تهويمة أولى:
أميركا .. الإمبراطورية المزعجة
|
لست ممّن يتوقعون أنّ أميركا أوباما ستكون نقيضة لأميركا جورج بوش.. أو أنّ التغيير ـ خصوصاً في السياسات الخارجية ـ سيكون فارقاً، على العكس فأميركا هي أميركا.. براغماتية ومصالحها أوّلاً، تغامر، تبادر، تحاور، تبطش، تتخبط، تتغير، تتطوّر، تصلح أخطاءها … وتستمرّ صعوداً بالمعنى التاريخيّ للصعود والارتقاء.
طالما أزعجتنا هذه الإمبراطورية التي لا تكفّ عن الحلم في الهيمنة والغطرسة والامتداد.. وفي الوقت نفسه لا تكفّ عن الحلم التقنيّ والعلميّ ـ الفلسفيّ والأدبيّ أيضاً ـ نحو إنسانية جديدة تقودها (أميركا الطيّبة) كما أراد لها مؤسّسوها الأوائل .. إنسانية كونية تقوم على الديمقراطية والحريات العامة.
طالما أطلقنا الشعارات وجيّشنا الأيديولوجيات والمعلّقات العصماء ضدّها .. وأطلقنا لأحلامنا، في الوقت نفسه، حرية معانقة تمثال الحرية في نيويورك..
وطالما أخذت الكثير من الديكتاتوريات المتخلفة والعسكرتاريا القبيحة شرعيتها عندنا .. فقط بسبب عدائها لأميركا. وتمّ تكفير الكثير من الأحزاب والهيئات والمنظمات السياسية والثقافية الوطنية.. فقط لأنها حملت شيئاً من ليبرالية أميركا. وطالما جعنا وعرينا وشددنا الحزام فوق الحزام وتحوّلنا إلى قطيع من الجمال الجرباء، ونحن نهتف وراء القادة التاريخيين (اللعنة على أميركا).. بسبب مقتضيات الصمود والتصدّي | |
وطالما حلّل (جهابذتنا) من مفكّرين وكتّاب وسياسيين (والأهمّ الأهمّ رؤى المشايخ والأسياد) مبشّرين بأفول العصر الأميركيّ وانهيار (إمبراطورية الشر) بمعاول أشاوس برابرة القومية والأصولية .. أصحاب الرسالات الخالدة وحملة مفاتيح الجنة.
ولكنّها أميركا | |
أميركا الصبية المغامرة التي استطاعت الحفاظ على شبابها والرقص على الرمال العالمية عارية دون أن يهرم جسدها أو يتهدّل نهداها.. بلحظة أثبتت للعالم أجمع أنّها قادرة على هزم أصولييها (البيض) رافضي المساواة، وهزم صقورها ومحافظيها الجدد ـ دعاة الحرب ودعاة المسيح المقاتل، باللعبة البرلمانية المسالمة.. وبأنظمة المواطنة الحقّة التي تعانق جدل الحرية وجدل التاريخ.
تهويمة ثانية:
صناديق الاقتراع للأرض .. وليست للسماء
امرأة سوداء ولدت عام 1902، أَمَةٌ عند أسيادها البيض.. لكنها عام 2008 ذهبت إلى صناديق الاقتراع على نقالة لتصوّت في الانتخابات الرئاسية لمرشّحها الأسود (ابن حسين المسلم) وابن مجاهل غابات كينيا باراك أوباما، الذي احتفلت به أميركا البيضاء والسوداء والملوّنة رئيساً للولايات المتحدة الأميركية.
نقلة تاريخية، وانتصار كونيّ لقيم المواطنة والحياة البرلمانية وقفزة عظيمة على طريق عالم يخلو من العنصرية. هذه أميركا | |
أميركا التي سبقت العالم أجمع واحتفلت بابن (الزنجي المسلم) رئيساً ليحكم العالم وليس أميركا فقط.. ونحن عرب العنصرية والمذهبية والطائفية، عرب أهل الذمّة وعرب الروافض والنواصب نلعلع باسم الله والأمة ضد أميركا ونحن نختال بـ (الإسلام هو الحلّ) | |
طوابير بالآلاف تنتظر ساعات لتصوّت لمرشّح البيت الأبيض، أكثر من مئة مليون مواطن أميركيّ، من أعراق وأديان ومذاهب وثقافات مختلفة ومتخالفة، استنفروا في لحظة فاصلة للتصويت.. ولمحاسبة سياسات ثماني سنوات، كانت حمقاء وفاشلة..
ساحات بمئات الآلاف ترقص وتغنّي وتبكي فرحاً للرئيس الرابع والأربعين لأميركا ـ الرئيس (المسلم) و(الزنجي) الأوّل للإمبراطورية الأقوى في العالم.
ساحات لا تصوّت (بالروح.. بالدم) ولا تعترف بالـ (99،99) التي أكلت الأخضر واليابس من حياتنا.
ساحات لا تصوّت عقائدياً ليفوز أصحاب (الآخرة) فيها، فلا أخوية إسلامية ولا احتكار لله بحزب ولا حرس ثوريّ يثأر لدماء الحسين، ولا هيئة تفصّل المعروف والمنكر على مقاس (دشاديش) الصحابة و(لحى) الأئمة، فصناديق الاقتراع صمّمت للأرض وليس للسماء ولا تعترف بالمذاهب والمحاصصات المتخلّفة عن الوطن والمواطنة.
ساحات يدهشها أنّ عالمنا العربيّ والإسلاميّ لا يعاني من أزمة رئاسية، فمن المحيط إلى الخليج، ممالك قائمة على التوريث والتعثيث والفساد.. ربما باستثناء لبنان وهو الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
تهويمة ثالثة:
نحن المقهورين في العالم يحقّ لنا التصويت على مرشّح البيت الأبيض | |
ربما لا توجد في العالم انتخابات أكثر إثارة من هذه الانتخابات، انتخابات تستمرّ قرابة العام، تشغل أرصفة بغداد وطهران وكابل والخرطوم ودمشق وموسكو ولندن… مثلما تشغل أرصفة شيكاغو وكاليفورنيا وتكساس.
والنقص الوحيد في هذه الانتخابات أنها ليست عالمية، إنها الانتخابات التي يجب أن تصوّت الشعوب في البرازيل وفنزويلا وبوليفيا وبقية دول أميركا اللاتينية، كذلك في الصين والهند وتركيا والباكستان وإيران .. وبالتأكيد في أفغانستان والعراق المحتلَّين مع بقية دول آسيا.. كذلك الأمر في مصر والسودان ونيجيريا .. وبقية الدول الأفريقية.. ولن ننسى شعوب القارة البيضاء وعلى رأسها شعوب بريطانيا وفرنسا وروسيا.. ومؤكد شعوب كندا وأوقيانوسيا بكلّ جزرها وصحاريها الجليدية.. والأسباب واضحة فرئيس البيت الأبيض والمؤسسات الأميركية يقرّران مصائر هؤلاء جميعاً، أو كحدّ أدنى له من التأثير أكثر من أيّة قوة داخلية في أية دولة من دول العالم على نظام الدولة نفسها.
ومن أبسط قوانين الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدنيّ أن يكون للناس المحكومين من زعيم ما، رأي في اختياره (صحيح أنها قاعدة لا نعرفها في حياتنا المشرقية).. ولكنني أعتقد أنّ العراقيّ اليوم أو الأفغانيّ يحق له التصويت في اختيار الرئيس المقبل لأميركا أكثر من الأميركيّ نفسه | |
أيضاً السبب بسيط، الرئيس الأميركيّ لا يستطيع التحكم كثيراً فيما يتعلّق بالحقوق الأساسية للمواطن الأميركي: حقّ الحياة، الحريات العامة ـ خصوصاً حرية التعبير ـ حقّ التعليم والعمل، حقّ (صباحية) مع الأولاد، حقّ التنزّه مع الكلب أو صيد السمك مع صديق أو صديقة.. لكنّ الرئيس الأميركي يتحكّم بكل هذه الحقوق ـ وربما أبعد منها أيّ ما يتناول مصير الأولاد وأولاد الأولاد، للأفغانيّ أو العراقيّ اليوم .. وإذا أردنا التوسّع فهو يتحكّم بحقوق (يمتلكها) المواطن الخليجيّ أو المصريّ أو الباكستانيّ أو التركيّ أو .. غيرهم من مواطني العالم، أكثر مما تتحكم بهذه الحقوق أنظمة دولهم نفسها | |
تبدو المسألة بسيطة، يحقّ لنا نحن شعوب العالم المقهورة، من الإدارة الأميركية ومن شرطيي بلادنا..
ومن آلة القمع العالمية ومن آلة القمع (الوطنية)..
من غزو (العولمة) ومن غزو (المحلية)..
من يد الله التي كانت (تحرّك) بوش ومن يد الله التي مازالت (تحرّك) القرضاوي..
من ارتفاع أسعار النفط ومن انخفاض أسعار النفط..
من تأزّم أسواق المال في (وول ستريت) ومن انفراج أسواق المال في (وول ستريت ) ..
من الإرهاب ومن الحرب على الإرهاب..
من الأنظمة الوطنية ومن استهداف الأنظمة الوطنية بقصد تغييرها …
مقهورون حتى من أسراب النمل التي تعشش داخل نوافذنا الخشبية، ومن مجتمعات الفئران التي تسكن تحت بلاط غرف نومنا….
نحن المقهورين حتى نقيّ العظام يحقّ لنا التصويت على اختيار المرشح الذي سيقطن البيت الأبيض
المراجع
gerasanews.com
التصانيف
تاريخ أحداث أحداث جارية قصة
|