أنا الأميرة التي رأت النور ببوابة الإله الأعظم، أنا الطفلة الحالمة التي خرجت من أرض حمورابي وبلشاصر، أبلغ من العمر اثنتي عشرة ألف سنة. منذ فجر الإنسانية كانت الحروب ببلدي و لا تزال جحيما لا يبقي و لايذر،
بل سعيرا التهمت نيرانها كل أهلي    و أحبتي من الموحدين الذين كانوا أول من هداهم الله إلى وجوده و إلى أبجديته و حروفه، و لم تترك لي حتى زمن ليس ببعيد سوى جدتي، الراهبة الحافظة لسرّ القدسية و الوحدانية ، أجل، جدتي التي قبل أن تلفظ أنفاسها من شدة حزنها على فقد أبي و جدّي، أوصتني بأن أترك هذه الأرض و أرحل إلى بلاد بعيدة مغرقة في الظلام و النور، بلاد يطلع فيها البدر لستة أشهر و تشرق فيها الشمس لستة أشهر أخر، كانت هذه وصيتها التي لم أكن قادرة على فهمها آنذاك لصغر سني  إلا أنه  و بعد مضي سنين قليلة يسّر لي الله لقائي بشيخ كانت تنزل الأحرف بصدره كالشهب فتخرج حكما مقفاة و أخرى مسجّعة، شيخ شرح لي  ما كانت تقصده والدتي بتلك الأرض و قال لي بأنها توجد  إما بالجزء العلوي من هذا الكوكب أو بالجزء السفلي منه و ربما تكون أرضا بعيدة و نائية لن ينفعني في الوصول إليها إلا ركوب بحار من الظلمات. وحينما بلغت التاسعة عشرة من عمري اخترت الرحيل إلى أرض ماوراء بحارالظلمات، الأرض التي صارت لي وطنا جديدا و منبتا  خرجت منه ذريتي و ترابا أعطاني "عبد الواحد" زوجا من أشد الخلق محبة لله و معرفة به  و هو نفسه الذي قال لي ذات يوم بأن جدّتي لم تكن تقصد في وصيتها تلك، أرض ماوراء بحار الظلمات و لكن أرضا أخرى يدوم فيها النهار ستة أشهر و الليل ستة أشهر أخرى ويغطيها بياض يشبه بياض القلوب العابدة  و تحتها لهب يشبه نيران الأرواح العاشقة.
كيف تكون تلك الأرض ياترى و هل توجد حقا؟ سؤال ظل يقض مضجعي لزمن طويل و لم أجد له جوابا حتى حلّ يوم ما زال موشوما بذاكرتي كالألم، يوم كنت قد جمعت فيه كل بناتي كي أقص و إياهم خصلات شعرهن وأعتني  به بكل أنواع النباتات العطرية الصالحة لنموه و كثافته و حياته كما هي عادتي و إياهن مرة في كل شهر، إلا إنني  ما إن لمس المقص خصلاتي حتى خرج الدم منهن فياضا و كأنه سيل من سيول دجلة أو الفرات، فزعت للأمر بناتي و ذهبن في سرعة البراق لنداء والدهن الذي ما إن أصبح في حضرتي حتى وجد كل الدماء قد جفت و نصف خصلات شعري الطويل ساقطة على الأرض و قد بدأت الديدان تخرج منها و كأنها أجساد تعفنت بمجرد أن فارقتها الروح. 
أرعبني المنظر و ذهبت توا لغسل شعري أربعين مرة و لفّه بعد ذلك  في سائل الحناء علّ الأمر يعيد إليه رونقه و حياته من جديد،    و ذاك ما صار، فقد أنعشت الحناء شعري و أعادت إليه نموه الطبيعي، و ما إن مرت ثلاثة أشهر حتى أصبح يتماوج فوق ظهري و يتجاوز قدمي من شدة طوله و ملمسه الناعم الحرير، واحتفالا بهذا الحدث السعيد اقترح عليّ زوجي أن يصحبني و بناتنا الصغيرات إلى نزهة بين الحقول و المروج الغناء التي حباها الله لهذه الأرض الساحرة الخلابة بطبيعتها وبجبالها و مياهها، لكن هيهات هيهات ما إن صرنا بالخارج  و ما إن صدفت عيني نور الشمس حتى فرت خصلات شعري من فوق رأسي ووقفت متمردة و كأنها أسلاك كهربائية رقيقة كستنائية اللون تعانق السماء. ذهل الجميع من أمري و حاول زوجي "عبد الواحد"  أن يتدارك الأمر و يعيد الخصلات إلى مكانها لكن دون جدوى، إنها هناك، تعانق السماء واقفة شامخة متحدية للجميع، خجلت من نفسي و مما أصبح يسببه لي شعري من أحداث غريبة خيالية و فوق كل تصور بشر، و اجتمع الناس من حولي بعضهم ينظر إلي في استغراب        و البعض الآخر في تخوف و آخرون يضحكون من منظري الغريب    و بقيت هكذا لا أستطيع الرجوع إلى البيت و لا أقدر على المضي قدما أو على الاختفاء حتى لا أظل هكذا أضحوكة لجميع من في القرية وعندما غابت الشمس و بدأ الليل يرخي بستاره علينا، حدث أمر أشد غرابة من الأول، نزلت خصلات شعري من السماء و عادت إلى وضعها الأول !
 
كانت الليلة عصيبة علي، لم يغمض لي فيها جفن و طالت محنتي و دامت أياما و أياما و شهورا، فهمتُ خلالها بأن شعري أصبح أخا حميما للنور و الظلام، يتحرك بحركته و يسكن بسكونه، إذا أشرقت الشمس وقف و عانق السماء و إذا حل الليل عاد مطواعا إلى سكونه  و نعومته و هدوئه، ولم يكن من حل سوى أن أقفل بإحكام كل فتحة أو نافدة بالبيت كان من الممكن أن تدخل منها أشعة الشمس نهارا تفاديا لتمرد خصلات شعري، و بدأت الأيام تجري و تمر هكذا و انا أعيش وسط الظلام لا أرى نور الشمس و لا أخرج كما كنت في السابق للعمل رفقة زوجي بالحقول و لا أتنزه و بناتي الصغيرات، إلى أن وصل إلى حاكم هذه الأرض خبري فأرسل لي من يأخذني عنده. 
خرجنا ليلا و وصلنا رفقة الحراس مع أول خيوط فجراليوم الآخر. وجدت الحاكم في انتظاري وقد أغلق كل نوافذ القصر حتى      لا ترى خصلاتي أشعة النور التي سترسلها الشمس بعد ساعات من الشروق. دعانا إلى الاستراحة و بعد ذلك أخبرني بأنه سيرسل عند منتصف النهار في طلبي من أجل مقابلة رسمية و خاصّةٍ وسط وفد من كبار مستشاريه. و ذاك ما حدث، ذهبت و قد لبستُ أحسن ما عندي من الأثواب و غطيت شعري بثوب أخضر سندسي برّاق  وجلست قبالة الحاكم الذي بادر بسؤالي قائلا:
ـ ما اسمك وكم عمرك و  من أين أتيت و ما قصة خصلات شعرك المتمرّدة؟
ـ  اسمي ياسيدي "آية" ، أتيت من أرض بعيدة تجري بها عينان دامعتان من السماء، اسم الأولى دجلة و الثانية الفرات، وهذا زوجي "عبد الواحد" و هؤلاء بناتي، اسم الأولى "إباء" و الثانية "جهينة" و الثالثة "حوراء"، أما عن عمري فبعد أيام قليلة سأبلغ بإذن ربّي "أربعين سنة"، وقصة شعري ياسيدي غريبة حد الموت و مازلت لم أقف على كنهها حتى اليوم.
ـ غريب ألاّ تعرف السيدة سبب وقوف خصلاتها و معانقتها السماء بمجرد رؤيتها لخيوط الشمس و ضوء النهار، ألا يبدو هذا أمرا خرافيا! 
قال الحاكم مخاطبا أحد وزراءه.
ـ إنني اقترح ياسيدي أن نعطيها الأمان و نخرجها إلى النور كي نقف على الأمر بانفسنا بدل التخمين و التخيل، فقط بالتجربة يامولاي يمكننا أن نفهم قصة هذه السيدة.
ـ ما رأيك يا "آية" في اقتراح وزيرنا؟
ـ الرأي رأيك يامولاي.
ـ إذن فلتفتحوا أبواب القصر و نوافذه و لتدعوا الشمس الحامية المشرقة تدخل إليه من كل جانب.
دخلت الشمس ووقفت كل خصلة من خصلات شعر "آية"      و ذهل الجميع من المشهد العظيم و من ذاك الشعر الذي كان يقف معانقا أطراف السماء.
ـ لا تخشين شيئا يا "آية"، إن هذه و الله علامة لشيء لا شك وراءه سر من الأسرار، فهلا وصفت لنا ما تشعرين به الآن؟
قال الحاكم في استغراب.
ـ ليس ثمة من سرّ و لا أي شيء آخر ياسيدي، و لا أشعر بأي شيء سوى أنني أصبحت أضحوكة أمام الملأ، لا أستطيع لشعري حُكما و ليس لي عليه سلطة و لا أمر.
ـ إذن فلتقصّيه حينما يعود ليلا إلى سكونه؟
ـ ليس لي ذلك ياسيدي فسيمتلأ القصر بالدماء و ستصبح الخصلات المقصوصة و كأنها جثت متعفنة و ملأى بالديدان            و الهوام.
ـ أ لهذا الحد يا "آية"؟ فتأخذوها إلى غرفة الضيافة و لتعطوها ما يكفيها من المال و الهدايا و دعوها تعود إلى بيتها هي و عائلتها إلى أن ننظر لاحقا في أمرها.
ـ ما رأيك يامولاي أن تجعل منها و من شعرها أعجوبة هذا البلد و الزمان و تأمر بإحضارها كي يتسلّى ضيوفك من حكام البلدان البعيدة  وينبهروا بحكاية خصلاتها الطويلة الثائرة، ما رأيك أيضا في أن نريها لكل أطفال القصر، لعلّهم يجدون فيها ما يروّح عنهم و يحملهم إلى عالم الخيال و الأحلام؟ 
ـ  على رسلك، اتركوا السيدة تعود إلى حال سبيلها و امر بألا يتعرض لها أحد سواء أكان من الرعية أم من رجال القصر، أفهمت أم أحتاج إلى إعادة الأمر بصيغة أخرى؟
ـ فهمت ياسيدي و اعذر طيشي و تهوري و سطحيتي في تقييم الأمور.
عادت "آية" من جديد إلى بيتها و أقفلته بإحكام و عادت إليها أيام الظلام و الوحدة و الحزن و الاكتئاب، أما قلب زوجها فكان ينفطر في كل يوم ألف مرة على ما أصاب زوجته من محنة أجبرتها على الانعزال و هجر الدنيا و متعها و البكاء ليلا و نهارا. و في ليلة مقمرة هادئة و عندما أنهت "آية" صلاتها و مناجاتها لله، إذا بزوجها يسألها في تودد رغبة منه في مساعدتها للوصول إلى حل أو أمر يخرجها مما هي فيه: 
ـ لدي إحساس دفين ياحبيبتي بأن جدّتك كانت على علم بأن هذا الأمر العجاب كان و لابد سيصيبك. ثم ألا يمكنك يا "آية" أن تصفي لي    و لو بشكل بسيط ماالذي تشعرين به أثناء فترة وقوف خصلات شعرك و معانقتها السماء؟
ـ أعتقد أن نفس السؤال كان قد طرحه علي حاكم هذه البلاد الحكيم و العادل، لكنني لحظتها لم أجبه بكامل الصدق، خوفا على البلد من الفتنة و خوفا عليّ من الخطف أو أن أصبح محط تقديس من طرف الناس وعامتهم البسيطة.
ـ كيف ذلك يا "آية"، أتريدين أن تقولين لي بأن وراء الأمر سرّا على هذه الدرجة من الأهمية؟
ـ أجل يا "عبد الواحد" و اعتقد أنه قريبا سأرحل من هنا، أنتظر فقط أن يأتيني الأمر العلوي.
ـ الأمر العلوي؟ 
ـ أنا سيدة آلام الناس المحترقة أفئدتها فوق كل بقعة قريبة أو بعيدة من الأرض، حينما يرخي الليل سدوله أسمع تحت وسادتي  آلام الضعفاء  و أحزانهم و أرى دموعهم و دمائهم  و أحس بكل الظلم و القهر الذي يكوي قلوبهم و بكل الطغيان الذي يقهر إنسانيتهم. و بتلك الأيام المشرقة التي كنتُ أرى فيها الشمس، لم تكن خصلات شعري تقف معانقة السماء  كي تثير ضحك الناس و سخريتهم و لكن لشيء أكثر أهمية و جدية، إنها كانت تنقل ما كنتُ أراه و أسمعه تحت الوسادة من آلام الناس وتوصلها عبر شحنات كهربائية قوية إلى خدام الله، و أمراء الاستغفار. كل خصلة يا "عبد الواحد" من شعري تمثل أمّة من أمم هذه الأرض الحاضر منها و الآتي، وكل خصلة هي مكلّفة بنقل آلام شعوبها وهذا ما يفسر تلك الدماء التي كانت تخرج كالسيول الهادرة عندما قصصتها في الماضي.
ـ هذا يعني أنك ...
ـ أنني أحمل ثقل الجبال فوق رأسي، و أنني لن أضيف إلى ماقلته كلمة، إلى أن يجعل لي الله مخرجا.
قالت "أية" و قد استرخت عضلات وجهها بعد أن كشفت لزوجها بعضا مما كانت تحمله في قلبها و خلدت بعد ذلك إلى نوم عميق لم يوقظها منه إلا صوت جوهري غريب كان يأتيها من أعماق قلبها و هو يقول:
ـ "قلب الأرض"، أنت يا "قلب الأرض"، هيّا استيقظي، لقد حان وقت الرحيل.
ـ أتهاتفني أنا؟ من أنت ياسيدي؟
قالت و قد أذهلها ما رأته عيناها، فقد كان الرجل شديد الشبه بجدّها.
ـ أنا لستُ بجدّك، أشبهه نعم، لكنني أشبهكِ أيضا، لعلّكِ لم تنتبهي لطول خصلات شعري البيضاء!
قال ثم حلّ شعره و أرسله و كأنه سجاد من الحرير الأبيض اللامع.
ـ أجل، كم هو جميل هذا الشعر الذي تحمل على كتفيك، أتريد أن تقول لي أن حكايته تشبه حكايتي، أتقف خصلاته أيضا كي تعانق السماء    و توصل إلى الإله آلام الناس؟
ـ مع فارق بسيط ، أنا أستطيع طيّه و الخروج به نهارا و ذلك بفضل هذا الشريط السحري الأخضر، أما أنت فلا ، و لأجل هذا أنا هنا، كي أهديك شريطين يشبهان شريطي و أساعدك على لفّ شعرك الطويل    و عقده و لن تخشين بعد اليوم من وقوفه أو ما يماثل ذلك، حتى و إن خرجت تحت ضوء النهار و أشعة الشمس الحارقة ، هيا انهضي        و دعيني أشدّ خصلاتك.
نهضت "آية" و أسلمت شعرها للرجل ذي الخصلات الثلجية، الذي مشّط شعرها بمشط من خشب العرعار و قسمه من الخلف إلى جزئين ثم لفّ الجزء الأول و عقده بالشريط  الأول و كان أسود اللون ووضعه على الكتف الأيمن و لفّ الجزء الثاني بالشريط الثاني و كان أحمر اللون ، ووضعه على شكل سجاد ملفوف على الكتف الأيسر ثم طلب منها الوقوف، إلا أنها ما إن قامت من سريرها حتى سقطت أرضا من شدة ثقل شعرها الملفوف على كتفيها. 
ـ أرأيت كم هي ثقيلة آلام الناس يا "قلب الأرض"؟
ـ أجل ياسيدي، إلا أنني لاأفهم لم تناديني ب "قلب الأرض"؟
ـ لأنني منذ الآن سأحملك كي تعيشين بأرض ستكونين أنت القلب فيها. الأرض التي تشرق الشمس فيها لستة أشهر و يسطع فيها القمر لستة أخر.
ـ و أين توجد هذه الأرض يا سيدي، أرجوك أخبرني حتى أستطيع أن أطمئن أهلي؟
ـ لاتخشي شيئا، سيأتي من خدّامنا من يطلع زوجك بالأمر و يطمئنهم عليك، و مع ذلك يا سيدتي فالأرض توجد في القطب الجنوبي من هذا الكوكب، ويكسوها طيلة السنة بياض يشبه بياض قلبك. هيّا الآن أوصلي جزءا من شعرك بشعري و أذيبي سوادك في بياضي، وعنفوان عمرك في عمق سنيني و قولي: بسم الله الذي لايضر مع اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم.
وما كانت إلا لحظات قصيرة حتى وصلت "قلب الأرض" إلى القطب الجنوبي، وحيدة إلاّ من شعرها الملفوف فوق كتفيها و الذي كان يشد باستمرار جسدها النحيل إلى الأرض من شدة ثقله.  لم يكن ثمة أحد، ينقذها من هذا البياض الخالي من الحركة و المفعم بالسكون، شعرت بالخوف و الوحشة  و أجهشت بالبكاء في لحظة من الحزن الشديد،  ويا لهول المفاجأة، فدموعها المتساقطة أذابت جليد المكان الذي كانت تقف فيه و أخرجت إلى الوجود أزهارا و ثمارا في غاية الروعة        و الجمال و اللذة، بدأت "قلب الأرض" في تذوق ثمار هذه الأرض الكامنة  و الغريبة وهي تفكر في كيفية حلّ مشكلة العيش هنا و الأكل  و الشرب و المسكن، فدموعها لن تكون أبدا رهن إشارتها في كل مرّة تحس فيها بالجوع، ولاشك أن بياض هذه الأرض لن يقبل أبدا بدموع مفتعلة و كاذبة ، إلا أن خاطرا أوحى لها بألاّ تطيل التفكير في هذا الأمر        و تتركه إلى الغد. الغد؟ أي غد هذا الذي تتحدث عنه؟ فهنا الأيام لاتحسب بالشروق و الغروب، فلا الشمس تشرق بالشكل الذي اعتادت عليه و لا القمر يهلُّ بنفس الطريقة، إلا أنّها حلّت الأمر بشكل أكثر بساطة: ستنام كلّما شعرت بحاجتها إلى ذلك. هكذا خلدت "قلب الأرض" إلى نوم عميق، لم يفقها منه سوى صراخ كانت تسمعه قادما من أعماق الثلوج، أفاقت مذعورة و حلّت شعرها علّها تستطيع أن تفهم شيئا مما كان يحدث لها، و جلست تمشّطه و تزيح عنه حزن الوحدة في هذا المكان الموحش، إلا أن الصرّاخ بدأ يزداد و يزداد بشكل مرعب كلّما اتصلت خصلاتها بثلج المكان الذي كانت تجلس فيه، استشعرت بأن الأمر له علاقة بآلام الناس في مناطق أخرى نائية عنها، فغرست جزءا من شعرها في الثلج بشكل أكثر عمقا و عمقا، ويا لهول ماحدث! تفجرت الدماء و انهالت طلقات و فرقعات لم تكن لتسمع بها من قبل أبدا، وبدأت تصرخ هي أيضا و تبكي و تبكي إلى أن أغمي عليها من شدة الألم. كانت لحظات قاسية على قلبها المرهف، ودامية على جسدها الذي أنعم الله عليه بجمال فاتن، إلا أنّ صوتا بداخلها يشبه صوت جدّها كان يهون عليها هول ماتراه في كل يوم و يخبرها بأن شمس الغد ستسطع و تسطع أكثر و أكثر و أن هذه الأرض التي قدمت إليها من أعماق اعماق هذا الكوكب ستصير جنة لكل المقهورين و المظلومين،  و مرّت السنون طويلة وموحشة عليها في هذا المكان وهي على صبرها و قوة جلدها في تحمّل مناظر ألم الناس و معاناتهم إلى أن صارت ستة ألف سنة، بدأ الشيب فيها يعرف طريقه إلى شعرها الكستنائي الطويل و بدأت فيها هذه الأرض تطرح خيرات بعدد كل المحن التي رأتها خصلات شعر "قلب الأرض" و عدد الدماء التي كانت تنزل كالشلالات من الجهة التي كانت تلفّها دائما بذاك الشريط الأحمر، وصار القطب الجنوبي جنة الإله الموعودة، جنة لأهل سومر و بابل ولكل المعذبين من كل جنس و لون، فقط في هذه الفترة جاء لزيارتها الملاك ذي الشعر الحريري الأبيض ليزين رأسها بإكليل الصبر، ويعدها بالعيش ستة ألف سنة أخرى منحها لها الله من العمر كي تحيا و ترى كيف سينتشر العدل على الأرض و كيف سيعيد لكل ذي حق حقه        و ينصر المظلومين و المقهورين ويجعل من جنوب الكوكب جنة في الأرض، قلبه اسمه "آية" و عرشه في السماء ، فهي هكذا دماء الأبرياء و الضعفاء، والرضع و الشيوخ و الأطفال و النساء، لن تضيع عبثا يا "آية" و قد رأيت بعينيك كيف أن الآلام التي كانت توصلها خصلاتك و أنت في ريعان الشباب إلى السماء و إلى عمق الأرض      و أنت فوق  منتصف السراط بالقطب الجنوبي، قد أحالت أبعد منطقة في الكوكب و أكثرها نسيانا إلى جنة وعد بها الله عباده الصالحين.
كانت هذه الكلمات آخر ما سمعته "آية" من الملاك ذي الشعر الفضي  و لو أنّها نسيت أن تسأله ماسبب طول خصلاته و أي آلام كان يوصل إلى السماء و عن أي جهة في الأرض كان مسئولا؟ 
تمت بحمد الله وعونه

المراجع

alnoor.se

التصانيف

قصص  مجتمع   قصة