1-إن الواجب تجاه العلماء والصالحين هو محبتهم ومودتهم، وتوقيرهم وإجلالهم، كما جاءت به الشريعة، دون غلو وإفراط.
2- ولا شك أن الاستهزاء بالعلماء أو الصالحين يضاد محبتهم وإجلالهم، فالاستهزاء بهم يعني السخرية بهم والاستخفاف بهم .
قال الألوسي: (الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، وذكر الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه علـى العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وبالإشارة والإيماء... وأصل هذه المادة الخفة، يقال: ناقة تهزأ به أي: تسرع وتخف) .
إن الاستهزاء بأهل العلم والصلاح صفة من صفات الكافرين، وخصلة من خصال المنافقين، كما قرر ذلك القرآن في آيات كثيرة.
يقول الله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ {البقرة:212}.
وقال سبحانه: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ {المؤمنون:103، 111}.
وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {المطففين:29- 33}.
وقال تعالى في شأن المنافقين: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {البقرة:14- 15}.
وقال تعالى الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {التوبة:79}.
ولقد حرص أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وأذنابهم من منافقي هذا الزمان على تشويه سمعة العلماء، وزعزعة مكانتهم في نفوس الأمة المسلمة.
(وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين من الأمميين (غير اليهود) في أعين الناس، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤوداً في طريقنا، وإن نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يوماً فيوماً) .
وسعى هؤلاء في سبيل ذلك سعياً حثيثاً، فشنوا الحملات المسعورة، وأعدوا المخططات الرهيبة من أجل الكيد لهذا الدين والصد عنه، عن طريق الطعن في حملة الإسلام ودعاته وعلمائه، وقد آتت هذه المؤامرات ثمارها النكدة كما هو مشاهد في واقع الأمة، وتولت وسائل الإعلام في بلاد المسلمين وغيرها كبر هذه الهجمة الشرسة على علماء الأمة ، فظهر الاستهزاء بالعلماء والصالحين على وسائل الإعلام المختلفة، وتطاول الأقزام من أهل الشبهات والشهوات على مقامات أهل العلم والصلاح باسم حرية الرأي والفكر
وساعد على استفحال هذا المنكر أسباب كثيرة، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره، نذكر أيضاً من تلك الأسباب:-
غلبة الجهل بدين الله تعالى بين المسلمين، سواء كان الجهل بحرمة المسلم وعظيم حقه ومنزلته، أو الجهل بحكم الاستهزاء بأهل العلم والصلاح. وسبب آخر وهو تنحية شرع الله تعالى في بلاد المسلمين... فلو أن حد الردة– مثلاً– أقيم على من يستحقه... فلن يتطاول سفيه على فتاوى أهل العلم، كما هو واقعنا الآن، ولن يسخر مريض قلب من استقامة أهل الديانة وطهرهم، والله حسبنا ونعم الوكيل.
إن الاستهزاء بالعلماء والصالحين على ضربين:-
أحدهما:- الاستهزاء بأشخاصهم، كمن يستهزئ بأوصافهم الخَلْقِّية أو الخُلُقِّية، وهذا محرم لقوله تعالى: - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {الحجرات:11}.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال ((الكبر بطر الحق وغمص الناس)) ويروى وغمط الناس.
والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله تعالى، وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له...) .
والضرب الآخر: الاستهزاء بالعلماء لكونهم علماء، ومن أجل ما هم عليه من العلم الشرعي، فهذا كفر؛ لأنه استهزاء بدين الله تعالى، وكذا الاستهزاء بأهل الصلاح من أجل استقامتهم على الديانة، واتباعهم للسنة، فالاستهزاء – هاهنا – متوجه إلى الدين والسنة.
ومن المناسب هاهنا أن نورد تعقيباً لابن حجر الهيتمي على ما قاله أحد علماء الأحناف عند ذكره لنواقض الإيمان: (فقال هذا الحنفي : أو قال: إيش مجلس الوعظ، أو العلم لا يثرد ، أو وعظ على سبيل الاستهزاء، أو ضحك على وعظ العلم، أو قال: إيش هذا القبيح الذي خففت شاربك، أو قال: بئسما أخرجت السنة) اهـ كلامه.
فعقب ابن حجر قائلاً: (ما ذكره في إيش مجلس الوعظ.. الخ، إنما يتجه إن أراد الاستهزاء، وكذا إن أطلق على احتمال قوي فيه لظهور هذا اللفظ في الاستخفاف بمجلس الوعظ والعلم.
وما ذكره في الوعظ استهزاء إنما يتجه إن أراد الاستهزاء بالواعظ وكذا بالوعظ من حيث هو وعظ، أما لو أراد الاستهزاء بالواعظ، أو بكلماته، لا من حيث كونه واعظاً فلا يتجه الكفر حينئذ، وكذا يقال في الضحك على الوعظ) .
ولما كان الاستهزاء بالعلماء والصالحين محتملاً للضربين المذكورين آنفاً، صار محلاً للخلاف ، وبهذا التفريق بينهما يزول الإشكال، ويرتفع الخلاف.
3- وأما وجه كون هذا الاستهزاء يناقض الإيمان، فلما يلي:-
(أ) أن الله عز وجل جعل الاستهزاء بالمؤمنين استهزاء بالله تعالى وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال تبارك وتعالى:-
قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم {التوبة:65، 66}.
فقد جاء في سبب نزول هذه الآيات عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنكبه الحجارة، وهو يقول: - يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم )).
ونورد جملة من كلام أهل العلم في بيان ذلك: -
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله – في هذا الشأن (وفيه بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو بعمل يعمل به... ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله وعدم احترامهم لأجله) .
وسئل الشيخ حمد بن عتيق- رحمه الله - عن معنى قول الفقهاء: من قال يا فقيه بالتصغير يكفر.. فكان من جوابه: (اعلم أن العلماء قد أجمعوا على أن من استهزأ بالله، أو رسوله، أو كتابه فهو كافر، وكذا إذا أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء، واستدلوا بقوله تعالى: - وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ {التوبة:65- 66}.
وسبب النزول مشهور، وأما قول القائل: فقيه، أو عويلم، أو مطيويع ونحو ذلك، فإذا كان قصد القائل الهزل، أو الاستهزاء بالفقه أو العلم أو الطاعة، فهذا كفر أيضاً ينقل عن الملة فيستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: (قوله تعالى: - أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ... الآيات أي فليس لكم عذر؛ لأن هذا لا يدخله الخوض واللعب، وإنما تحترم هذه الأشياء وتعظم ويخشع عندها إيماناً بالله ورسوله، وتعظيماً لآياته، وتصديقاً وتوقيراً، والخائض واللاعب منتقص لها، ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله، وعدم احترامهم، أو الوقيعة فيهم لأجله) .
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة ما يلي:-
(سب الدين والاستهزاء بشيء من القرآن والسنة، والاستهزاء بالمتمسك بها نظراً لما تمسك به كإعفاء اللحية وتحجب المسلمة، هذا كفر إذا صدر من مكلف، وينبغي أن يبين له أن هذا كفر، فإن أصر بعد العلم فهو كافر، قال الله تعالى: - قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ {التوبة:65- 66}) .
(ب) ذكر الله عز وجل أن الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين سبب في دخول نار جهنم، وعدم الخروج منها.
فعندما ينادي أهل النار قائلين: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ {المؤمنون:107}.
يقول الله تعالى جواباً عنهم: قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ {المؤمنون:108– 110}.
وتوضيحاً لذلك نسوق أقوال بعض المفسرين لهذه الآيات
فمما قاله أبو السعود رحمه الله: (وقوله تعالى: (إنه) تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي أن الشأن كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي وهم المؤمنون.. يقولون في الدنيا رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم ربنا الخ؛ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين بقولهم ربنا آمنا الخ، وتتشاغلون باستهزائهم حَتَّى أَنسَوْكُمْ أي الاستهزاء بهم ذِكْرِي من فرط اشتغالكم باستهزائهم وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ وذلك غاية الاستهزاء).
ويقول الألوسي: (قيل: التعليل على معنى إنما خسأناكم كالكلب ولم نحتفلكم إذ دعوتكم؛ لأنكم استهزأتم غاية الاستهزاء بأوليائي حين دعوا واستمر ذلك منكم حتى نسيتم ذكري بالكلية ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم.
وقيل: - خلاصة معنى الآية إنه كان فريق من عبادي يدعون، فتشاغلتم بهم ساخرين، واستمر تشاغلكم باستـهزائهم إلى أن جركم إلى ترك ذكري في أوليائي فلم تخافوني في الاستهزاء بهم.
وفيه تسخط عظيم لفعلهم ذلك ودلالة على اختصاص بالغ لأولئك العباد المسخور منهم، كما نبه عليه أولاً في قوله تعالى مِّنْ عِبَادِي وختمه بقوله تعالى إِنِّي جَزَيْتُهُمُ إلى قوله تعالى: - هُمُ الْفَائِزُونَ) .
ومما سطـره الشنقيطي عند تفسيره لهذه الآيات: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ.. إلى قوله تعالى وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ حيث قال رحمه الله:-
(قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، أن (إن) المكسورة المشددة من حروف التعليل كقولك: عاقبه إنه مسيء: أي لأجل إساءته، وقوله في هذه الآية إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي الآيتين. يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة على أن من الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم، وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن الذي يقول: - رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله، والإيمان به فيدخلون بذلك النار.
وحتى في قوله: حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي.. حروف غاية، لاتخاذهم إياهم سخرياً أي لم يزالوا كذلك، حتى أنساهم ذلك ذكر الله والإيمان به، فكان مأواهم النار والعياذ بالله) .
(ج) أن الاستهزاء بالعلماء والصالحين لأجل ما هم عليه من العلم الشرعي، واتباعهم للقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، هو في حقيقته استهزاء بآيات الله تعالى، وسخرية بشرائع دين الله عز وجل، ولا شك أن هذا الاستهزاء كفـر يناقض الإيمان، يقول الله تعالى: - وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ {الجاثية:9}، ولم يجئ إعداد العذاب المهين إلا في حق الكفار .
يقول ابن حزم: (صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآيـة من القـرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر) .
4- ونختم هذا المبحث بجملة من أقوال العلماء في تلك المسألة.
يقول القرطبي عند تفسيره لقوله تعالى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا.. الآية حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي أي اشتغلتم بالاستهزاء عند ذكري وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ استهزاء بهم، وأضاف الإنساء إلى المؤمنين؛ لأنهم كانوا سبباً لاشتغالهم عن ذكره، وتعدى شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم.
ويستفيد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء، والمساكين، والاحتقار لهم، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يعني، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل. "
وجاء في (الفتاوى البزازية): (والاستخفاف بالعلماء لكونهم علماء استخفاف بالعلم، والعلم صفة الله تعالى منحه فضلاً على خيار عباده ليدلوا خلقه على شريعته نيابة عن رسله، فاستخفافه بهذا يعلم أنه إلى من يعود) .
وجاء أيضاً: (رجل يجلس على مكان مرتفع أو لا يجلس عليه، لكن يسألونه عن مسائل بطريق الاستهزاء، ويضربونه بما شاؤا وهم يضحكون كفروا) .
ويقول ابن نجيم: (ويكفر بجلوسه على مكان مرتفع والتشبه بالمذكورين ومعه جماعة يسألون من المسائل ويضحكون منه، ثم يضربونه بالمخراق ، وكذا يكفر الجميع لاستخفافهم بالشرع، وكذا لو لم يجلس على مكان مرتفع، ولكن يستهزئ بالمذكورين ويتمشى والقوم يضحكون، وبقوله لا تذهب وإن ذهبت تطلق امرأتك استهزاء بالعلم والعلماء جواباً لمن قال إلى مجلس العلم، جواباً أين تذهب) .
ويقول أيضاً:- (ولو صغر الفقيه أو العلوي قاصداً الاستخفاف بالدين كفر، لا إن لم يقصده) .
ويقول – في كتاب آخر -: (الاستهزاء بالعلم والعلماء كفر) .
ويقول ملا علي قاري: (وفي الظهيرية من قال لفقيه أخذ شاربه: ما أشد قبحاً قص الشارب ولف طرف العمامة تحت الذقن يكفر؛ لأنه استخفاف بالعلماء يعني وهو مستلزم لاستخفاف الأنبياء عليهم السلام؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم السلام، وقص الشارب من سنن الأنبياء عليهم السلام فتقبيحه كفر بلا اختلاف بين العلماء.
وفي (الخلاصة): من قال: قصصت شاربك وألقيت العمامة على العاتق استخفافاً يعني بالعالم أو بعلمه فذلك كفر.
ونقل عن الأستاذ نجم الدين الكندي بسمرقند أن من تشبه بالمعلم على وجه السخرية، وأخذ الخشبة، وضرب الصبيان كفر، يعني لأن معلم القرآن من جملة علماء الشريعة فالاستهزاء به وبمعلمه يكون كفراً.
وفي (المحيط) ذكر أن فقيهاً وضع كتابه في دكان وذهب، ثم مر على ذلك الدكان، فقال صاحب الدكان: ههنا نسيت المنشار، فقال الفقيه عندك كتاب لا منشار، فقال صاحب الدكان: النجار بالمنشار يقطع الخشب، وأنتم تقطعون به حلق الناس، أو قال حق الناس، فشكى الفقيه إلى الإمام الفضلي يعني الشيخ محمد بن الفضل، فأمر بقتل ذلك الرجل؛ لأنه كفر باستخفاف كتب الفقه.
وفي (التتمة): من أهان الشريعة أو المسائل التي لا بد منها كفر، ومن ضحك من المتيمم كفر) .
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن بعض الناس يسخرون بالملتزمين بدين الله ويستهزئون بهم فما حكم هؤلاء؟
فأجاب: (هؤلاء الذين يسخرون بالملتزمين بدين الله المنفذين لأوامر الله فيهم نوع نفاق، فإن الله قال عن المنافقين: - الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { التوبة:79}.
ثم إن كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع، فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر، أما إذا كانوا يستهزئون بهم يعنون أشخاصهم، وزيهم بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة فإنهم لا يكفـرون بذلك؛ لأن الإنسان قد يستهزئ بالشخص نفسه بقطع النظر عن عمله وفعله لكنهم على خطر عظيم) .
المراجع
موسوعة الدرر السنية
التصانيف
تصنيف :عقيدة
|