لمّا كانت سيارتي في عُنفُوانها كان بعض أقاربي وأصحابي لا يسألونني "كيف حالك؟" إلاّ وتبعها "كيف حال السيارة؟" وكنت على إثر السؤال الثاني أحسّ بهزة في بعض أرجاء وجداني لم أعثر لها عن سبب مباشرآنذاك.
كما صادف أن اندهشتُ لمّا كنتُ ذات يوم في دكان الخياط وسمعتُ زبونا يتحدث عن بعض سراويله كأنه يتحدث عن عشيقته أو عن صديقه أو عن أخيه أو أخته: "بودي أن تفعل بهذا مثلما فعلت بالـ 'ديزل' و... انتظر...انظر، هكذا مثلما سوّيتَ لي الـ'لويس'...وأريدك أن توضّب لي هذا الـ 'كلفن كلاين' كما وضبتَ لي الـ'أرماني' المرة الفائتة..."
لقد تعودنا على تسمية السيارات، مثلا، لتشخيص مُشادات أثناء المرور أو للتعرّف على شخص عن طريق وسيلة التنقل الخاصة التي يقودها، فنقول مثلا: "آه أنت تقصد صاحب الـ'فورد' " أو "ألم تعرف عمّن نتحدّث؟ فأنت رأيته كذا مرة معي؛ ذلك الذي يملك 'بيجو' " وما إلى ذلك. كما أنّ طرح سؤال "ما اسم العطر الذي تفوح به رائحتك؟" لم يكتب له بعدُ أن يتعدّى حدود العلاقات الحميمة بين الأصدقاء أو من نوع "السرّي جدّا".
ومهما يكن من أمر فالعطر والطيب من منتجات الحداثة الأزلية، ما يُِؤهل الإنسان المعاصر، مثل غيره من السابقين، أن "يعطّر" ذاته وذات غيره في الفعل كما في القول : "طيّب الله رائحتك" أو"صباحك فلّ وياسمين". أما أن تتوصل الحداثة إلى "سرولة" و"قمصنة" الإنسان على سبيل المثال، وتشيىء هذا الإنسان هكذا فهي الكارثة العظمى.
"يا لها من مصيبة"، قلتُ في نفسي. "لبستُ جميع ماركات البنطلونات و القمصان وغيرها من الملابس لكن لم ينَلها منّي أبدا شرف مناداتها بأسمائها، أمام العموم على الأقل. ماذا جرى بيننا وبين المدنية والحداثة يا ترى؟"
كنتُ في حِلّ من أية إجابة مقنعة حتى جاء اليوم الذي لاقيتُ فيه جاري الذي استأجر منذ عام تقريبا البيت الذي يلاصق بيتي. لا قيتُه صدفة في يوم شديد الحرّ في الصائفة المنقضية التي تخللها شهر الصيام المبارك. وكان اللقاء في متجر الحيّ أثناء تزوّد كلانا ببعض المشتريات.
وبعد تحيات تبادلناها لإيهام بعضنا البعض بأننا ذوو علاقة موصولة بحُسن جوار، بادر الجار الكريم بغَزل وصلة من الألفة وقال:" ما من شك في أنّ صوت المكيّف يقلقك في هذه الليالي، ويحرمك من النوم، أليس كذلك؟". وإذا بي تحرّجتُ و تمتمتُ وتلعثمتُ لأني لم أسمع قبل ذلك الحين حُكما استشرافيا على تلك الصفة من الصواب. لكني تبسمتُ في النهاية وقلتُ:"لا أدري يا فلان. ربما؛ قد يكون؛ سأستبين الأمر الليلة، مع زوجتي والصغار؛ أنا لستُ متأكدا. لكن ما دمتَ أنت متأكد..."
هل كانت تلك فعلا قراءة استشرافية في أفكار مواطن من قِبل مواطن خبير، وبالتالي محاولة لاقتراح إجابات عن شواغل الأمة مثلما لم يُنجزها أحد في مجال فقه الواقع والاجتهاد المعاصر، أم كان ذلك تبليغا لرسالة تقول: "حتى لو أنا وأنت لا نرى بعضنا البعض كما أوصى به الرسول الأعظم، وذلك بسبب لهثنا اليومي كمن يجري وراء ثعلب لملاحقته دون جدوى بعد أن هرب بدجاجاته وأرانبه ، فإنّ هنالك من يمثلني خير تمثيل: مكيّف الهواء."؟
قاطعني جاري المهووس براحة غيره وبمعالجة حالةٍ من القلق غير مصرّح بها، وقاطع تفكيري ليوغل أكثر في الجانب التقني للمسألة: "أظنّ أنه المطاط العازل الذي من المفروض أن يكون في الأسفل، بين الجهاز الخارجي للمكيّف وذراعَي التثبيت؛ أظن أنّ المطاط غير موجود. وذلك هو سبب الضجيج."
كان الرجل مُصيبا كأفضل ما يكون الصواب، في النظر كما في التطبيق. وما كان مني إلاّ أن أذعنتُ لفلسفته المستنيرة ولمقاربته المتحضرة وقلتُ: "افعل إذن. اقتنِ مطاطا وركّبه."
وودّعتُ صاحبي المتمدّن بابتسامة قلّما ارتسمت بين جارٍ وجارٍ منذ أن عبث ثعلب الحداثة بدجاج وأرانب الأمة العربية الإسلامية قاطبة. "كم هو قارئ هذا الجار...وكم أنا محظوظ... ليته لم يكن مستأجرا بل صاحب المحلّ نفسه. فالمستأجر عادة ما لا يعمّر كثيرا في البيت المأجور في ربوعٍ تُعبد فيها الملكية الخاصة عبادة. كثّر الله من أمثاله."
انصرف صاحب المكيّف في حال سبيله لكني بقيتُ منجذبا إلى ذكرى ما يسمى في تاريخ بلادي بـ"معاهدة باردو". صحيح أنّ "الباي" مَلك بَرّ تونس في الحقبة الحُسينية، وهو محمد الصادق باي حينئذ، كان قد وقّع في 12ماي 1881، في ضاحية 'باردو' العريقة التي كانت واحدة من إقامات الباي التاريخية، معاهدة مع فرنسا خولت لها أن تدخل بلدي بداعي "الحماية". وصحيح أيضا أنه ما كانت فرنسا لتخرج من ديارنا إلاّ بعد خمسة وسبعين عاما من الكفاح المرير. لكن ما الذي عساه يصحّ من معاهدة جاري المُجتهد التي وقعتها معه من دون إلزام؟
في الحقيقة لم يكن يهمني كم طول المدة التي سيقضيها جاري في الدار المأجورة، ولا قِصرها، إذ إني لستُ صاحب الدار، ولستُ من هؤلاء الأغلبية الذين يفضلون ملكية البيت مقابل الارتهان بواسطة القروض البنكية وقروض التأجير المصرفي، على الاكتراء المنظّم لمحلات السكنى. ثم إني لستُ وكيلا للمؤجِّر حتّى يعقد معي جاري مثل تلك الصفقة المباغتة، لو افترضتُها جدلا محاولة من الجار لتطويل مدّة إقامة تبدو له هو، دون سواه، غير مرغوب فيها. فماذا كان يخبئ لي المستقبل؟
مرّت أيام وأسابيع ولم أسمع من عند جاري السخي سوى جعجعة الهيكل الحديدي للمكيّف ودويّ محرّكه وطنين مروحته؛ ليلا ونهارا. فتناسيتُ موضوع المعاهدة. إذ لم تكن تلك المرّة الأولى التي يفقد فيها عربي مسلم مهارات التزامن بين القول والفعل.
لكن قبل حلول الشهر الكريم بأيام قابلتُ جاري المُبرّد. وكان ذلك على الطائر، كما يقال في لغة الكرة. وإذا به يتوقف فجأة عن السير كالذي تذكر حدثا مهمّا طال عليه العهد ثم قال:
- ما قولك؟
- " في ماذا؟" كان ردّي أسرع ممّا توقعتُه أنا بنفسي.
- في المُكيّف. لقد أبطلتُ العمل به. يكفيك ويكفيني هرجا. ما قولك؟
لم أردّ عليه لأن فكري كان في تلك اللحظة بالذات ملتزما بمحاولة استشراف ولو صورة واحدة من شهر رمضان المعظم الذي كان على الأبواب: صورة تُصفد فيها ثعالب الحداثة من جملة الشياطين؛ صورة استأثرَت ببصيرتي بشكل جعلني أفضّل، كإنسان عربي مسلم، أن يلتهم ثعلبٌ دجاجي وأرانبي عن أن يلتهم مكيفُ الهواء شواغلي وطموحاتي وتطلعاتي المكيفة للوعي فيحوّلها إلى أهواء.

  • م.ح:باعث فكرة "الاجتهاد الثالث" و"أتكلم إسلام"

المراجع

pulpit.alwatanvoice.com

التصانيف

فنون  أدب  مجتمع   الآداب   قصة