سيدتي..

همست لي وعلى وجهها علامة الحيرة
- ماذا تريد مني..؟
كانت في نظر "شوبنهاور" فقيرة الإحساس بالعدالة.. وعند "الكاثوليك" جسدا بلا روح.. وسفر التكوين جعل خلقتها من ضلع أعوج حتى تشعر بالضعف فتقبل أن تعيش تحت سيطرة الظلم والاحتقار وسطوة الرجال... أما "فرويد" فقد رماها بقذارة لم يوصف ولن يوصف بها حتى الحيوان المفترس...
سكت الرعد القاصف بعد أن أصم الأسماع، وسكنت العاصفة الهوجاء، وعادت الريح إلى مراسم هبوبها؛ ولم تبق سوى رواسب عسجدية سبكتها شمس الغروب لتزين بها لوحة السماء قبل الغلس...
رأيتها على ضفة نهر وفي يدها ريشة حمامة ترسم بها لوحة في صمت وخجل بين روعة الطبيعة والجبال أين لا تُسمع سوى موسيقى خرير المياه وطرب شقشقة الطيور وصرير ريشتها.. فدنوت من حيها بجلال ووقار.. التفتت إلي، وباستحياء قالت:
- ماذا تريد مني..؟
قلت لها وكأن نارا تتأجج بداخلي:
- سيدتي، أعطني تلك الريشة واصعدي هناك إلى قمة الجبل وتربعي عرش الطبيعة، اجلسي ملكة لأصف صورتك وأنا بجانب الوادي..
ناولتني إياها وصعدت كطفلة خجولة تتمايل كالسكران وفي كل لحظة تسرق التفاتة والابتسامة الحلوة لا تفارق شفتيها اللمياء إلى أن وصلت فاستدارت وسألتني بحركة يديها..؟ فقلت لها بصوت عال والصدى يردد كلامي:
- هناك.. لا تململي من فضلك إلى اليمين وأكثر إلى الأمام.. نعم هكذا بالضبط كما يجب أن تكونين..
سأبدأ بالقمة.. بل سأبدأ بالنور الذي يبرق من عينيك.. لا... الآن قد قررت:
شعرك شلال يتدفق من أعلى قمة الجبل رقراقا ينساب في الوادي الذي أنا واقف بجانبه.. جبينك منحدر مملكة وجهك الذهبي.. أذناك وردتان عن اليمين والشمال لا يعرفان الذبول.. عيناك كوكبان ساطعان يضيئان على كل تائه في ظلمة الفلاة.. وجنتاك تلان يكسوهما الورد الوردي.. أنفك مون يشق بحر مملكة وجهك ومنارته تهتدي بها كل السفن.. شفتاك ضفاف نهر من العسل المصفى.. أسنانك لؤلؤ ومرجان.. ذقنك جبل لا يتسلقه سوى الحريم الحبيب العاشق المتيم..
ولما انتهيت من هذا المشهد قلت لها:
- سيدتي، ارفعي الآن رأسك عاليا.. لكي يبدو جيدك.. أكثر من ذلك من فضلك وانظري في وجهي.... نعم هكذا أحسن بكثير..
حقا أنت رائعة جيدك جسر بين عالمين لا يعبره سوى البعل الفحل المدنف.. ذراعاك كديتان من الماس النفيس.. يداك شجرتا العطف والحنان.. صدرك واحة بين كثبان الرمال الذهبية.. خصرك يعجز اللسان عن وصفه.. رجلاك أوتاد الجبال التي يرسو عليها كوكنك.. قدماك قعر البحر والجنة تحتهما.. وكل مسمة في جلدك نجمة تتلألأ..
قالت ودمع العين يسيل:
- ماذا تريد مني..؟
- سيدتي، أنت الأرض والسماء وما بينهما، ما ذمك إلا الذميم، ومن مدحك فقد قصر في المديح..
فأنت الجمال والكون جميل، لا أحد يستطيع وقف نبضك، ولا نطقك.. تكلمي إن كلامك ريح أطيب من المسك.. لقد وصفتك وقصرت في وصفك عندما خفت أن أمدحك وأكون مقصرا.. ليثني ما وصفتك حتى لا أكون آثما.. أنت بيتي، وأنت عواني، وأنت سكني، وأنت عشرتي..
غفلت عنها هنيهة بسبب اختيار الألوان فسمعت طقطقة الأحجار تنهار من أعلى الجبل وهي تتساقط في النهر راسمة دوائرا موجية تتسع شيئا فشيئا.. فصرخت بأعلى صوت كاد أن يفقدها توازنها:
- لا لا لا يا سيدتي، لما تغضبينني هكذا.. لا تنزلي من فضلك ابقي هناك نعم هناك في قمة الجبل لا تنزلي أبدا...
عادت مهرولة وهي تارة تتعثر، وتارة تقاوم.. ورعب صوتي لا يزال الصدى يردده..

بقلم: محمد معمري

المراجع

pulpit.alwatanvoice.com

التصانيف

فنون  أدب  أدب عربي  مجتمع   العلوم الاجتماعية