، ونقلت البلاد لأول مرة في تاريخها إلى النظام الجمهوري المؤسس على نظرية "ولاية الفقيه" الشيعية. استمرت أحداث الثورة الحاسمة قرابة 16 شهرا، وتجاوز عدد قتلاها ستين ألفا، وشكلت تحولا سياسيا إقليميا وحدثا تاريخيا وإستراتيجياً شغل ولا يزال العالم.
الأسباب المباشرة
:
1- العامل المجتمعي: كانت التغييرات الاقتصادية -التي اعتمدها نظام الشاه رضا بهلوي والمبنية على النهج الرأسمالي- وتأثيرها السلبي على الفئات الاجتماعية المختلفة، وقمع الجماعات السياسية وفقدان الحريات العامة، من أبرز العوامل التي مهدت للثورة الإيرانية.
وقد تجلى ذلك في تزاوج السلطة والثروة وتشابك مصالح رجال المال والسياسيين في هرم الدولة، وتفشي الفساد في مؤسسات الإدارة والاقتصاد، فقد اتهم الشاه بسرقة أكثر من 31 مليار دولار وكانت له ولأسرته مشاريع اقتصادية وبنوك خاصة، وأصبح فسادهم وإسرافهم وبذخهم الشديد مضربا للمثل في العالم.
هذا إضافة إلى تزايد حدة التضخم الاقتصادي وارتفاع درجة الفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مما شكل عاملا أساسيا في انفجار موجات الاحتجاج التي تجمعت بتوالي السنوات حتى انفجرت في أحداث ثورة عارمة متلاحقة.
2- العامل السياسي: الذي تجلى في تكريس سياسة الحزب الواحد (حزب الشاه الحاكم المسمى "راستاخيز" = البعث) الذي تأسس 1975، وكبت الحريات العامة، واتباع أساليب عنيفة في تصفية المعارضة جسديا ومعنويا عبر جهاز الأمن الإيراني "السافاك" الذي كان يثير الهلع والذعر في أوساط المجتمع.
3- العامل الديني: كان لرجال الدين الشيعة دور بارز ورائد في قيام الثورة الشعبية على النظام الإيراني بزعامة الشاه؛ فمنذ مطلع القرن العشرين دخل الفقهاء حلبة السياسة بالفتاوى فشاركوا بدور رئيسي في ثورة الدستور (المشروطية) عام 1906، بقصد تحديد صلاحيات الحكام وإقرار حقوق الرعايا، مما ثبت مكانتهم الكبيرة في المشهد السياسي.
وفي الستينيات تصدى الفقهاء للقوانين التي أصدرها الشاه 1963 وسماها "الثورة البيضاء"، بينما رأوا هم فيها تكريسا لـ"تغريب هوية إيران"، وكان على رأس المحتجين آية الله الخميني الذي حرض الشعب ضد علاقات الشاه بأميركا وإسرائيل، خاصة في "ثورة 15 خرداد" (5 يونيو/حزيران 1963) التي صادفت ذكرى مأساة كربلاء، وسانده في ذلك طلاب الحوزة العلمية بمدينة قم.
وهكذا اندلعت مظاهرات قتل فيها الآلاف وأودع الخميني السجن، فاجتمع كبار المراجع وأعلنوا ترقيته إلى رتبة "آية الله العظمى" فاكتسب بذلك حصانة تمنع سجن المراجع الدينية، وتكرس بذلك دوره السياسي الديني محاميا عن "حقوق المستضعفين"، مما بوأه مكانة مرموقة تزايدت أهميتها عبر السنين في الدفع بالاحتجاج الشعبي على نظام الشاه، حتى لحظة إسقاطه الدرامية بعد 16 سنة.
ففي 1964 أخرج نظام الشاه الخميني من البلاد إلى تركيا التي غادرها فورا إلى النجف في العراق حيث قضى هناك 14 سنة، ومنها توجه -بضغط من شاه الإيراني على نظام حزب البعث العراقي– إلى فرنسا التي وصلها يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول 1978، وبقي فيها متابعا وموجها لأحداث الثورة في بلاده خلال أشهرها الحاسمة، وبعد نجاحها بالكامل عاد يوم 1 فبراير/شباط 1979 إلى إيران.
أقطاب الثورة
والعقائدية وأهدافها الإستراتيجية وخططها التكتيكية، ويمكن إجمالها في التيارات التالية حسبما ذكره الكاتب فهمي هويدي في كتابه "إيران من الداخل":
1- التيار الليبرالي: الذي يقوم على شرائح المثقفين الليبراليين من ذوي الثقافة الغربية الذين كان تصادمهم مع النظام مبنيا على منطلقات وطنية وقومية، وكانوا يطمحون لتحقيق الديمقراطية وبناء إيران الدولة القوية والناهضة، ومن رموز هذا التيار شاه بختيار الذي كان آخر رئيس وزراء عينه الشاه قبل إسقاطه، والمهندس مهدي بازركان الذي أصبح أول رئيس وزراء في حكومة الثورة.
2- التيار اليساري: ويضم فصائل اليسار بشتى مشاربهم (ماركسيون، واشتراكيون، ويسار إسلامي) ويصل عددهم إلى 24 فصيلا، وكانت دوافعهم تتمثل في الثورة الاجتماعية لصالح الطبقات المحرومة. ومن رموزه نور الدين كيانوري رئيس الحزب الشيوعي ("توده" = الحرية)، ومسعود رجوي رئيس منظمة "مجاهدي خلق".
3- التيار الإسلامي: ويرتكز على الفقهاء من الحوزة العلمية في قم التي كانت قاعدته الأساسية التي منها يحرك الجماهير في مختلف أرجاء البلاد عبر الحسينيات والمساجد (أكثر من تسعة آلاف مسجد)، وكان الخميني ورجاله هم الذين تصدوا لأداء الدور الفاعل في تحريك هذا التيار الساعي إلى إقامة "دولة الإسلام" وفقا لنظرية "ولاية الفقيه" الشيعية المستحدثة.
دخلت الحوزة العلمية بقيادة الخميني في صراع مع النظام السياسي حول علمنة القوانين وتنظيم المجالس البلدية ومجالس المحافظات، وتميز الخميني بالمواقف الأشد ثباتا، ثم يأتي من بعده المدرسون والطلبة، وهذه المعركة أدخلت الفقهاء في المدن والقرى والعمال على حد سواء في الصراع، واستغلت مراسم عاشوراء والاحتفالات الدينية والوطنية لبث أفكار الثورة.
ومن أبرز رجال الدين الذين ساندوا الخميني في قيادته للثورة: مرتضى مطهري ومحمد حسين بهشتي اللذان اغتيلا بعد فترة وجيزة من نجاح الثورة، وحسين منتظري الذي كان نائبا للخميني، وعلي خامنئي الذي خلفه في منصب "مرشد الثورة"، وهاشمي رفسنجاني الذي تولى أحيانا تنسيق علاقات الثورة الخارجية مع الهيئات والمنظمات الشعبية، وصادق خلخالي الذي ترأس "المحاكم الثورية" التي شُكلت إثر نجاح الثورة وأعدمت الآلاف من رجال الشاه.
اعتمدت أنشطة التيارات التي وقفت خلف تفجير الثورة على تنظيم المظاهرات الاحتجاجية الحاشدة، وودعوات العصيان المدني الواسع، والإضرابات المدنية العامة التي شملت أحيانا مؤسسات رسمية كبرى في قطاعات حساسة مثل الطاقة والنقل، مما ألحق أضرارا كبيرة باقتصاد النظام.
لكن هذه التيارات اختلفت في طريقة التعاطي مع أجهزة أمن الشاه وجيشه الذي يعد خامس جيش في العالم، وهو مدرب ومجهز لقمع الشعب. وكان هنالك رأيان: رأي يدعو إلى المقاومة المسلحة، وتتبناه فصائل اليسار عموما مثل "مجاهدي خلق" و"فدائيان خلق"، وبعض المثقفين الذين تخرجوا من جامعات غربية. وقد نفذت فعلا حركة الفدائيين الماركسية هجمات مسلحة ضد مصالح النظام بدءا من 1971.
أما الخميني -الذي كان يحرك الشارع ضد الشاه بأشرطته المسجلة والمهربة من منفاه الفرنسي إلى داخل البلاد- فقد طالب بعدم استفزاز رجال الأمن والشرطة، وبتجنب الاصطدام بالجيش تحت أي ظرف، ورأى أن أفراد الجيش جزء لا يتجزأ من الشعب رغم ارتدائهم الزي العسكري.
وكان الخميني يقول لأنصاره: "لا تهاجموا الجيش في صدره وإنما هاجموا قلبه واستهدفوا وجدانه. عليكم أن تناشدوا قلوبهم ولو فتحوا عليكم النار. وإذا أراد الجيش أن يطلق النار عليكم فلتعروا صدوركم، فدماء كل شهيد ناقوس يوقظ ألفا من الأحياء. فلندعهم يقتلون خمسة آلاف، عشرة آلاف، فسنبرهن للعالم أن الدم أكثر قوة من السيف". وكان يسمي أفراد الجيش "جنود الله المستضعفين".
وقد اتخذت قوى الثورة تدابير لحماية من ينشقون عن النظام من عناصر أمنه وجنود جيشه بتهريبهم من ثكناتهم وتشكيلاتهم العسكرية، وتوفير ملابس مدنية لهم تمكنهم من الاختفاء، وتأمينهم في أماكن سرية. مع الاستفادة مما لديهم من معلومات تفيد في إضعاف النظام.
وفي أثناء ذلك بدأت لجان الثورة ومنظماتها تحتل دورا أساسيا في البلاد، بما في ذلك إدارة وتوفير الخدمات الأساسية مثل الوقود والطاقة عندما تفاقمت مشكلات المحروقات، ونتج عنها كثير من المشاكل مثل إضراب العمال وإيقاف التصدير. وكونت قوى الثورة "مجلس شورى الثورة"، وشكلت لجانا للطاقة وتنظيم الإضرابات.
أبرز الأحداث
– 23 أكتوبر/تشرين الأول 1977: مقتل "مصطفى" الابن البكر للخميني في النجف على أيدي من قيل إنهم "عملاء" لأمن الشاه، وخروج الآلاف من أنصار والده في المدن الإيرانية للمشاركة في تأبينه فرفعوا شعار "الموت للشاه". وقد وصف الخميني هذه المظاهرات بأنها "صحوة إيران".
– قوات الأمن تواجه المتظاهرين بالقوة المفرطة، والفقهاء يوجهون انتقادات لاذعة للنظام ويقدمون له عريضة مطلبية من أبرز بنودها: السماح بعودة الخميني من المنفى، والإفراج عن المعتقلين، وضمان حرية التعبير، لكنهم لم يدعوا إلى "إسقاط النظام".
– يونيو/حزيران 1978: قادة الثورة يدعون جماهير الشعب إلى وقف التظاهر وتنفيذ إضراب عام بالبقاء داخل منازلهم، وذلك للتخفيف من أثر حدة القمع الأمني على تعاطف الشارع مع الثورة.
– صيف 1978: الشاه يعلن استعداده لإتاحة مزيد من الحرية السياسية ويدعو إلى إجراء انتخابات حرة مبكرة خلال عام. والخميني يرفض الدعوة ويصفها بأنها "خدعة".
– 8 سبتمبر/أيلول 1978: الشاه يعلن بدء العمل بحالة الطوارئ، والمتظاهرون يتحدون الإعلان مما أدى لوقوع "مجزرة الجمعة السوداء" إثر فتح النار من الطائرات المروحية على مظاهرة تضم نصف مليون مواطن إيراني، فحصدت 4500 شخص بينهم 650 امرأة. وهو ما أضاع كل فرص النقل السلمي للسلطة من الشاه إلى الشعب، وزاد زخم الاحتجاجات بشكل كبير.
– أغسطس/آب 1978: قوى الثورة تنظم إضرابات شاملة بدأت بعمال مصافي النفط وتوسعت لتشمل معظم موظفي قطاعات الدولة، بمن فيهم الصحفيون وعمال شركة الطيران والسكك الحديدية والجمارك والبنوك.
– 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1978: طلاب جامعة طهران ينظمون مسيرات شهدت مصادمات عنيفة مع الأمن قتل فيها عدد من الطلاب، وأعقبتها أعمال شغب أحرقت فيها المباني المجاورة للجامعة، فأعلن الشاه عزل الحكومة المدنية وعين مكانها حكومة عسكرية وأمر باعتقال العشرات من قيادات الثورة.
– نهاية 1978: الشاه يعلن استعداده لتسليم منصب رئاسة الوزراء للمعارضة، والخميني يرفض العرض ويدعو لمواصلة المظاهرات في أنحاء البلاد.
– 16 يناير/كانون الثاني 1979: الشاه رضا بهلوي يغادر البلاد إلى الخارج بذريعة طلب العلاج، بعد أن عين شابور بخيتار (أحد قادة "الجبهة الوطنية" المعارضة) رئيسا جديدا للوزراء.
– 1 فبراير/شباط 1979: عودة الخميني من منفاه في فرنسا إلى العاصمة طهران، وكان في استقباله أكبر حشد جماهيري في تاريخ البلاد، قدرته مصادر بالملايين.
– 4 فبراير/شباط 1979: الخميني يعين المهندس مهدي بازركان (أحد قادة "الجبهة الوطنية" المعارضة) رئيسا لحكومة الثورة المؤقتة، لكنه لم يتسلم منصبه إلا يوم 11 من الشهر نفسه بسبب إصرار بختيار على عدم الاستقالة.
– 11 فبراير/شباط 1979: رئيس أركان القوات المسلحة يصرح بـ"حياد الجيش" في صراع النظام والثوار، وهو ما اعتبِر إعلانا رسميا لنجاح الثورة وسقوط نظام الشاه.
– 1 أبريل/نيسان 1979: إجراء استفتاء شعبي على تأسيس الجمهورية، والخميني يعلن تأييد الإيرانيين لقيام "الجمهورية الإسلامية" بنسبة 98%.
– 5 مايو/أيار 1979: تشكيل "الحرس الثوري" من تنظيمات الثوار المسلحة بمرسوم من الخميني لأجل "حماية الثورة".
– 3 يوليو/تموز 1979: انتخاب "مجلس الخبراء" لأول مرة، وتكليفه بصياغة الدستور الدائم للجمهورية الإسلامية، الذي أقِر بالاستفتاء الشعبي العام في 1 ديسمبر/كانون الاول 1979، واعتمِد نهائيا يوم 3 من الشهر نفسه.
و، وصارت البلاد بلا شرطة أو إدارة حكومية، فعمّت الفوضى واستولت منظمات المعارضة على كثير من أسلحة الجيش والشرطة، فوافق الخميني على تشكيل حزب سياسي يدير أوضاع الثورة وينسقها سُمي "الحزب الجمهوري الإسلامي".
كما التي واجهتها، وفي مقدمتها أزمة رهائن السفارة الأميركية بطهران (4 نوفمبر/تشرين الثاني 1979)، والغزو السوفياتي لأفغانستان (25 ديسمبر/كانون الأول 1979)، والأهم من ذلك الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988).