ياسر ود سلمو

اعتدت منذ صغري النظر للغيوم، محاولاً استخراج صورة ما من تقاطعاتها وتراكباتها...
كنت أفرح كلما رأيت منظراً غريباً بين أحضان السماء، لا أفكر في تنبؤات الناس المعتادة أهي ممطرة أم عارضة، أأمطارها غزيرةً أم رذاذات فقط، وكذا لا يلفتني أهي صيفية أم خريفية أم أم... بل أنظرها كأنها لوحة تشكيلية جميلة، هدفي فهْمها بإيجاد رسمٍ مُبدَع فيها...
تتكرر وقفاتي تلك مراراً على السطح، وأحياناً تكون لِلحظات وأحياناً تطول لدقائق بل إنّ مرة صعدت فيها السطحَ استغرقتني ساعتين متأمّلاً، المدة يحكمها عمقُ الصورةِ وما تخرجه لي من صور أخرى من الذاكرة وما ينتج من خيالات وأفكار بعد امتزاج الأولى بالأخيرات...
مرّة شاهدت أرنباً في السماء، وأخرى شاهدت وجه نمرٍ يرقبني، ناظراً إلي مباشرة، وثالثةً شاهدت سفينة تبحر في أمواج متلاطمة، ورابعةً رأيت شجرة بأغصان مورقة...
اليوم وبعد الغروب مباشرة وقفت على الجانب الغربي من السطح وفي نفس المكان الذي أقف فيه عادة وبنفس طريقة الوقوف المعتادة وأمسكت بالحديد الذي يرتفع عن حائط السطح بالطريقة المعتادة، أضع يدي كمن يركب قارباً ممسكاً بمقدمته، راحتاي على الحديد وعيناي للسماء، التقطت الصورة بابتسامة ـ كالعادة ـ: "إنّها بارودة (بندقية)"، اتسعت الابتسامة للحظة فرحاً بنجاح تحليل الصورة، ثم ما لبثت أن انقلبت عبوساً، ويلاه ويلاه كيف تجرئين؟؟ كيف تنظرين بهذه السوداوية، لم رأَيتِها بارودة، ولم تريها خبزاً، أو قارباً، كما فعلتِ في مرّات سابقة؟؟ لمَ تفعلين ذلك بي؟ مزّقت الحلم اليقظ، وطلبت من العقل أن يفصل بيني وبين نفسي التي قالت بارودة، تدخّل على الفور وخاصة وأنه ـ على ما يبدو ـ ينتظر هذه الفرصة من زمن بعيد...
وبعد تحليلات ومعادلات أجراها هو الآخر بشكل أصابني بالملل، خلصت حكمته ومحاكمته إلى اتهام أمريكا بالمسؤولية عن تلك الصورة...
قهقهة عالية أتت مني في غير مكانها وزمانها ـ حسب مقاييس اللباقة والبروتوكول ـ، حتى أنا أيضاً كيف؟ ولست بنواحي العراق أو جبال الأفغان... إنّها نكتة، بل سخافة، ألم يبق غير أمريكا لأعلقّ عليها سوداوية خيالي، يالك من ظالم، لا لا، لا أتفق معك أبداً...
بعد أن صمت صخبي وسكتت حماستي، أجاب صوت العقل: إنّك اليوم شربت القهوة وأنت تقرأ أخبار المسجد الأحمر المحمرِّ بدماء طلابه، وكنت أفطرت مع خبر اسقاط القنابل على رؤوس القلة الباقية من أطفال أفغانستان، وبالأمس تسلّيت بالزبيب وأنت تسمع تمزيق مئات العراقيين، وقبله شاهدت و و و... فكيف تستغرب أن شاهدتها بارودة؟ و إِن لم تكن تلك اللقيطة هي المسؤولة عن مقِيت أفكارك، فمن؟

المراجع

شبكة المشكاة الاسلامية

التصانيف

تصنيف :قصص اجتماعية