أشرت غير مرّة في بحوث منشورة على موقع الأوان وعلى موقع سؤال التنوير إلى أنّ "الأمّة جماعة سياسيّة وأخلاقية"، وأنّ الدولة الوطنية الحديثة هي "الحياة الأخلاقية للشعب"، تحمل الخصائص الجوهرية للأمّة، أي إنّها كيان سياسيّ وأخلاقيّ، هو "تجريد المجتمع المدنيّ وتجريد كلّ فرد من أفراده". وبيّنت أنّ مخاطر تسييس القومية (= الإثنية) وتسييس الفكر، كتسييس الماركسية مثلاً، لا تقلّ عن مخاطر تسييس الدين، انطلاقاً من بديهية الفرق بين الشخص الطبيعيّ والشخص الاعتباريّ. فالدولة شخص اعتباريّ لا يجوز أن يوصف بأيّ من صفات الفرد الطبيعيّ. ولا يحقّ لأحد، بالمقابل، أن يطالب الأفراد بالتخلّي عن شروطهم الثقافية، ولا سيما الدينية والمذهبية والإثنية أو عن انحيازاتهم وتفضيلاتهم الأيديولوجية.
فإنّ تجربتنا الخاصّة، في نصف القرن الماضي، تملي علينا إعادة تعريف العلمانية بدلالة المجتمع المدني الحديث والدولة الوطنية الحديثة، وبسط معنى الوطنية، الذي يكشف تعارض الدولة السياسيّة مع جميع الشروط والافتراضات المسبقة، غير السياسيّة، إثنية كانت هذه الشروط أم اجتماعية (طبقية) أم أيديولوجية أم مذهبية. وذلك انطلاقاً من افتراض أنّ العلمانية هي جوهر المجتمع المدنيّ الحديث والأمّة الحديثة وجوهر الدولة الوطنية الحديثة ومضمون الوطنية، أعني التساوي في الإنسانية وفي المواطنة بالتلازم الضروري، وإلا ستظلّ الوطنية، قيمة معيارية تفاضلية، وشكلاً خاوياً من أيّ مضمون. التساوي في الإنسانية وفي المواطنة هو المبدأ والأساس، وجميع المسائل الأخرى تابعة له ومحكومة به.
يتعلّق الأمر إذاً بما سمّاه كارل ماركس "الانعتاق السياسيّ" و"الانعتاق الإنسانيّ"، وسوف نتوقّف عند الانعتاق السياسيّ بوصفه شرطاً ضرورياً، لازماً، للانعتاق الإنسانيّ، لا على صعيد الوعي والفكر فحسب، بل على الصعيد الواقعيّ؛ ولأنّ الشارط يتضمّن المشروط على نحو يجعله حاضراً في جميع تفاصيله، وإن بصورة جنينية أو وجود بالقوة؛ أي إنّ الانعتاق الإنسانيّ حاضر في جميع تفاصيل الانعتاق السياسيّ وموجود فيه بالقوة، لأنّ الأفراد لا يمكن أن ينعتقوا من روابطهم الأوّلية وشروطهم المسبقة ما لم يعوا ذواتهم كائنات إنسانية عاقلة وأخلاقية، وما لم يكتشف كلّ منهم عناصر الكلية والعمومية في ذاته، وهو ما حدا بنا إلى القول إنّ الإنسانية هي أساس الوطنية ورافعتها، ومن ثمّ فإنّ انتماء الفرد إلى جماعة سياسيّة، أي إلى أمّة حديثة لا يتعارض مع انتمائه إلى الجماعة الإنسانية، بل هو مؤسّس عليه ومحدّد به.
نعني بالانعتاق هنا انعتاق الدولة، لا انعتاق الأفراد والجماعات، من الشرط الدينيّ أو المذهبيّ (دين الدولة، ودين رئيس الدولة أيضاً) ومن الشرط الإثني (إثنية الدولة، عروبة الدولة مثلاً) ومن الشرط الاجتماعي (طبقية الدولة)، ومن الشرط الأيديولوجيّ (تقدمية الدولة أو ثوريتها) ومن سائر التحديدات الذاتية ما قبل الوطنية، التي تحول دون ارتقاء جماعة ما وتحولها إلى جماعة سياسيّة، أي إلى أمّة حديثة، وتحول من ثمّ دون قيام دولة وطنية / قومية حديثة هي دولة حقّ وقانون لجميع مواطنيها بالتساوي وبلا استثناء. الانعتاق السياسيّ، بهذا المعنى، شرط لازم لتساوي جميع أفراد المجتمع المدني في عضوية الأمّة وفي عضوية الدولة / الأمّة، بالتلازم، أي شرط لازم للمواطنة ولتساوي جميع مواطني الدولة المعنية أمام القانون في الحقوق المدنية المتعلقة بالحياة الخاصة لكلّ منهم، بوصفهم أعضاء المجتمع المدني، وفي الحقوق السياسيّة المتعلقة بحياتهم العامّة، النوعية، بوصفهم مواطنين، أي بوصفهم أعضاء في الدولة السياسيّة، وفي استحقاق الحرية، بوصفهم كائنات نوعية، عاقلة وأخلاقية، ماهيتها هي الحرية. ولا سيما أنّ المواطن، الذي هو أساس الدولة الوطنية الحديثة، هو تجريد الفرد الطبيعيّ، عضو المجتمع المدني، كما أشرنا في غير مكان.
إثنية الدولة وطبقيتها لا يختلفان في شيء عن دينيتها، لأنّ هذه جميعاً من قبيل افتراض و
أو فرض شرط غير سياسيّ وغير أخلاقي على الكائن السياسيّ والأخلاقي، الذي هو الدولة، ومن قبيل تحديد العامّ بالخاصّ، وتحديد الكلّ بأحد أجزائه، ومن شأن ذلك أن يبقي على الانقسامات العمودية، التي تحدّ من التواصل الاجتماعي والإنساني، إن لم تحل دونه، وتحول من ثمّ دون انتقال المجتمع المعنيّ إلى مجتمع مدني وإلى جماعة سياسيّة، أي إلى أمّة حديثة.
إنّ "دين الدولة" ينتج بالضرورة معارضة دينية أو مذهبية أو طائفية، لا للسلطة الدينية أو المذهبية أو الطائفية فقط، بل للدولة ذاتها، ولا سيما في ظلّ التباس مفهوم الدولة بمفهوم السلطة. وعروبة الدولة تنتج بالضرورة أيضاً معارضة إثنية، لا للسلطة "القومية"، كسلطة حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية والعراق فقط، بل للدولة ذاتها. واحتكار الدولة، أي احتكار الحقل السياسيّ الوطني، العامّ، من قبل طبقة معينة يخرج الطبقات أو الفئات الاجتماعية الأخرى من دائرة الأمّة ومن دائرة الدولة، وينتج أشكالاً من المعارضة تتعدّى معارضة السلطة السياسيّة إلى معارضة الدولة ذاتها. وهذه جميعاً مما ينفي عن الدولة طابعها السياسيّ، الوطني، وطابعها الأخلاقيّ، ويؤدّي إلى حروب أهلية دورية. الدول التي تنفجر فيها أو يمكن أن تنفجر فيها حروب أهلية ليست دولاً سياسيّة بعد، وكذلك "الدول" التي لا تزال قائمة على مبدأ الامتيازات والولاءات ما قبل الوطنية، لا على مبادئ الحق وحكم القانون، ولا تزال تعاني من تخارج وتفاصل بين السلطة والشعب.
الدولة السياسيّة الكاملة، كما يصفها كارل ماركس، "هي، حسب جوهرها، حياة الإنسان النوعية، العامّة، في معارضة حياته المادية (الخاصة أو الشخصية). كلّ افتراضات هذه الحياة الأنانية تواصل بقاءها في المجتمع المدني، خارج دائرة الدولة، (بوصفها) خصائص المجتمع (المدني) البورجوازي. حيثما وصلت الدولة إلى تفتحها الحقيقي، يعيش الإنسان، لا في الفكر، في الوعي فقط، بل في الواقع، في الحياة، وجوداً مزدوجاً: سماوياً وأرضياً: الوجود في الجماعة السياسيّة، أو الاشتراك السياسيّ، حيث يعتبر (الفرد) نفسه كائناً عاماً، والوجود في المجتمع المدني، حيث يشتغل (الفرد) كإنسان خاص. …. الدولة السياسيّة روحانية إزاء المجتمع المدني، بقدر ما السماء روحانية إزاء الأرض؛ إنها إزاءه في نفس التعارض، تتغلّب عليه بنفس الطريقة، التي بها يتغلّب الدين على العالم الدنيوي: إنها مرغمة على الاعتراف به وإعادته وتركه يسيطر عليها. … النزاع الذي فيه الإنسان، بوصفه معتنقاً ديناً خاصاً، يجد نفسه مع صفته العامّة كمواطن ومع البشر الآخرين بوصفهم أعضاء الجماعة، يعود إلى الانشطار الدنيوي، اللاديني، بين الدولة السياسيّة والمجتمع المدني. …. الفرق بين الإنسان الديني والمواطن هو الفرق بين التاجر والمواطن، بين المياوم والمواطن، بين الملاك العقاري والمواطن، بين الفرد (الطبيعي) الحيّ والمواطن."1
إذاً، الدولة السياسيّة الكاملة، الدولة الليبرالية، دولة الحقّ والقانون، أو الدولة الدستورية، هي، حسب جوهرها "حياة الإنسان النوعية"، هي تعيُّن الروح الإنساني وانبساطه، تعيُّن العقل أو الفكر والضمير، في العالم وفي التاريخ. ولما كان جوهر الدولة هو القانون، فإنّ القانون هو روح المجتمع وضميره الأخلاقي، هو خلاصة الحياة النوعية للإنسان. القانون هو العناصر العقلية والأخلاقية في كلّ فرد من أفراد المجتمع المدني المعنيّ. حياة الإنسان النوعية تعارض حياته الفردية الخاصة أو الشخصية، وهي الحياة الفعلية، الواقعية، للفرد الأناني، ما يعني أن التعارض بين الحياة الخاصة والحياة النوعية هو بالأحرى تعارض جدلي، لا يمكن معه حذف أي من هذين الحدين المتعارضين، بل إن هذين الحدين، اللذين يذهب كل منهما في الآخر، يذهبان معاً في تركيب جديد، في كل لحظة من لحظات النمو والتطور، هذا التركيب الجديد هو الكلية العينية، التي يسري فيها كل ما هو عامّ وكلّيّ في ثنايا ما هو خاصّ وجزئيّ، فيرقى ما هو خاص وجزئي مقترباً شيئاً فشيئاً من العامّ والكلّيّ، وصولاً إلى المجتمع المؤنسن، الذي هو وحدة الخاص والعام، ووحدة الشكل والمضمون، ووحدة الحرية والقانون. على أنّ هذه الوحدة ليست وحدة بسيطة ومباشرة، كاتحاد المتصوف بالذات الإلهية، بل هي وحدة مركبة وغير مباشرة وموسَّطة بالقانون، أو بنمط التنظيم الاجتماعي، وقد صارت الحرية شكله ومضمونه، وصار هو نفسه، أعني القانون، ضميراً أخلاقياً. إن الفرد أو الشعب، الذي يتبع قوانين عامّة في فكره وعمله، سيتطور تاريخياً، لأن القوانين العامّة لها أساسها في العقل وفي الحرية، وهي تنمو مع تقدم العقل، ويمكن تحقق هذا التقدم بصورة أكيدة وعلى نحو أسهل، على أساس أن العقل، في قوانينه، إنما يتعامل مع منتجاته هو، وإذا أراد أن يغيّر هذه القوانين فإنّه ليس في حاجة إلى أن يطلب الإذن من أيّ قوّة غريبة أو مفارقة. أما ما يتخطّى عقل الإنسان، وليس له أن يبرّره أو يسوّغه، فليس للعقل عليه أيّ سلطة. إنّ أيّ شريعة دينية ستحتفظ بقيمتها إلى أن يحذفها من وضعها بالدقة والصراحة اللتين وضعها بهما.
التعارض بين الدولة السياسيّة وافتراضاتها ومقدماتها الأولية، سواء كانت مادية، كالملكية الخاصة، أو روحية، كالثقافة، هو تعارض علمانيّ، دنيويّ، من نوع تعارض المصلحة الخاصة والمصلحة العامّة، أو تعارض الحياة الخاصة والحياة العامّة، أو تعارض الفرد والمجتمع، والحرية الذاتية والحرية الموضوعية (الحرية والقانون)، والأخلاق الذاتية والأخلاق الموضوعية (الاقتناع الذاتي والعقد الاجتماعي). جميع هذه التعارضات تنحلّ في تعارض الدولة السياسيّة والمجتمع المدني. وهو تعارض بين حدين كل منهما ضروري للآخر، بالقدر ذاته، وانتفاء أحدهما هو انتفاء الآخر بالضرورة. فإنّ تمييز المجتمع المدني من المجتمع السياسيّ وفهم التعارض الجدلي بينهما، ووعي واقع أنهما معاً كلية عينية، أو وحدة تناقضية ثلاثة شروط ضرورية لوضع العلمانية في سياقها الواقعي، بوصفها جوهر الدولة السياسيّة، أو الدولة الوطنية وحقيقتها الواقعية.
الدين من أبرز خصائص المجتمع المدني، والتعارض الجدلي بين المجتمع المدني والدولة السياسيّة يخترق جميع عناصر الكلية العينية (وحدة المجتمع المدني والدولة السياسيّة) وجميع مستوياتها؛ أحد مستويات هذا التعارض هو تعارض الدين والدولة الذي يمكن أن يسفر عن واحدة من ثلاث نتائج: إما أن يطغى أحد الحدين على الآخر فنكون في الطغيان، طغيان الدولة الدينية، المسيحية أو الإسلامية أو اليهودية أو غيرها، أو طغيان الدولة الملحدة، والطغيان بالتعريف هو إخضاع الكلّ لأحد أجزائه إخضاعاً يستدعي جميع أشكال العنف والإكراه. وإما أن يسقط الحدّان معاً، فنكون في الفوضى والدمار الذاتي، أي في العدم والعماء وحرب الجميع على الجميع؛ وإما أن يذهب الحدّان الجدليان في تركيب جديد، في كلّ لحظة من لحظات النمو والتطور، فنكون في بداية سيرورة تفضي إلى أنسنة الدين والدولة معاً، وهذا ما يعني بالضبط وقعنة العناصر الإنسانية التي ينطوي عليها أي دين خاص من الأديان وأي مذهب من المذاهب، في الدولة، ووقعنة عمومية الدولة، بما هي كائن سياسيّ وأخلاقي عامّ وكلّيّ، أي بما هي حياة الإنسان النوعية، في الدين الخاص. في هذه السيرورة يصير المسيحي أو المسلم أو اليهودي أو الملحد مواطناً، مع بقائه مسيحياً أو مسلماً أو يهودياً أو ملحداً، وينمو الدين ويتطور في المجتمع المدني وفق قوانينه الخاصة، بكفالة القانون، شأنه في ذلك شأن أي مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني.
المراجع
alawan.org
التصانيف
تاريخ أحداث قصة
|