نقدم في ما يلي مساهمة ثانية (انظر الأولى) صدرت في الملف الذي نشرته صحيفة "لومند" بتاريخ 21 نوفمبر 2008 محوصلة به أعمال الملتقى الذي التئم بمدينة لومان الفرنسية حول موضوع "من أين أتينا؟ عودات إلى الأصل" .المساهمة كانت لـ"ليدي سالفار" Lydie Salvayre وهي كاتبة و طبيبة نفسية فرنسية من أصل إسباني.
رواية الأصول، أصول الرواية
(إن لذة الإبداع يمكن لها أن تبرز من البون الفاصل بين الموروث العائلي والرغبة في التحرّر منه)
ترعرعتُ محرومة من حضور أجدادي - للأب و للأمّ - الذين بقوا مقيمين بإسبانيا بعد الحرب الأهلية، وكبرت محرومة من هذه القطعة من إسبانيا التي كان والديَّ لا يفتآن يستشهدان بها والتي كانت بالنسبة إليّ شيئا مجرّدا.
بعد سنوات من ذلك، انتهيت إلى مساءلة نفسي: هل تكون الرغبة الخيالية عندي، والتي دفعتني إلى كتابة الروايات، ناجمة بالضبط عن هذا الاقتطاع أو البتر في رواية أصولي، عن هذا النقص في السلالة التي كان من الضروري أن أخترعها أو أعيد اختراعها وبناءها من جديد، عن هذه الرغبة في أن أتبنّى قصة " مثقوبة " وأن أملأ فراغها بشيء من الخيال.
ببلوغي سن المراهقة، أصبحت قصّة أصولي، بالنسبة لي، قضية ً ومعضلة ًإن لم أقل انفطارا وتمزّقا. لقد كان هناك كلّ الذي ورثته، سواء كنت محبّة له أم لا: المقام الاجتماعيّ، اللغة، الثقافة، الموروث الجينيّ، المعتقدات، كلّ هذه الأشياء المفروضة، كلّ هذه الأشياء التي تشكّل إرثا لا أستطيع التخلّص منه والتي أرزح تحت وطأتها وتحبسني في سجنها والتي من المفروض أن تكون المحدّد لماهيتي.
وكان عندي في نفس الوقت هذا الحدس القويّ بأنّ حقيقتي الداخلية – في ما يخصّها – متحرّكة وغنيّة بالمشاريع والوعود والرفض و(آمال) المستقبل والانفتاح على كلّ ما هو ممكن، وهي ليست من ذلك النوع الذي يمكن الإحاطة به بسهولة أو الذي يمكن مطابقته سويا مع تلك الهوية المرغمة التي تضفيها عليّ الحُلـّة الجاهزة لأصولي.
لقد لاحظت منذ ذلك الوقت، أنّ كلّ المراهقين – وعدا ذلك، كلّ الناس – يشعرون بنفس ذاك البون أو التباعد الفاصل بين حقائق ورغبات متعدّدة ومتساوية: بين الوفاء لموروث والرغبة في التحرّر منه؛ بين الرغبة في إحداث التباينات والرغبة في إنكارها؛ بين الرغبة في نبش التاريخ والرغبة في ردمه ونسيانه؛ بين الرغبة في التقيد بالذات والرغبة في انتحال ذات أخرى.
هذا البون – وأنا واثقة من ذلك – هو خصب وحيويّ. وهو يبرز أنّ "الأنا" ليست واحدة، بل هي جمع، هي حشد من "الأنوات"، متراصّة بعضها فوق بعض كالصحون أو الأطباق بين يدي النادل ( حسب تعبير فيرجينا وولف ). هذا البون يسمح أيضا بأن نواجه مسألة حريتنا أمام هذه الأصول التي يطالبوننا بالالتزام بها، إذا صحّ القول.
هذا البون إذن هو الحياة في الصميم، وإننا لنخشى الأسوأ إذا ما عطّلنا حركته. غير أنّه يحصل له أن ينسدّ أو ينغلق ويُمنع في حالتين متماثلتين.
سباحة بين الضفتين
حالة أولى، يكون فيها المراهق على جهل بأصوله (التاريخية) التي يُنظر إليها كأصول مخجلةٍ أو ثقيلةِ الحمل عليه أو مُعطـِّلة لاندماجه في المجتمع. مثل ذلك الجهل هو مُشجَّع بكلّ مكر من قبل العولمة، الملغية لكلّ أثر للماضي، للتفرّغ لسلعة حاضر أزليّ. فلماذا التشبّث بأصل أو بموروث عندما يكفّ كلّ شيء عن التوطّن ويصبح قابلا للتصدير والشراء والترحيل؟
حالة ثانية، يكون فيها المراهق – بالعكس- مجبرا على الوفاء المطلق لأصوله الدينية والاجتماعية والثقافية، التي يقدّمها (له) وسطه كأصول صافية وثابتة على الدوام، وهي لذلك تحظى بالإجلال وتـُنـْسب لها صفات الكمال، فلا تقبل الجدال ولا تتوانى في سحق كلّ رغبة في التحرّر منها بالعنف (إن اقتضى الحال).
وبالرجوع إلى موضوعنا: كيف تعمل مسألة الأصول على انبثاق الحركة الإبداعية وتخترقها وتسمح بوقوعها، أعتقد في ما يخصّني، أنّ ذلك يكمن في هذا البون الذي تكلّمت عنه سالفا، هذا الموقع المتقلّب داخل اللغة ( الاسبانية كلغة أمّ والفرنسية كلغة تعلّم )، هذه الاستحالة كي أتطابق مع هوية محدّدة (مسبقا) بكلّ دقّة، هذا التوزيع بين انتماءات متعددة وهذه السباحة بين ضفتين كما يقول "شاتوبريان". أعتقد بالضبط أنّ هذه الرغبة في التحكّم في لغة وتاريخ وأصول - والتي باءت بالفشل - وكلّ هذه التوتّرات المتناقضة - التي انتهيت مؤخّرا بقبولها - هي التي سمحت لموهبة الكتابة عندي بالانبثاق والتحقّق.
المراجع
alawan.org
التصانيف
فنون تصنيف :أدب مجتمع