من يقرأ فلسفة جورج هيغل يدرك أنّ الحرية هي المشروع الأساسيّ لهذا الفيلسوف، مشروع الإنسان الكلّيّ، ومشروع ذات تستمتع بوجودها، أو كما عبّر عن ذلك (برنارد بورجوا ) بأنه مشروع " لإنشاء سكن ذاتيّ حرّ للإنسان". فالحرّيّة لدى هيغل هي شرط الروح والماهية الجوهرية لها وهي الوساطة الضرورية لتنتج ذاتها. ذلك أنّ الروح بحاجة إلى أن تتخارج عن ذاتها لتعي تلك الماهية عبر اغترابها وضياعها في عالم الضرورة والتناقض والصراع والتبعية للآخر. لتعود الروح إلى ذاتها متخلّصة من آثار عالم الطبيعة عودة أكثر غنى وثراء، وتلك هي مهمة الروح وغايتها، أن تخلق حريتها وتعيشها.
فتاريخ الروح مسار طويل من اللحظات والتجسيدات لتقدّم الوعي وارتقاء الروح من تحقّق لمستوى من الحرية إلى مستوى آخر، لتمكث الروح في حقيقتها المطلقة اللامتناهية الكلية بوصفها روحاً حرّة، وذاتاً واعية بوجودها اللامتناهي ممتلكة إرادتها الحرّة، فكما أنّ الروح هي ذكاء على المستوى النظري(وعي)، هي في جزء آخر منها روح عملية ومجال للفعل (إرادة) لا تكتفي بتأمّل وعيها تأملاً ذاتياً مجرّداً، بل تنغمس في الواقع لتطابق تأمّل وعيها مع وجودها نفسه عبر تحقّقات موضوعية لتعيش في عالمها الحرّ.
بيد أنّ الروح لا تحقّق تعيّنات إرادتها الحرّة دفعة واحدة، ذلك أنّ الإرادة تتضمّن في داخلها تناقضاً، يجعل من فعاليتها فعالية متناهية، رغم رغبتها المطلقة اللامتناهية في تحقيق منظومة الحقّ الموضوعيّ المتّفقة مع ذاتها. فالتّناقض الكامن في الإرادة ( يُلغى ويُرفع ) عبر وساطة المعرفة والوعي حيث تتحقق المصالحة بين ( الذات والموضوع ) بادراك الروح أنّ حقيقتها، إنما تكمن في لاتناهيها وكليتها بوصفها روحاً حرّة. فالإرادة ما هي إلا فعالية تحدث توسّطاً لذاتها كي تعود من جديد إلى ذاتها .
من هنا فالإرادة بحاجة إلى أن تحدّد داخلياً مضمونها الذاتيّ وتصوّرها، لتأتي لاحقاً بوصفها نشاطاً فعّالاً، محوّلة هذا التحديد وهذا المضمون وهذا التصوّر إلى ماهية فعلية متحقّقة في صورة ( حقّ ) و(حرّيّة ) و( قانون ). ذلك أنّه حتى تعيّنات الحرّيّة وتمايزاته وتخصيصاته لا تتمّ إلا بعد أن تحقّق الإرادة مضمونها وغايتها، متجاوزة التناقض والاختلاف القائم فيها أي اختلاف ( الصورة عن المضمون) .
فكل تعيّن من تعيّنات الإرادة ما هو إلا صورة من صور الحرية، ذلك أنّ الإرادة هي الوساطة التي تتعيّن بها الحرّية منتقلة من مستوى الحرّية السلبية وإرادتها المباشرة إلى مستوى الحرّية الجزئيّة والإرادة الذاتية المتناقضة لتصل في النهاية إلى مستوى التحقّق الموضوعيّ الكلّيّ بوصفها إرادة حرّة لامتناهية عبر التنظيمات الاجتماعية والمؤسّسات القانونية في الأسرة والمجتمع المدنيّ والدولة .
إنّ العنصر الأول لتعيّن مفهوم الإرادة هو كونه فكراً، ذاتياً خالصاً ومجرداً من التمايز بوصفه إمكاناً مطلقاً لتحديد الإرادة لنفسها وفق مضمونها الذاتيّ ورفضاً لأيّ تحديد أو قسر فحرّيتها هنا هي حرّية سلبية وحقّها مجرّد ومباشر ما يسّميه هيغل ( بحرّيّة الفهم ) .
هذه الإرادة السلبية هي إرادة حرّة فقط في ذاتها متجلّية في الواقع في صورة هوى وانفعال وغرائز. لتحمل في طياتها الاختلاف والتناقض ما بين صورتها ومضمونها . فمضمون هذا التعيّن الأول للإرادة، إنما يظهر في حرية الفراغ وإرادة الهدم والتدمير لكل نظام، فهو على المستوى العمليّ عدم تحديد وعدم خضوع لأيّ إلزام أو قيد على المستوى النظريّ تعصّب دينيّ خالص وتأمّل فارغ، لكن على الرغم من ذلك فالذات تعي نفسها أنّها"أنا" لأوّل مرة وذات عارفة .
أما التعيّن الثاني لمفهوم الإرادة الحرّة هو تعيّن مباشر ومتضمّن للذاتية بوصفه حرية اختيار وجوازا وعرضية يتجلّى أيضاً في التناقض بيد أن هذا التناقض يُرفع ويُطوى ويتم تجاوزه عبر رد الغرائز والميول إلى ماهيتها الحقيقية متخلصة من حتميتها الطبيعية ومحولة إياها إلى " منظومة عقلية للتعيّن الإراديّ " بيد أنّ الإرادة هنا ما تزال في مفهومها دون أن تخرج عن التعين الأول بل هي متضمنة فيه .
من هنا فارتداد الإرادة وعودتها إلى ذاتها متمايزة عبر تخصصيها وتعينها في العالم الخارجيّ موحّدة بين ذاتها وكليتها الحرّة في صورة فردية ومتخذة من نفسها موضوعاً لنفسها حينئذ يرفع التناقض القائم بين صورة الإرادة ومضمونها وغايتها لتصبح الإرادة ( لذاتها ما هي في ذاتها ) .
إنّ عودة الذات على ذاتها فكراً بعد خروجها في صورة مباشرة مجردة ومتناهية بوصفها في التعيّن الأول إرادة في صورة تعيّن جزئيّ لذاتها، خضوعها إنما يكون لمضمون غرائزها وميولها. أمّا في تعيّنها الثاني فهي لامتناهية صورياً وحريتها هي حريّّة فراغ سلبيّ بعيدة عن واقعها الخارجيّ . وفي كلتا لحظتي تعين الإرادة الحرة تبقى الإرادة سلبية غير ممتلئة بحريتها مجرد إمكان بيد أن الإرادة في صورة الفردية الواعية بذاتها وبوصفها العنصر الثالث من تعين الإرادة ووحدة اللحظتين السابقتين ، يتحقق للذات حريتها الكلية وإرادتها اللامتناهية .
وعلى هذا الأساس فإنّ وعي الإرادة بأنها إرادة فردية، إنّما يعني أنّها تتضمّن لحظتي الكلّيّ والجزئيّ، فهي إرادة تريد حريتها الكلية اللامتناهية في صورة حرية فردية متمايزة ومشخصة .
هكذا تدرك الروح جوهرها الكليّ وإرادتها الحرة اللامتناهية ووعيها بفرديتها عبر تعيّنها الموضوعيّ في صور تحققات متعددة سواءً في المؤسسات والتنظيمات القانونية أو في المجتمع المدنيّ حيث الملكية الفردية والقانون الوضعيّ والشرعية الدستورية في الدولة … الخ ، بوصفها منتجات للإرادة الحرّة وتجلّيا لهذا الجوهر الحرّ الكلّيّ والعقليّ .
المراجع
موسوعة الاوان
التصانيف
فلسفة