- ذكَّرْتنِي بِي
عَرَضَاً نظرتُ في المرآة الكبيرة المُعَلقة على حائط الردهة فرَأيتكَ. "هُوَ" "أنا" قلت لنفسي بطريقة آلية. لكنها بدت لي غير حاسمة. ولأول مرة أنتبهُ لما غفلت عنه بِحُكم الاُلفة:
ــ ما الذي حدث لهذا الذي أراه في المرآة؟ وما الذي تغيَّر فيه وفِي؟
أعرف أننا نقيم في جَسَدٍ واحدٍ: ننام معاً, ونستحم معاً, ونشرب القهوة المُرَّة معاً كذلك.
لكن هذا ليس كافياً للقول أننا الشخص نفسه | الشخص الذي كُنَّاه قبل سنوات مثلاً | ؟
كلانا تغيَّرَ, هذا مؤكدٌ. لا أقصد في الملامح المظهرية فقط ــ فهذا متوقع ــ بل فيما هو أعمق:
هو مبتسمٌ وأنا حزين. هو واثق ٌهادىءٌ, وأنا متشكِّكٌ قلِق. هو إجتماعيٌ وعَمَلِيٌ, وأنا متوحِّد متأمِل. هو واقعيٌ متمَرِّس ٌ وأنا مثاليٌّ حالم.
لكن أكثر ما رأيته, هو التعبُ والعزوفُ البادي عليه, بينما ما زِلتُ فتِيَّاً مُولعاً بالبحث والإشتباك.
- * *
- ما الذي فرَّقنا بعد إذ كنَّا واحداً؟
- * *
ذكَّرتنِي بي فانتبهتُ, وعاينتُ ما بيننا من تجاذب ومساجلات, ومن تفاهم وتسويات..
ففيما عدا حالات الإنسجام القليلة التي نتوافق فيها, فالمعتادُ أن يحفز ويقود أحدنا الآخرَ تارة, ويثبطه ويكبحه تارة اُخرى. أما أسوأ الحالات, فهي تلك التي يخذله فيها فلا يستطيع التصرف منفرداً إلا في شؤون محدودة. وكم هو مُرَوِّعٌ أن يخذلك جسدك فلا يستجيب لما تدعوه له, ولا تستجيب لما يدعوك اليه.
ــ أتستطيع إزاء هذا شيئا؟
لا أدري | ربما تحاول الإقتناع بتقبل الوضع كما هو, وربما تتحايل على نفسك بطريقة ما. لكنك في الحالين لن تكون راضياً على الأرجح. فجسدك ليس شخصاً أو شيئاً خارجاً عنك يمكنك الإبتعاد عنه وتركه لشأنه. فعندما يقرِرُ عليك أن تصغي, وإلا أجْبَرك ــ حيثما استطاع ــ شِيْمَة المُستبدِّين |
- * *
وإذا كان الناس ــ من حيث هم أفراد ــ معنيين بالإستبداد, فربما ينبغي لهم مساءلة أجسادهم عنه | فقد تطلِعهم مراياهم الداخلية على بعض جوانبه المَنْسِيَّة, أو التي لا يعيرونها إلتفاتاً. وعندها سينتبهون الى المستبد المقيم الذي لا يجدي تجاهله ولا التمرد عليه, ألا وهو الزمن, الذي أوْهَمَ البشرُ أنفسَهم بأنهم أحْكموا السيطرة عليه أو قيَّدوا سلطاته المطلقة, باختراع الساعة |
وهو وَهمٌ أغراهم به التقدمُ التقني الذي حققته الثورات العلميةــ الصناعية, وبخاصة في قطاعات الإتصال والمواصلات والصحة, فدفع فئة منهم للإعلان بزهوٍ عن موت الزمان ونَعْيِه | ــ اُسْوَة بالمكان ــ الذي تم فعلا تحقيق انتصارات مهمة في مجالات معرفته وتغييره وتطويعه وإنهاء حدود العُزلة القسرية التي فرضها على البشر.
- * *
لم يَمُتْ الزمان بالطبع, ولم يَهْرَمْ أيضاً, فيما ظل البشر يهرمون ويموتون وتموت معهم أوهامهم وتصوراتهم الخَلاصِية الموروثة من عهود أسلافهم الغابرين الذين خسروا في معاركهم العديدة في مواجهة الزمان بحثاً عن إكسير الحياة وسِرِّ الخلود.
ورغم أن ذكريات مصير جدهم آدم وجدتهم حواء, وأصداء حكمة جلجامش, ما زالت حاضرة تتردد, إلا أن البشر لم يرتدعوا عن خوض الصراع, ولم يكفوا عن التوق المُعَذِّب للبقاء. وكلما شعروا بالإخفاق في المواجهة, كلما طوَّروا وسيلة تحفظ توازنهم وتعَزِّي رغباتهم. وإذا ما عجزت الوسائل, لجأوا الى الاسلوب المعروف: التحايل على الذات, بتجاهل الموضوع المُؤرِق وتغييبه من وعيِهم |
وربما هُم, لهذا السبب, يتحاشون النظر في مراياهم الجُوَّانِيَّة مُكتفِين بالنظر في المرايا المعلقة على الحوائط.
- * *
ــ الزمانُ؟
ذكَّرْتنِي فانتبهتُ..
ــ عَرَضَاً نظرتُ ــ
وكنتُ ساهياً عني وعنه
- * *
كم كنتُ ساهياً |
كم كنت ساهياً حتى انتبهت:
هو مُقِيمٌ
وأنا..
عَ ا بِ رٌ..
المراجع
almothaqaf.com
التصانيف
تصنيف :أدب تصنيف :أدب عربي قصة
|