للعنة هي مصيرٌ محتوم لا مجال لتجنّبه أو للهروب منه، هي القَدَر والمصير، هي شبحُ الميّت الذي يُطارد القاتل في صحوه ومنامه وفي حلِّه وترحاله. كانت اللعنةُ لدى الإغريق أمراً نافذاً لا حول ولا قوّة للمرء على ردِّه، فرغم أنّ أوديب ولايوس وجوكاست قد فعلوا كلّ ما كان بوسعهم للتخلّص من لعنتهم أو من مصيرهم، إلا أن ذلك كان مُستحيلاً وفقاً لإغريق ذلك العصر.
هكذا وبعد أن كانت الأسطورة تضطلع بمهمّة تفسير العالم بأسلوبٍ شاعريِّ يقوم على البلاغة وقوِّة التخيُّل، فإنّ الفلسفة ستُعلنُ عن ميلادها في اليونان في القرن السادس قبل الميلاد بوصفها البديل الشرعيّ، بل والنقيض المباشر، عن ذلك التصوّر الشّعريّ الأُسطوريّ. لقد حدّدت الفلسفة مناطق نفوذها بإخراج ما أسمته بالخطاب غير الفلسفيّ أو الخطاب السّابق على الفلسفة أو النقيض للفلسفة خارج حدود أسوارها التي غدّت منيعةً من حينها. ولكن هل أدركتْ الفلسفة يومها أنه لا يمكن لها أن تتحدَّد إلا في مقابل نقيضها أو بفضله؟ وهل أخذتِ الفلسفة بحسبانها أنها ستمضي بقية عمرها المديد في محاربة شبح الشِّعر؟
أياً يكن، فقد كسب الخطاب الفلسفيّ معاركه تباعاً فانتصر سقراط على السفسطائيين وصار الفيلسوف على يديه هو الأنتي-سفسطائي والفلسفة هي نقيض السفسطائية، نقيض ما كان للفلسفة بدونه أن تأخذ ملامحها وما كان لها أن تسود إلا بإقصائه وحجبه وتهميشه. فإذا ما كان السفسطائيون قادرين على إثارة النفوس بخطابٍ بلاغيٍّ شعريّ يتعلّق بالمحسوس، فإنّ الخطاب الفلسفيّ بصيغته السقراطيّة يريد الارتقاء والتعالي عن هذا الأرضيّ الممسوخ والمشوَّه نحو الحقيقة الكليّة التي تتجلّى فيما سيتمّ التعارف عليه بعالم المُثل الأفلاطونيّة. ستختتم الفلسفة معاركها القديمة بقيام أفلاطون بطرْدِ الشعراء من جمهوريته وإعلانه للفلسفة ميداناً متحرِّراًًَ من الشِّعر. مع أفلاطون تتعارض المقولات وتتواجه حيث يتعارض الشِّعر مع الفلسفة والحقيقة مع الفنّ. بهذه الطريقة أقصت الفلسفة معارضيها (الشعراء) وقامت بتصفيتهم.
لكنّ الخطاب الشِّعريَّ البلاغيَّ الذي تمَّ تهميشه وإقصاؤُه والإجهاز عليه، صار من حينها لعنةً تُطارد الفلسفة التي حدّدتْ مداخل مملكتها ببوّابات العقل والسببية والمنطق وسهرتْ على منع الشِّعر من الدخول إلى أسوار تلك المملكة. رغم تلك الحراسة المُشدَّدة يتمكّن الشِّعر من التسلُّل والدخول مُتنكِّراً إلى الأرض (المُحَرَّمة) التي طُرِدَ منها. وإذا كان آلهة اليونان يتنكّرون على هيئة بشر ليختلطوا مع الناس، فإن الشِّعر سيتنكِّرُ بلبوس العقل ليخدع حرّاس الفلسفة ويلج إليها في العصور الحديثة بعد طول انتظار.
هكذا سيُشرْعِنُ فريدريك شيلر إقامة الشعر على أرض الفلسفة وسيدعو إلى إعادة تربية الإنسان الحديث شعرياً وفنيّاً، وسيتحدّث شلينغ عن عودة انبعاث المثيولوجيا الشعرية التي لا تتحقّق من إبداع شاعرٍ معزول وإنما ستكون صنيعة جيلٍ جديد يمثِّل بكليته شاعراً واحداً، حتّى أنه رأى أن ملَكَة التنبّؤ الشعرية تتخطى العقل الفلسفيّ حيث يشبهها "بعجاج الآلهة القدماء وقد اختلط". على هذا المنوال سيكتب تلميذه الشاعر-الفيلسوف شليغل عن إمكانية إعادة إحياء شعر القدامى (الإغريق) وسيدعو الفيلسوف إلى أن "يتخلص من قناع محارب النسق وأن يشارك هوميروس مسكنه في معبد الشعر الجديد". مع شلينغ وشليغل هناك تبشيرٌ بمثيولوجية شعريَّة قادمة يكون فيها الشِّعر والفنّ هما الهدف الأسمى للفلسفة حيث يمثلان نهايتها ومستقبلها في آن.
لقد أدخل شيلر وشلينغ وشليغل الشِّعر من بوابة العقل فقد كانت عقلنة الشِّعر أو الشِّعر المعقلن هو حصان طروادة (الذي قُبِل بوصفه عرضاً للصُلح والسلام) والحلّ الوحيد لاقتحام أسوار الفلسفة المنيعة إلا على العقل. وكما كشف مقاتلو الإغريق الذين اختبئوا داخل الحصان الخشبيّ عن وجههم الحقيقيّ بعد أن صاروا داخل القلعة، فإنّ الشِّعر وبعد أن تنكَّر بقناع غريمه (العقل) فإنه أراد الانتقام منه. مع نيتشه سيُسقِط الشِّعر قناع العقل نهائياً ويُطالب بحقّه الكامل المُغتصب في مملكة الفلسفة التي طرده منها أفلاطون. مع نيتشه يتغيّر اتجاه الأبواب المُقفلة ويُصبح الداخل خارجاً والخارج داخلاً. أراد نيتشه الانتقام من غريمه ومنافسه (العقل) على حُكم الفلسفة ولم يكن يُفكِّر بالقضاء على الفلسفة بل رأى فيها أرض الشِّعر الحقيقيّة لهذا عاد إلى الفترة الماقبل سقراطية حيث كان الشِّعر في أرضه الشرعية متناغماً مع الفلاسفة في حقبة الفلاسفة السابقين على سقراط. أراد نيتشه أن يأخذ بقصاص الشِّعر كاملاً وأن يطرد العقل خارج مملكة الفلسفة. مع نيتشه تعود الضحيّة لتقتصّ من جلادها ويعود ديونيزوس ليُطيح بأبولون ويتبوأ عرشه. هكذا سيُنَصِّبُ نيتشه الإله ديونيزوس بوصفه فيلسوفاً ويُعلِنُ نفسه المريد الأخير لهذا الفيلسوف.
من حينها والتيار النيتشويّ لا يني يشدِّد على علاقة الشِّعر بالفلسفة حيث سيؤكِّد هيدغر على غرار نيتشه على أن الشَّاعر ينطقُ بالمقدَّس الذي ينكشف للمُفكِّر وأنّ الشِّعر والفكر يحيل كلٌ منهما إلى الآخر. مع هيدغر يُخصِب الشِّعر الفلسفة ويغدو مقياس الحقيقة هو التجلّي الشعريّ وليس ترابط الأفكار. عنده تتجلّى الحقيقة عندما يصيخ الفكر سمعه إلى الشِّعر والعكس غير صحيح. هكذا سيفتح هيدغر بوابّة الشعر (التي كانت عصيّةً في الماضي) على مصراعيها أمام شعراء من أمثال هولدرن ورينيه شار.
على خطى أفلاطون الذي طرد الشعراء من جمهوريته، يرى هابرماس أن الخطاب الشعريّ (النيتشويّ) يمثِّل خطراً على العقل الذي ترنّح أمام ضربات نيتشه وأنصاره التي لا ترحم. هكذا سيحاول هابرماس طرد فلاسفة الشعر من جديد من تراث الحداثة بوصفهم l’autre de la raison أي مناقضي العقل وخصومه مصنفاً إياهم بوصفهم محافظين مُخرجاً إياهم من خطابه الحداثوي معتبراً إياهم ما بعد حداثويين لا يليقون بتراث الحداثة الذي لا يراه إلا من جانبه العقلانيّ. لكنّ ديريدا كان قد خلط الأوراق وبيَّن بشكلٍ لم يعد من الممكن العودة عنه أنّ المنطق لا يمكن أن يتحدّد بدون البلاغة وأنّ الفكر لا يمكن أن يدرك بدون الشعر وأنّ العقل لا يمكن أن يفعل بدون نقيضه فكلّ ثنائية من هذه الثنائيات هي قدر الأخرى ومصيرها.
وفقاً لأسطورة سوفوكليس فإنّه وبزواج لايوس (العقل) من جوكاست (الفلسفة) ينجبان رغماً عن إرادتهما أوديب (الشِّعر). وليتجنّبا اللعنة التي تنبّأت بها بايثي كاهنة معبد أبولون يقوم الزوج الملكيّ لايوس وجوكاست (العقل والفلسفة) بمحاولة التخلّص من أوديب (الشِّعر) الذي يعهدان به إلى (راعٍ) ليتخلص منه ولكنّ الرَّاعي يحفظ حياة أوديب (الشِّعر) وينقذ حياته ليعيش بعد ذلك خارج حدود المملكة التي ولد فيها ويعود بعد زمنٍ ليقتل أباه لايوس (العقل) وليتزوج من أمّه جوكاست (الفلسفة). هكذا تتحقق النبوءة وتحلّ اللعنة بجوكاست (الفلسفة) التي لم تستطعْ أن تتخلّص من قدرها الذي يقضي بزواجها من ابنها أوديب (الشِّعر) رغم محاولات الجميع لتجنّب قدرهم الملعون.
المراجع
موسوعة الاوان
التصانيف
فلسفة