهذا
يشارك الناس ـ في الآخرة ـ الله في أبديته ؟ والجواب هو : إن زمن الآخرة غيبي لا نعرف مداه ولا
وسيلة لقياسه بعد أن تبدلت الأرض والسماوات وأن خلود الجنة أو النار غير مشارك لله
في أبديته، لأن خلود الآخرة مرهون بإدارة الله ومشيئته، وحادث بإحداث الله، وأن
مدته متجددة ومحاطة بعلمه سبحانه، كما هو واضح في قوله تعالى : ( .. خالدين فيها ما دامت
السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) { هود}.
فهل أعددت أخي الكريم نفسك لهذا الخلود المتجدد غير المنقطع في جنات
الله ورضوانه؟.
وفيما يلي أقدم هذه المفاهيم الإيمانية لحكمة الزمن وقيمته في
الإسلام.
يؤكد القرآن الكريم التسبيح والذكر واغتنام الزمن وعدم تضييع العمر
والتحذير من الغفلة، لأن العمر برهة والموت يأتي فجأة، وهناك فرق كبير بين من يموت
والقلوب عليه حزينة والأعين عليه باكية والألسنة معطرة عليه بالثناء الطيب، وبين
من يموت ولا يحزن لفراقه قلب ولا يترحم عليه لسان ولا تبكي عليه عين.. ولقد جعل
الله الليل والنهار يتعاقبان على حياة الناس لحكمة، كما في قوله تعالى: ( وهو الذي جعل الليل
والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكوراً ) { الفرقان}، وقوله سبحانه : (الذي خلق الموت والحياة
ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور ) {الملك } .. هذه هي الحكمة من عمرنا لفترة
زمنية محددة، ما مضي منها لا يعود ولا يعوض وهيهات هيهات فقد مضى العمر ولا رجعة
فيه، كما يقول الحسن البصري، رحمه الله: ( ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي : يا ابن آدم أنا
خلق جديد وعلى علك شهيد، فتزود مني فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة ) .
ويحذر الله من عذاب الآخرة ويحببنا في نعيمها بهدف توجيهنا لاستثمار
أعمارنا لما فيه خير الإنسان والبشرية.
وللأسف فإن أكثر الناس عن هذا غافلون بينما يصف الله أهل التقوى : (آخذين ما آتاهم ربهم إنهم
كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ) { الذاريات}.
ويقول الله سبحانه ( فسبحان الله حين تمسون
وحين تصبحون * وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون) { الروم}.
إن المسبحين والمستغفرين يستطيعون ـ إذا تطهرت نفوسهم ـ أن يرتفعوا
إلى منزلة أعلى فيعيشون في تسرمد روحي مع الواحد القهار، وذلك بالخروج تماماً من
هموم الدنيا ورغباتها وأبعادها وترك العالم الدنيوي المادي إلى عالم الروح لينعم
المسبح والمستغفر برائحة الجنة رغم أنه مازال حياً على الأرض... وعلينا، أيضاً أن
نفكر من الآن في حساب الآخرة.
ولنتذكر هنا حديث الرسول صلى الله عليه عليه وسلم قبل أن نفاجأ بيوم
تنتهي فيه المعذرة ولا تنفع فيه تذكرة : (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع
خصال: عمره فيم أفناه وشبابه فيم أبلاه، وماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه، وعلمه
ماذا عمل به) رواه الطبري عن
معاذ بن جبل بإسناد صحيح.
وقوله صلى الله عليه وسلم : (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل
سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك).
ولنتذكر قول الله تعالى في القَسم بالزمن (العصر): (والعصر * إن الإنسان لفي
خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصلوا بالصبر) {سورة العصر}،
فعلينا أن ندعوا كما دعا الخليفة أبو بكر رضي الله عنه : (اللهم لا تدعنا في غمرة،
ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين). ولنتذكر أيضاً دعاء الخليفة عمر بن الخطاب رضي
الله عنه :( اللهم أرزقنا البركة في
الأوقات وإصلاح الساعات).
وعن الإمام الشافعي رضي الله عنه قال :( الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، ونفسك إن لم
تشغلها بالخير شغلتك بالشر).
تطور الكون وعمره
ترتيب خلق السماوات والأرض:
يؤكد القرآن الكريم أن السماوات والأرض كانتا ملتحمتين في رتق واحد،
وتم فصلهما في عملية فتق أو انفجار، ويتفق هذا مع حقيقة (الانفجار العظيم) التي
أثبتها العلم كما ذكرنا سابقاً، مصداقاً لقوله تعالى:( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا
رتقاً ففتقناهما) { الأنبياء}.
ومن معطيات العلم الحديث أن الكون بدأ منذ حوالي (13) مليار سنة
بانفجار عظيم (Big Bang)، وكان الكون كله متجانساً مكوناً من خليط ساخن من
الجسيمات والجسيمات المضادة، كالإلكترونات والبوزيترونات حتى تكونت نوى الإيدروجين
والهليوم بعد ثلاث دقائق من الانفجار الذي أدى إلى استمرار الاندفاع للمادة وتمدد
الكون.
وكان الظلام حالكاً وشاملاً في البداية، وكانت الفوتونات(جسيمات
الضوء) تتصادم بشدة مع الجسيمات النووية لتصل إلى أتزان حراري في درجة حرارة تقدر
ببلايين الدرجات، وإشعاع غير مرئي، حينما كانت الطاقة هي المكون الأعظم لفترة
امتدت إلى عدة مئات من آلاف السنين، وكانت المادة خلال هذه الفترة لا تلعب دوراً هاماً
لأنها كانت المكون وانلقب الوضع، وأصبحت المادة هي المكون الأعظم للكون، أي أصبحت
السماء دخاناً متجانساً مستمراً في التمدد والبرودة حتى وصلت درجة الحرارة إلى
الحد الذي يسمح بتكوين ذرات ثابتة من النويات والإلكترونات الحرة بعد حوالي (700)
ألف سنة من بدء الانفجار العظيم، وأصبح الكون بذلك شفافاً للإشعاعات وليس معتماً،
وظل هذا الدخان سائداً ومحتوياً على ذرات عناصر الأرض والسماء معاً دون تفرقة، أي
رتقاً واحداً كطبخ كوني تم تحضير كل المواد الخام للكون فيه، وصدق الله العظيم
بقوله سبحانه :( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن
سبع سماوات وهو بكل شيء عليم) { البقرة}.
ويقول المفسرون إن لفظ(خلق) في هذه الآية بمعنى (قدر)، وليس بمعنى
(أوجد)، أي أن كوكب الأرض لم يكن قد تم تشكيله بعد، ولكن ذراته كانت جاهزة في
الدخان الكوني الذي كان سائداً في هذه الفترة الأولى من الخلق بعد الانفجار
العظيم، دون تميز بين السماوات والأرض لأنهما كانتا في رتق واحد وسماء واحدة تشمل
الكون كله، كما ذكرنا في الوصف العلمي.
وبعد تجهيز الذرات الخام لمواد السماوات والأرض معاً في الدخان
الكوني المذكور استوى الله سبحانه إلى السماء الدخانية، أي قصد إليها دون غيرها
لتسويتها لتصبح دون تفاوت أو فطور، تسوية غاية في التناسب والدقة والإحكام.
والآية هنا لا تفيد ـ كما ذكرنا ـ خلق كوكب الأرض أولاً قبل السماء،
لأن هذا النص القرآني يؤكد أن الله سبحانه وتعالى خلق للناس جميع ما في الأرض
أولاً، ثم استوى إلى السماء وقد كانت عندئذ دخاناً محتوياً على ذرات الأرضين
جميعاً، مع ملاحظة لفظ (جميعاً) في الآية السابقة ولفظ (الدخان) في الآية التالية.
والأرض في الآية (11) من سورة فصلت معرفة ب (ال)، للعهد والجنس معاً،
أي لأرضنا والأرضين الأخرى، أي قصد الله تعالى إلى السماء دون غيرها وهي في
حالة دخانية وتعلقت إرادته تعالى تعلقاً فعلياً بإيجاد السماوات والأرض فلم يمتنعا
عليه، وأوجدهما سبحانه كما أراد سبع سماوات (ومعهن سبع أرضين، طبقاً لسورة الطارق ـ الآية 12) في يومين تشكل خلالها من
هذا الدخان النجوم والكواكب، بما فيها الأرضين والأقمار في هذه السماوات، كما في
قوله تعالى مشيراً إلى تعدد الشموس والأقمار: ( ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً *
وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً) {نوح}.
وبهذا نستنتج أنه في هذه المرحلة الدخانية قد تم تشكيل السماوات
بجميع أجرامها ونيرانها من نجوم (شموس) وكواكب وأرضين وأقمار، على هيئة سدم، وبذلك
فإن الأرض لم يتم تصلب قشرتها أو دحوها إلا بعد انتهاء هذه المرحلة، وبدء مرحلة
جديدة وأخيرة تدعى (تدبير الأرض) أو كما أسميها (العمر الجيولوجي للأرض)، والتي
يشير إليها القرآن الكريم في سورة النازعات بعد تمام خلق السماوات وأجرامها بقول
الله تعالى :( أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها* رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها
وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها *
متاعاً لكم ولأنعامكم ) { النازعات}.
وفي هذا النص يتضح لنا الترتيب الصحيح، أي أن السماء تم تشكيلها
(أولاً) قبل التشكيل الجيولوجي لكوكب الأرض، كما يتضح من قوله تعالى: ( والأرض بعد ذلك دحاها).
وفيما يلي التفسير العلمي والديني لهذه الآيات (النازعات /27ـ 33)
على ضوء ما وصل إليه العلم نظرية الانفجار العظيم. يتجه المعنى العام لهذه الآيات
بعتاب الكافرين منكري البعث بسؤال هام: هل أنتم يا كفار مكة أعظم خلقاً من السماء
التي بناها الله؟ مبيناً بذلك أن خلق السماء أعظم، كما في قوله سبحانه : (أوليس الذي خلق السماوات
والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ){سورة يس}، وقوله عز من قائل : (لخلق السماوات والأرض
أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ){غافر}.
والمعنى ( في سورة النازعات: 27) : أخلقكم بعد الموت أشد أم خلق
السماء ؟ ثم قوله تعالى:( أم السماء بناها) يحتوي على لفظ البناء الذي سبق شرحه علمياً بقوة الجذب العام،
وأما قوله تعالى: (رفع سمكها) أي جعل قامتها عظيمة الارتفاع، فهذه إشارة إلى
المسافات الفلكية للسماوات التي تقدر بالبلايين من السنين الضوئية نتيجة تمدد
الكون بعد الانفجار العظيم، والدليل على ذلك رصد آثار الدخان الكوني( حديثاً بالقمر الصناعي
كوب عام 1993) وذلك بالتصوير
الإشعاعي لدخان يبعد عنا 10 بلايين سنة ضوئية
وغير ذلك من رصد بلايين السنين الضوئية، وتستطرد الآيات بقوله تعالى: ( وأغطش ليلها وأخرج
ضحاها)، أي جعلها حالكة
السواد وأخرج ضيائها من وسط هذا الظلام الحالك، ولقد فات المفسرين مغزى الضمير في
(ليلها)، الذي يعود على السماء، واعتبروه ليل الأرض، ولو التزموا النص ودلالته
لاهتدوا إلى حقيقة علمية تدعى (ظلام الفضاء الكوني) التي لم يتحقق منها الإنسان إلا بعد صعوده في الفضاء واكتشافه
حلكة سماء الفضاء رغم انبعاث الضوء من الشمس والنجوم، وإنما ذلك لانعدام الغلاف
الجوي (الذي يقوم ببعثرة، أو تشتيت، الضوء، وإظهاره نوراً في المنطقة القريبة من
سطح الأرض).
كما أن الكون كله كان حالك السواد قبل ميلاد النجوم وسط دخان السماء،
وهنا ندرك روعة وصف ظلام السماء باللفظ القرآني المعبر : (أغطش) .
وبعد أن أتم الله بناء السماء رفع سمكها وأخرج ضحاها وسط الظلام
الدامس، ثم أمر الله سبحانه بدحو الأرض، كما في التعبير القرآني: (والأرض بعد ذلك دحاها)، والدحو معناه قذف
الشيء من مقره، بالإضافة إلى معاني لغوية أخرى منها: المد والبسط، بمعنى قذف الشيء
من مقره وإعطائها شكل الدحية (البيضة ) بعد أن برد سطحها وتجمد، بما يفيد بداية
التشكيل الجيولوجي للأرض.
والجدير بالذكر أن قوله تعالى : ( والسماء وما بناها* والأرض وما طحاها) { الشمس}، يعطي معنى الطحو،
أي : القذف من المقر، أي : فصل الأرض عن السماء، في عملية فتق جديدة بعد الإنفجار
العظيم، وبهذا، فإن الطحو هو أحد معاني الدحو.
ونعود إلى سورة النازعات، حيث تستطرد الآيات في وصف تدبير الأرض
بقوله تعالى : (أخرج منها ماءها)، وفي هذا إعجاز علمي لم يكتشف إلا حديثاً عندما
تأكد العلماء من أن جميع ماء الأرض خرج من باطنها وليس من السماء (2)، وأما قول الله تعالى : (والجبال أرساها) فيفيد إرساء الجبال في
ثورات جيولوجية متعاقبة كان آخرها إرساء جبال الألب والهيمالايا منذ 40 مليون سنة،
وكل هذا يوفر متاعاً للإنسان وللأنعام المسخر له ..
المهم هنا أن التشكيل الجيولوجي لكوكب الأرض حدث بعد تمام بناء السماء وأجرامها من
مجرات ونجوم، وهذا يعطينا مفتاحاً لفهم تطور نشأة الكون وتفسير للأيام الستة للخلق
وحساب عمر الكون، بعد أن أدركنا الترتيب الذي نورده الآن نم الإشارات القرآنية
السابقة الذكر.
أ) بدأ الكون بانفجار عظيم يدعى (بيج بنج )،ثم طبخ جميع الذرات بما
فيها ذرات الأرضيين والسماوات كلها في الدخان الكوني الذي كان منتشراً لفترة طويلة
مظلمة قبل بزوغ النجوم. وهذه هي مرحلة إعداد المواد الخام كمرحلة أولى.
ب) بدأ تشكيل السموات والأرضين السبع كأجرام سماوية من الدخان والظلام
الدامس على هيئة نجوم وكواكب وأقمار في مرحلة سديمية جديدة بدأ فيها توليد الطاقة
في الأفران النووية للنجوم وخروج الضوء منها وسط ظلام الفضاء الكوني بحيث أصبحت
هذه المصابيح زينة للسماء في هذه المرحلة الثانية.
ت) بدأ تصلب (دحو) القشرة الأرضية بعد طحوها، أي بعد قذفها كسديم مستقل
من مقرها الدخاني في السماء، كمرحلة ثالثة وأخيرة، بدت فيها الأرض في حالة منصهرة
لينة كالعجين، ساعد على تشكيلها على هيئتها الكروية القريبة من شكل الدحية
(البيضة)، وبمجرد بدء تجمد تجمد، أي تصلب قشرتها، بدأ بذلك العمر الجيولوجي لكوكب
الأرض، كما نقيسه الآن بحوالي 45000 مليون سنة ( باستخدام ظاهرة الانحلال الإشعاعي
لليورانيوم الموجود في صخور الأرض)، وهذا العمر الجيولوجي الذي يعبر عنه الله عز
وجل دائماً بمد الأرض وإرساء الجبال في ثلاث ثورات جيولوجية متعاقبة بدأت بعد تمام
بناء السماء وتزينها في وصف مرحلي واضح، على الترتيب، في قوله تعالى:
(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي
السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ {16}وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ
شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ {17} إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ
مُّبِينٌ {18} وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ
وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ {19} وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا
مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ {20} وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا
خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ {21} وَأَرْسَلْنَا
الرِّيَاحَ){الحجر}.
1) وقوله سبحانه : (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ
بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ {6} وَالْأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {7} تَبْصِرَةً
وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ){سورة ق}.
2) وقوله عز وجل:( اللّهُ الَّذِي
رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ
الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ {2} وَهُوَ
الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ
الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ){الرعد}.
المهم هنا أن التغيرات الجيولوجية، مثل مد الأرض وإلقاء الرواسي
وإخراج الماء والمرعى، حدثت كلها بعد تمام بناء السماء وتسخير الشمس والقمر
والنجوم، فإن كوكب الأرض تم مده، أي تشكيله، بعد تمام بناء السموات السبع، ورغم
هذا التأكيد القرآني المتكرر لهذا الترتيب العلمي والمنطقي، فقد وردت الأرض
أحياناً قبل السماء في آيات قرآنية قليلة، كما في قوله تعالى : ( هو الذي خلق لكم ما في
الأرض جميعاً ثم أستوى إلى السماء فسواهن سع سماوات وهو بكل شيء عليم ){ البقرة}.
ولقد فسر الإمام الرازي (وغيره) لفظ (خلق) هنا بمعنى التقدير دون
الإيجاد، وأنا من ناحيتي أقبل هذا الرأي، الذي يعني أن الله سبحانه وتعالى خلق
أولاً جميع ما في الأرض من الذرات التي أراد تسخيرها للإنسان فيما بعد،
وكانت هذه الذرات رتقاً واحداً مع ذرات السماء التي كانت دخاناً كونياً هائلاً في
هذه المرحلة، ثم قصد الله سبحانه وتعالى إلى السماء دون غيرها، فسواها سبع سماوات
وسبع أراضين، أي لكل سماء أرضها كما في سمائنا الدنيا وأرضها التي استخلفنا
الله فيها، وهو سبحانه بكل شيء عليم، وكانت السماوات السبع بعضها فوق بعض (طباقاً)
كما في آيات أخر، والمقصود بالتسوية تكوين السماوات تكويناً محكماً متناسباً دون
تفاوت أو فطور، مع ملاحظة أن لفظ (ثم) هنا يفيد الترتيب بعد المرحلة الدخانية التي
أحتوت جميع ذرات الأرض والسماء.
وبهذا، فمن الواضح قرآنيا أن كوكب الأرض لم يتم تصلب قشرته بإيجاده
على هيئته المستقلة إلا بعد أن تم بناء السماوات وتسويتها، وهذا أمر بالغ الأهمية
علمياً لتفسير آيات أخر {مثل فصلت : 9ـ12} التي فصلت الأيام الستة للخلق بثلاث
مراحل متساوية زمنية، استغرق كل منها يومين كاملين من أيام الخلق ليصبح المجموع
ستة أيام.
أيام الخلق الستة:
يقول الله عز وجل :( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) {السجدة}، وقوله عز وجل ( إن ربكم الله الذي
خلق السماوات والأرض في ستة ) {الأعراف}.
تنص هذه الآيات على أن الله أتم خلقه، أي أنهى تقدير وإيجاد هذا
الكون (السماوات والأرض وما بينهما) في زمن قدره ستة أيام التي اتفق جمهور
المفسرين على أنها ستة أزمنة متساوية لا يعلم حقيقة مقدارها إلا الله سبحانه
وتعالى، وخاصة أن هذه الأيام لم توصف بقوله تعالى : ( مما تعدون) كما في آيات أخر،
ولهذا اعتبرها أبو السعود ست نوبات، أي ست وقائع وحوادث كونية، في ستة أزمنة لا
يعلمها سواه سبحانه.
ولسوف أثبت ـ فيما يلي ـ صحة هذا الرأي علمياً وقرآنياً:
أيام الخلق الستة ليست كأيام الأسبوع، كما تخيلها بعض المفسرين، من
يوم السبت إلى الجمعة، وذلك بعد أن تسربت إليهم بعض الإسرائيليات التي جاء معظمها
ـ للأسف ـ مسنداً ظلماً وافتراء إلى بعض الصحابة والتابعين، بل جاء بعضها مرفوعاً
إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الذي تعجبت أنا شخصياً عند سماعه،
لأنه مشابه للرواية الكهنوتية لخلق الكون، بالرغم من أنه ورد في (رياض الصالحين)،
ورواه مسلم عن أبي قال : (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم
السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم
الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبعث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه
السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين
العصر إلى الليل).
وبالنظر إلى هذا الحديث يتضح وصف الأيام الستة بأيام الأسبوع، كما في
العهدين (القديم والجديد)، بينما لم يذكر القرآن مطلقاً أن هذه الأيام مما نعد نحن
البشر.
أو أنها من أيام الأسبوع بمعنى اليوم على كوكب الأرض. هذا من جهة،
كما أن الحديث النبوي هنا يقتصر على خلق الأرض دون ذكر السماوات من جهة أخرى،
علاوة على وضوح خلق النور يوم الأربعاء إذ كيف ينمو النبات في غياب الضوء،
بالإضافة إلى تخصيص يوم لخلق المكروه، حتى تصل أيام الخلق سبعة.
وهذا الحديث يتعارض مع النص القرآني، فهل من المعقول أننا نأخذ
بأقوال المفسرين المملوء بالإسرائيليات، علماً بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان لا ينطق عن الهوى، فلا يجوز إذن أن ننسب إليه صلى الله عليه وسلم أية خرافة
وردت بكتابات البشر في (الإنجيل والتوراة) بنفس الأسلوب. فلقد قام اليهود بوضع
تصورهم لإظهار خلق الكون وتوزيعها على أيام الأسبوع قبل أن يكون لهذه الأيام وجود،
وزعموا أيضاً أن الخالق سبحانه وتعالى استراح في اليوم السابع، كما يلي في
الترتيب، طبقاً لروايات كتبهم (كما في العهدين القديم والحديث):
الأحد : خلق الله النور والليل والنهار. الاثنين : خلق الله السماء
والماء.
الثلاثاء : خلق الله الأرض والنبات . الأربعاء: خلق الله الشمس
والقمر والنجوم والكواكب. الخميس : خلق الله الأسماك وطيور البحر والطيور المجنحة.
الجمعة : خلق الله الماشية والزواحف والوحوش، وأخيراً الإنسان .
السبت أنهى الله عملية الخلق بالخلود إلى الراحة بعد التعب.
ولقد رد الله عز وجل في القرآن الكريم على هذه الأكذوبة (التي تقول
أن يوم السبت استراح فيه الله ) ليبين لأهل الكتاب أنه سبحانه مطلق الكمال لا تأخذ
سنة ولا نوم ولا يمسه لغوب، أي تعب أو إجهاد، كما في قوله تعالى : ( ولقد خلقنا السموات
والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ) {ق}.
كما أن وصف خلق الكون بأيام الأسبوع هنا في رواية التوراة (مشابه
للحديث المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ) ويحتوي أيضاً على أخطاء علمية
لخصها الدكتور موريس بوكاي في كتابه المشهور ، كما يلي : أ ـ ظهور النور في اليوم الأول
بينما لم تخلق الشمس إلا في اليوم الرابع.
ب ـ ظهور النباتات في اليوم الثالث قبل خلق الشمس في اليوم الرابع.
ج ـ خلق الشمس والقمر في اليوم الرابع بعد خلق الأرض في اليوم
الثالث.
د ـ ظهور الزواحف في اليوم السادس بعد ظهور الطيور في اليوم الخامس.
والمهم هنا هو التأكيد على خطأ هذه الروايات التي تصف أيام الخلق الستة بنفس
المفهوم الزمني لأيام الأرض، بإشراقتين متتاليتين، أو زمن دورة الأرض حول نفسها،
مما يتعارض مع ما كشفه العلم الحديث عن عمر الكون ومراحله التي تقدر ببلايين
السنين، كما سنعرف فيما بعد.
وكلمة (اليوم) تأتي في القرآن الكريم بمعاني مختلفة ، كما يلي :
أ ) يوم أرضي كأيام الأسبوع، أي مما نعد نحن البشر بزمن دورة الأرض
حول نفسها (24ساعة)، وفي هذه الحالة يأتي اليوم موصوفاً بقوله تعالى : ( مما تعدون
) كما في آيتي السجدة (5) والحج (47) :
(يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف
سنة مما تعدون){ السجدة}، ( وإن يوماً عند ربك كألف
سنة مما تعدون ){ الحجر}. وهاتان الآيتان تشيران إلى سرعة الضوء.
ب ) يوم أرضي إذا سمى بأحد أيام الأسبوع، كما في قوله تعالى : (... إذا نودي للصلاة من
يوم الجمعة .. ) {سورة الجمعة}.
ج) اليوم بمعنى النهار فقط، كما في قوله تعالى : ( سخرها عليهم سبع ليالي
وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية) { الحاقة}.
د) اليوم بمعنى طور أو مرحلة زمنية أو عصر من عصور الخلق، كما في
أيام الخلق الستة في الآيات القرآنية التي ذكرناها، والتي هي موضوعنا الحالي .
والآن وبعد أن كفر الغرب بدينه، نظراً لتعارضه مع العلم، وخاصة في
وصف الأيام الستة للخلق لا يجوز أن ننسب إلى المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم
الحديث المذكور حول عملية الخلق في سبعة أيام من أيام الأسبوع بأسلوب غير علمي
وغير منطقي، ويجب أن نعيد النظر في صحة هذا الحديث الذي رواه مسلم، أي نوليه عناية
كبيرة من حيث دراسته رواية ودراية.. ولنحتكم إلى القرآن الكريم في بيان وتفصيل هذه
الأيام الستة، كما وردت في سورة فصلت، وهذا التفصيل سوف يساعدنا في حساب عمر
الكون، كما سنوضح فيما يلي.
حساب عمر الكون قرآنياً
يقول الله تعالى : ( قُلْ أَئِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن
فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ {10} ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ
دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا
أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى
فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ){فصلت}.
تضع هذه الآيات تفصيلاً للأيام الستة للخق، وهو تفصيل يتيح لنا حساب
عمر الكون، من لحظة بداية الانفجار العظيم حتى وصول الإنسان، كما سنوضح فيما بعد.
ولقد قسمت الآيات في سورة فصلت (9ـ 12) مراحل خلق الكون إلى ثلاث مراحل، هي ـ على
الترتيب ـ من سياق الآيات: يومان لخلق الأرض، وأربعة أيام لتدبيرها جيولوجياً،
ويومان آخران لتسوية وقضاء السموات. فيصبح المجموع ثمانية أيام، ولكن هذا
المجموع يتعارض مع ما نعلم من النصوص القرآنية الأخرى، التي تؤكد خلق الكون
وتدبيره في ستة أيام فقط ؟ وهذا تعارض ظاهري وليس حقيقياً، ولقد أعتبره بعض
المستشرقين خطأ ـ لا سمح الله ـ في القرآن.
وللرد على هذا الافتراء، فإن الأيام الأربعة المذكورة (فصلت : 10)
بعد يومي خلق الأرض (فصلت : 9) تشمل هذين اليومين المذكورين في البداية، لأن
الحديث عن الأرض لم يتوقف في الآيتين .
ولقد أجمع المفسرون على أن لفظ (خلق) في الآية الأولى : (فصلت : 9)
بمعنى التقدير (دون الإيجاد) الذي استغرق يومين، بينما استغرق تشكيل الأرض
جيولوجياً يومين آخرين، ليصبح مجموع خلق وتدبير كوكب الأرض أربعة أيام متساوية،
كما في الآية الثانية (فصلت : 10).
وبهذا يمكننا تفسير المراحل الثلاثة المتساوية الواردة في سورة
فصلت، كما يلي (3):
أ . يومان لخلق جميع عناصر الأرض في الدخان الكوني،كما في (فصلت: 9) وأيضاً
بالمعنى الوارد في (البقرة : 29).
ب . يومان لتسوية السماوات السبع وأجرامها(المجرات) من هذا الدخان كما في (فصلت : 11) والتي
تبدأ بلفظ (ثم) الذي يفيد الترتيب بعد المرحلة السابقة.
ج . يومان أخيران لتشكيل الأرض جيولوجياً ابتداء من تصلب قشرتها(بعد قذفها من مقرها في
السماء) وإلقاء رواسيها من فوقها وإخراج الماء والمرعى، كأساس البركة فيها، وتقدير
الأقوات للسائلين، وحتى وصول الإنسان كخليفة الله في الأرض. مع ملاحظة أن هذين
اليومين الأخيرين مع اليومين الأولين يغطيان الأيام الأربعة المذكورة (فصلت :10)
التي شملت طبخ الذرات في الدخان، ثم التشكيل الجيولوجي لكوكب الأرض ونشأة الحياة
عليها حتى وصول الإنسان.
وبذلك يصبح المجموع ستة أيام(للمراحل الثلاثة المتساوية)، وليس
ثمانية أيام، كما يعتقد بعضا الذين لم يستوعبوا معنى هذه الآيات (فصلت: 9ـ 12).
إذ لا تعارض في القرآن مطلقاً، ولكن القرآن يفسر بعضه بعضاً.
كما أن هذا التقسيم سوف يتيح لنا حساب عمر الكون إذا ما عرفنا
قيمة اليومين الممثلين للعمر الجيولوجي للأرض كما أعتقد، لأن هذا العمر الجيولوجي
يمثل طبقاً للنص القرآني (والتقسيم السابق للمراحل الثلاث) ثلث عمر الكون، أي ثلث
الستة أيام الرمزية لخلق السماوات والأرض في جميع الآيات القرآنية التي تعالج هذه
القضية.
ولقد اتفق المفسرون جميعاً على فهم قوله تعالى: ( وجعل فيها رواسي من
فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) {فصلت}.
يعني أربعة أيام شاملة ليومي الخلق (للسديم الدخاني الشامل لكل ذرات
السماوات والأرض) ومتممة لهما، وبهذا يصبح التدبير الجيولوجي للأرض معادلاً ليومين
فقط كان ترتيبهما بعد تمام بناء السماء كما ذكرنا في البند السابق.
وبهذا فإن المرحلة الثالثة بدأت بتصلب قشرة الأرض، بدليل قوله تعالى:
( من فوقها) ـ كما أتصور ـ إشارة لبدء العمر الجيولوجي للأرض حتى وصول الإنسان،
بدليل قوله تعالى " سواء للسائلين "، وهذه المرحلة تعادل يومين فقط من
الأيام الستة المشار إليها قرآنياً كعمر الكون، أي تعادل ثلث عمر الكون.
ومن وجهة نظري، فإنني أرى ـ والله أعلم بالحقيقة ـ أن العمر
الجيولوجي للأرضن هو المقدر علمياً وعملياً بزمن مقداره 4500 مليون سنة، يعادل ثلث
عمر الكون قرآنياً.
وهكذا فإننا نستنتج من آيات سورة فصلت أن :
عمر الكون = 4500× 3 = 13500 مليون سنة
=
13.5 مليار سنة
ويعد هذا تفسيراً علمياً جديداً للتفصيل الوارد في الآيات القرآنية
(فصلت : 9_12) والتي تعطي بذلك عمراً للكون مقداره 13.5مليار سنة.
وهذه القيمة يتردد ذكرها كثيراً في الأوساط العلمية، بدليل أن نموذج
أينشتين ودي سيتر يعطي للكون عمراً قدره 13.3 مليار سنة، كما أن معظم الدلائل
العلمية تشير الآن إلى أن عمر الكون يتراوح بين 12 إلى 15 مليار سنة، كأرقام
معروفة الآن لدى علماء الفيزياء الكونية.
كما أن سورة فصلت تؤكد لنا أن بناء السماء وتشكيلها بسبع سماوات (بما
فيها من أجرام) وقع في الثلث الثاني من عمر الكون. وبهذا فإن عمر السماوات أقل من
عمر الكون، وهذا ما تشير إليه التوقعات العلمية حالياً. ونحن في انتظار التقدير
العلمي النهائي لعمر الكون وعمر المجرات (السماوات)، وصدق الحق تبارك وتعالى إذ
يقول : (لكل نبأ مستقر وسوف
تعلمون ){ الأنعام}.
وبالرجوع إلى آيات سورة فصلت (9_12) لتفسيرها، فإننا نلاحظ أنها بدأت
بهمزة للاستفهام الإنكاري في : " أئنكم "، و (إن ) و(اللام) في "
لتكفرون " للتوكيد في خطاب الموجه هنا، بصفة عامة للكفار في كل عصر.
وأما لفظ (خلق) كما ذكرنا هنا ـ طبقاً لأقوال المفسرين ـ بمعنى
التقدير دون إيجاد كوكب الأرض، واليوم هنا بمعنى مرحلة زمنية وليس يومنا العادي،
بدليل عدم وصفه بالعبارة القرآنية(مما تعدون) الواردة في آيات أخرى.
والمعنى أن الله عز وجل خلق مكونات الأرض في يومين (4).
وقوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان )، أي تعلقت إرادته تعالى تعلقاً فعلياً بخلق
السماء وحدها، أي قصدها دون غيرها وهي في حالتنا الدخانية الأولى.
وقوله تعالى : (فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا طائعين)، المقصود به أنه
سبحانه أراد تكوين السماوات والأرضين في هذه المرحلة فخضعت ذراتها وجسيماتها لهذه
الإرادة الإلهية.
وللطوع والكراهية هنا ـ كما أعتقد ـ معنى علمياً ودقيقاً لأن
السماوات والأرضين في هذه المرحلة فخضعت ذراتها وجسيماتها لهذه الإرادة الإلهية
وللطوع والكراهية هنا ـ كما أعتقد ـ معنى علمياً ودقيقاً لأن السماوات والأرضين
قامت على طاعة خلق كل منها للآخر بالقوانين والنواميس الكونية التي وضعها الله في
الأمر الإلهي الخاص بالجاذبية العامة التي أدت إلى ارتباط كل منها بالآخر
والاستجابة المتبادلة والتوافق التام بينهما، كأعضاء الجسم الواحد، كما في قوله
تعالى : ( قالتا أتينا طائعين).
وأما (الكراهية) بين الأجرام السماوية فتعني علمياً عكس (الطاعة) في
الخلق، أي لا تستجيب السماوات للأرض ويستقل كل منهما عن الآخر ولا يكون بينهما
ملاءمة أو توافق، فتفسد الأمور الكونية، ويضطرب النظام السماوي وتصطدم الأجرام
بعضها بالبعض بسبب عدم التنسيق بينها، وهذا لم يحدث طبعاً بدليل قوله تعالى في وصف
السماوات والأرض: ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون
) { الأنبياء}.
وهكذا، فإن مفهوم المطاوعة من وجهة نظري، وهو التناسق والانسجام
والترابط والجاذبية التي تؤدي حالياً إلى دوران الصغير حول الكبير في طواف كوني
هائل شامل، وجريان كل الأجرام في مسارات منحنية محددة (دون تصادم) تعبيراً عن
السجود لله سبحانه، وتسخير من المولى عز وجل لهذه الأجرام لتتحقق بذلك مصالح
الحياة للناس على الأرض. ويؤيد معنى المطاوعة هذا قوله تعالى : ( يدبر الأمر من السماء
إلى الأرض..) {السجدة}، وقوله : ( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن
لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً){الطلاق}.
وهذا الآية تدل على أن الله خلق سبع أرضين بنفس عدد السموات، وبهذا
فإن لكل أرض ماء تعلوها، وبينهما دائماً ملاءمة ومطاوعة وأمر كوني إلهي، ممثل في
الجاذبية(الجاذبية العامة) التي تنشر أمواجها بسرعة الضوء ولا يعوقها عائق لتربط
بين مكونات هذا الكون.
والمهم هنا هو أن مرحلة بناء السماوات قد استغرقت يومين كاملين من
الأيام الستة، كما في قول الله سبحانه: (فقضاهن سبع سماوات في يومين )، والرقم سبعة هنا يعني
العدد المعروف لنا، وقد يأتي أيضاً بمعنى الكثرة دون تحديد، وقضاء الشيء هو إتمامه
والفراغ منه، أي تمام بناء السموات وجميع الأجرام(مجرات ونجوم وكواكب وأرضين
وأقمار).
في يومين كاملين، أي في الثلث الثاني من عمر الكون ـ كما أوضحنا
سابقاً.
وقوله تعالى : (وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاًَ ذلك
تقدير العزيز العليم)،بمعنى أنه أتم تشكيل السموات وأجرامها ودبر كل أمورها بما في ذلك
تزيين السماء الدنيا بالمصابيح، أي العالم الذي نشاهده بالعين المجردة والقريب
إلينا، فنراه مرصعاً بالنجوم(المصابيح) ومحفوظاً من أن يقع علينا أو يقع ما فيه
علينا، كما يتضح في قوله تعالى : ( وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون ){ الأنبياء}.
وأما قوله تعالى : (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة
أيام سواء للسائلين)فهو يبين أنه سبحانه بعد أن خلق المواد الخام للأرض في يومين، في
المرحلة الأولى، في بداية الآيات (فصلت: 9) فإن تعالى خلق الكواكب والأرضين
والأقمار والنجوم في يومين في المرحلة الثانية، ثم أتم التدبير الجيولوجي لكوكب
الأرض في يومين آخرين في المرحلة الثالثة، ليصبح مجموع مرحلتي خلق الأرض وتدبيرها
أربعة أيام ـ كما أوضحنا من قبل ـ عند اعتبار يومي التدبير ممثلين للعمر الجيولوجي
للأرض الذي نقيسه علمياً بفترة زمنية قدرها 4500 مليون سنة والتي تعادل بدورها
طبقاً لنص الآية ثلث عمر الكون كما ذكرنا من قبل. وفي بداية هذه المرحلة يقول الله
تعالى : (جعل فيها رواسي من فوقها)، أي جعل من فوق الأرض، أي من سطحها العلوي،
رواسي، أي أجساماً جامدة ثابتة فيها (كالجبال أو القشرة الأرضية الصلبة)، وبذلك
جمد الله سطح الأرض العلوي بعد أن كانت في المرحلة الثانية كتلة من اللهب متقد بعد
فتقها، أي انفصالها عن الشمس.
وهذا الاستنباط التفسيري ضروري لقوله سبحانه (من فوقها )، وإلا لصارت
عبارة (من فوقها ) لغواً ـ يتنزه كلام الله عنه .
ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى : (بارك فيها )، إذ لا بركة بلا ماء
ولا أنهار، وهكذا يتضح لنا أنه ليس في القرآن لفظ إلا لمغزى، أو كما قال فخر
الرازي: ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة.
وأرى أن تعبير (من فوقها) يدل على ما يلي :
أ ) الأرض أصبحت صلبة في قشرتها لتتحمل وجود الرواسي فوقها.
ت) الجبال الأولى سقطت على
هيئة نيازك من السماء (من فوق الأرض) والتي نزل معها الحديد، كما في قوله سبحانه:( .. وأنزل الحديد فيه
بأس شديد ومنافع للناس) {الحديد}.
ث) خلق الله النوع الناري من
الجبال بانقباض القشرة في بداية التدبير الجيولوجي.
ج) خلق الله النوع الثاني
الرسوبي من الجبال على شواطئ البحار مما يتبع خلق الأنهار وإحداث التغيرات التي
تمكنها من حمل ما ترسب على هذه الشواطئ البحرية، ولهذا أضاف الله عبارة (وبارك
فيها) . وهذا في نظري يدل على أخراج الماء والمرعى من هذه الأرض المباركة. وأما
قوله سبحانه ( وقدر فيها أقواتها) فإنه يشير إلى جعل مصادر الرزق متنوعة في سطح
الأرض توزيعاً حكيماً عادلاً لتوفير الأقوات التي يحتاج إليها سكان هذه الأرض.
ح) ولقد تم هذا التدبير
الجيولوجي في زمن قدره (4500) مليون سنة، هي مدى عمر كوكب الأرض، وقبل هبوط
الإنسان إلى الأرض وظهور ذرية آدم من السائلين عن عمر الأرض وبداية الخلق، والذين
يأمرهم الله بالسير في الأرض للتعرف على إجابة هذا السؤال الضخم.
المراجع
موسوعة الاعجاز العلمي
التصانيف
اعجاز علمي الثقافة