قال الرّاوي: في مملكةٍ من ممالكِ الزّمانِ وسالف العصر والأوانِ كان ما كان.‏

يُحكى أنّ ملكاً من الملوك شاخ، حتّى بلغ الثّمانينَ من عمره، فأشار عليه حكيمٌ أن يولّيَ المملكةَ أحدَ أولادِه الثّلاثةِ، وإلاّ سيتربصُ(1) بها الأعداءُ، وسينقضّون يوماً عليها فريسةً سهلةً، فناداهم الملكُ العجوزُ على عَجَلٍ، وأمر الحكيمَ أن يختبرَ قوّةَ عزيمتهم وسدادَ رأيهم(2)، فالتفتَ إليهم الحكيمُ قائلاً:‏

-"الملكُ منكم مَنْ يُقْدِمُ على عملٍ مستحيلٍ، يجعله وليّاً لعهدِ مولاي الأمينِ".‏..

تهلّلتْ وجوهُ الأمراءِ الثلاثة فرحاً، واستأذنوا الملكَ أن يمهلهم ثلاثةَ أيّامٍ، يفكّرُ خلالها كلُّ واحدٍ منهم بعملٍ ما، فوافق الملكُ على مَضضٍ(3)، وأمرهم بالانصرافِ إلى شؤونهم، وحين هَمّ الأمراءُ بالخروج من المجلس ناداهم من جديدٍ محذّراً:‏

-"أمامكم ثلاثةُ أيّامٍ، وإلاّ سيحيطُ بنا الأعداءُ كما يحيطُ السِّوارُ بالمِعْصَمِ".‏

انحنى الأمراءُ الثّلاثةُ، وخرجوا إلى قصورهم واجمين، يفكّرُ كلٌّ منهم بعملٍ عظيمٍ، يحظى برضى الملكِ، فالكبيرُ علاءُ الدّينِ يحلمُ منذ صغره أن يصبحَ ملكاً، فكان يضع تاجَ والدِه خِلسةً على رأسه، ويتباهى به أمام إخوته الصّغار، والأوسطُ صلاحُ الدّين يحلم أن يصبحَ وليّاً للعهد، فكان يرفع صوْلجانَ(4) الملك في وجهِ الصّغيرِ عزِّ الدّينِ، ويأمره أن ينحنيَ له، فينحني الصّغير صاغراً(5)، وهو يحلمُ أن يغافلَ يوماً والدَه، ويجلسَ مكانَه على عرشِه العاجيِّ الوثيرِ.‏

(2)‏

قال الرّاوي، وهو يقلّبُ كتاباً أمامه، اهترأتْ أوراقُه، واصفرّتْ:‏

في صباحِ اليوم التّالي أتى الأميرُ علاء الدّين القصرَ لاهثاً، ودخل المجلسَ بلا استئذانٍ، فلامه حكيمُ المملكةِ، وأمره أن يستأذنَ الحاجبَ في الدّخول على الملك، وحين وقف الأميرُ بين يدي الملكِ قال:‏

-"أنا أستطيعُ- يا صاحبَ الجلالةِ- أن أقلبَ النّهارَ ليلاً".‏

ابتسم الحكيمُ في وجهِ الملكِ المتجهّمِ(6)، وسأل الأميرَ ضاحكاً:‏

-"كيف ستقلب النّهارَ ليلاً، يا سيّدي الأمير؟".‏

أجاب الأميرُ- وهو يرفعُ قبضتَه في الوجوه- قائلاً:‏

-"سآمرُ جنودَ المملكةِ الشّجعانَ أن يلقوا الشّمسَ في زنزانة".‏

غضبتْ يومئذٍ الشّمسُ غضباً شديداً، وغربتْ باكراً، فساد المملكةَ ظلامٌ دامسٌ. خاف عندئذٍ الملكُ أن يباغتَ الأعداءُ المملكةَ، فأمر- والشّمسُ تشرقُ بوجهٍ ساحرٍ- بإغلاق السّجونِ في وجه ذلك الأميرِ المغفّل.‏

وفي اليوم الثّاني جاء الأميرُ صلاحُ الدّينِ قصرَ والدِه الملكِ، ودَلَفَ إلى مجلسه مستبشراً، فوجد الملكَ وحكيمَ المملكةِ في انتظاره، ألقى عليهما السّلامَ، وأردفَ قائلاً:‏

-"أنا أجرؤُ- يا صاحبَ الجلالةِ- أن أمنعَ نهرَ المملكةِ من الجريان".‏

سأله الحكيمُ، وهو يبتسمُ:‏

-"كيف ستمنعُ النّهرَ من الجريان، يا سيّدي الأمير؟".‏

أجاب الأميرُ- والملكُ يكادُ يتميّزُ من الغيظ(7)- قائلاً:‏

-"سأقيم في وجه النّهرِ سدّاً منيعاً".‏

ضحك النهرُ في سرّه ضحكاً خبيثاً، وراح يترقّبُ اليومَ الذي ينفّذُ فيه ذلك الأميرُ المغفّلُ ما عَزَمَ عليه، لأنّه عندئذٍ سيخزُنُ وراءه ماءً غزيراً، يروي به الفلاحون حقولَهم وبساتينَهم بعد أن كان يذهبُ هدراً في عُرْضِ البحرِ.‏

وفي اليوم الثّالث حضر الأميرُ عزُّ الدّين المجلسَ، وطأطأ رأسه بين يدي والدِه الملكِ، فأمره الحكيمُ أن يرفعَ رأسه قليلاً، ويعرض ما عنده من الرّأي أمام صاحبِ الجلالةِ، فقال الأميرُ:‏

-"أنا- يا صاحبَ الجلالةِ- أُصْلحُ ما أفسده الدّهرُ بيننا وبين الأعداءِ".‏

فسأله الحكيمُ متعجّباً مستغرباً:‏

-"كيف ستصلح ما أفسده الدّهرُ بيننا وبين الأعداء؟ بيننا وبينهم دمٌ لا ماءٌ، يا سيّدي الأمير".‏

أجاب الأميرُ، وهو يُعرِضُ(8) بوجهه عن وجه والدِه المتجهّمِ:‏

-"نَعْقِدُ معهم صُلحاً".‏

انتفض الملكُ كعصفورِ ذبيحٍ، وطلب من حكيم المملكةِ أن يخرجَ هذا الأميرَ الجبانَ من القصر حالاً، ثمّ أمر بنفيه إلى جزيرة نائية، لا إنسَ فيها ولا جنَّ.‏

(3)‏

قال الرّاوي، وهو يطوي صفحةً من كتابه الأصفر:‏

تبرّأ الملكُ من أولادِه الثّلاثةِ، وأوصى الحكيم ألاّ حقَّ لهم في مُلْكٍ ولا إرثٍ، وأرسل إلى الرّعية رسولاً، يطوف بهم شارعاً شارعاً، وينادي فيهم عالياً:‏

-"أيّها الناسُ، مَنْ يُقْدِمْ على عملٍ مستحيلٍ، يُرضي به وجهَ اللهِ وجلالةَ الملكِ، يكنْ وليّاً لعهدِ مولاي الأمين".‏

سمع النّداءَ شبابُ المملكةِ ورجالُها، وراح كلّ منهم يفكّرُ بعملٍ ما، وكلّما دخل أحدُهم القصرَ رجع خائباً، ولكنّ فتى منهم- وهو المنتصرُ بالله- ألحّ على الحاجب أن يقابلَ جلالةَ الملكِ على انفرادٍ، فلم يأذن له، وظلّ هذا الفتى يتردّدُ على القصر أيّاماً، حتّى سمع الملك بقصّته، فطلبه، ورحّب به في مجلسه قائلاً:‏

-"قل ما عندك، يا بنيّ".‏

وقف المنتصرُ بالله بين يدي الملكِ رابطَ الجَأْشِ قويَّ العزيمةِ(9)، وقال له:‏

-"إذا كان أبناؤك- يا صاحبَ الجلالةِ- قد خذلوك، فأنا يتيمٌ، ليس لي أبٌ سواك، أضع عمري بين يديك، لتبقى شاباً قويّاً، أنا لا أعرف المستحيلَ، يا سيّدي".‏

لم يتمالك الملكُ نفسَه، فأقبل- وعيناه تَذرفان- على الفتى، يحتضنه كابنه، ويربّتُ على كتفه، ثمّ أجلسه إلى جانبه، واستدعى كاتبَ المملكة، وقال له:‏

-"اكتب: نحن- ملكَ الملوكِ- قرّرنا أن نتنازلَ عن عرشِنا الجليلِ لفتى الفتيانِ المنتصرِ بالله".‏

(4)‏

قال الرّاوي، وهو يغلق كتابَه الكبيرَ أمامه:‏

وهكذا تنازل الملكُ عن عرشه لهذا الفتى، وزوّجه من ابنتِه الوحيدةِ بدر البدور التي سُرعان ما طلبتْ منه العفوَ عن إخوتها الثلاثة، فرفض طلبَها، لأنّ الملك الرّاحل كان قد أوصاه- وهو في النَّزْعِ الأخيرِ(10)- أن يتركَهم وشأنَهم في منفاهُم البعيدِ البعيدِ.‏

(1) تربّص به: انتظر به شراًّ.‏

(2) سداد الرّأي: استقامته وصوابه.‏

(3) على مضض: على كره.‏

(4) الصَّوْلجان: عصا معقوفة، يحملها الملوك والسّلاطين.‏

(5) صاغراً: ذليلاً مهاناً.‏

(6) المتجهّم: العابس.‏

(7) تميّز من الغيظ: تقطّع، وتمزّق.‏

(8) أعرض بوجهه عنه: صدّ، وولّى، ومال.‏

(9) رابط الجأش: ثابت عند الشدائد، وقويّ العزيمة: قويّ الإرادة.‏

(10) النَّزْع الأخير: احتضار المريض، ونَزَع: أشرف على الموت.‏


المراجع

الموسوعة الالكترونية العربية

التصانيف

قصص الأطفال  مجتمع   الآداب   قصة