الجيلي حامد البدري
من منا لم تحدثه نفسه بأن يكون طبيبا، خصوصا إذا كان من أصحاب النتائج الجيدة التي يكتب عليها مرشد الصف عبارة (أرجو له مستقبلا باهرا ومزيدا من التقدم) فحينها فهو قد صار دكتوراً، مقبلا مدبرا معا.
هذه المهنة ذات الطابع الإنساني المحض، حازت الإعجاب من كل شرائح المجتمع الصغير قبل الكبير، كيف لا وأنت تودع على أعتابهم جميع أنواع الألم، يحملون مرهم العافية في أناملهم الرقيقة وكلماتهم الدافئة، وعندهم من الميزات وكريم الصفات ما يجعلك تصنفهم إلى صفوة الناس وتضعهم فوق كل الشبهات.
ونحن عامة الناس، لا نرى للطبيب مثلا في تفانيه وإبداعه وإخلاصه لمهنته، ونعتبر أن الطبيب شخصية ذات عقلية جبارة يناط بها أن تحمله بعيدا عن كل ما يجرح مشاعر الإنسانية، التي هي محل عمله؛ وحينما تسأل من يخيط الجرح النازف فيكون بعد الله سببا للحياة، من يضع الحشوة في الضرس الذي يمنع صاحبه النوم فيهدأ بعدها ويرتاح، من يدرك بعد الله امرأة قد تعسرت ولادتها، ومن يتلقانا حين نقدم على عيادته ونحن نحمل فلذات أكبادنا وهم يصرخون من ألم نحن لا نعرف مكانه وهم لا يستطيعون الإفصاح عنه، لعجزهم عن الكلام فيعرف مما يشتكون ويرد البسمة لهم ولنا.
إنه الطبيب وما أطيب الأطباء في السودان وأجملهم وأبهاهم، وهم من على البعد يرسلون الأشعار مرفقة بالإرشادات، أو ذلك الذي يخدم الإنسانية في كل مكان وبكل الألوان في تخصص مهم، وهو زراع الكلى فيزرع السعادة على وجه رجل ترنحت به خطوات الحياة.. إنه الطبيب.
لي بفضل الله مجموعة من الأصدقاء الأطباء، فوجدت فيهم الذوق والتواضع والتهذيب والحنان، صفات شبه مشتركة وسائدة، وأذكر أن أحدهم وضع لي حشوة مؤقتة فصار يملك في قلبي بسبب ذلك محبة دائمة .
يحزنني جدا حينما يصطف الخريجون من كلية الطب لأداء قسم المهنة، فنقول لماذا ُيشك في هؤلاء، أو تدور في رؤوسنا مجرد فكرة أن هذه الأيدي الطاهرة يمكن أن تلوّث صفوة الحياة، وهذه العقول الكبيرة يمكن أن تفعل فعل الحمقى؛ وظل عندنا الطبيب يكفيه من التعريف اسم مهنته وأن يقول : عفوا.. أنا طبيب، وبعدها ترد المعلومات على الخاطر تباعا: طبيب يعني إنسانية، وداعة، براءة ... إلخ.
ولكن بمرور الزمن وتبدل الأحوال وظهور الأنذال في عالم المادة والأنانيات، نخر السوس في عصب أطهر مهنة، وبدأ التلوث حينما وظّف بعض الأطباء المهنة لجمع المال، ولعلنا كنا نلتمس لهم العذر باعتبار السياسة الرأسمالية التي تنتهجها الدولة وإفرازاتها في المجتمع، من تعليم خاص وعلاج خاص، وارتباط الخدمات بالخصخصة والتي تتطلب إمكانات مادية عالية، وما كنا ندري أن هذا منعطف خطير في حياة الأطهار يمكن أن يكون له ما بعده، حتى فاجأتنا الصحف بخبر الطبيب الذي يقتل أزكى النفوس البشرية بعملية وحشية في ظروف خفية، مع استغلال مشاهد مصورة، للابتزاز ونحن والله كمجتمع سوداني محافظ نربو بالجزار من أن يقوم بمثل هذا الحياة، الجزار الذي يهب الحياة بإذن الله من خلال الموت (موت الماشية)، فما بالك بالطبيب الذي يهب الحياة بإذن الله من خلال الحياة، إن أمر الطبيب الاختصاصي الذي قام بتلك العمليات المفزعة يجب أن يوضع تحت مجهر التحليل الدقيق للظاهرة، وأن يعاد ترتيب البيت الطبي من داخله ابتداءا من استمارة الدخول للجامعة، والخلفية النفسية للطالب والأخلاقية والتربوية، مع متابعة لصيقة من قبل إدارة الجامعة له أثناء فترة التدريس.. من خلالها تقدّر إن كان يستحق الشهادة ومباشرة المهنة أم لا، حتى يكون المريض مطمئنا من أن طبيبه طاهر عالي الهمة، نقي النفس، لا يمكن أن تحدثه نفسه أن ينقل له دم ملوث بفيروس الإيدز القاتل، أو يصوره بأشعة مقطعية قاتلة للنسل، أو يسبب له مرضا يحتاج إلى عملية جراحية مكلفة، يقوم هو بإجرائها ولئن فقدنا الثقة بمعاشر الأطباء- وأرجو أن لا يأتي هذا اليوم - فإن باطن الأرض خير لنا من ظاهرها، وأسأل الله أن يكون هذه الأمر عارضا لا يعود، والطبيب الخائن جسم غريب لفظته المهن الطبية بلا رجعة.
المراجع
شبكة المشكاة الاسلامية
التصانيف
تصنيف :قصص اجتماعية