لم يخطر ببالي في خريف 1995م؛ أن الشاب النحيف ممشوق القامة، الذي تزين وجهه لحية أنيقة، الذي زرته في داره بمدينة سنار؛ سيكون يوماً من الأيام رمزاً لمعني من المعاني العالمية، أو أن تتحول حياته من حياة خاصة إلي حياة ترقبها وسائل الإعلام... كانت تلك الزيارة لسامي محي الدين الحاج، ونحن طلاب في المرحلة الثانوية وكان سامي لحظتها قد عاد لتوه من الهند التي قضى فيها عدداً من السنوات طالبا بإحدى جامعاتها،لم يكن لقاؤنا – أنا ورفاقي- به يتجاوز الساعة، لا أذكر ما دار فيه من حديث، ولكن أذكر جيداً أنه كان يلبس (البتو) الزي التقليدي لشبة القارة الهندية، والذي يكاد يكون اللباس الوطني في باكستان وأفغانستان والهند، ولم أنس كذلك ابتسامته البشوش، ولا صوته الهادئ في الحديث ... خرجت من عنده، وأنا به معجب، وله محب، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أقابل فيها سامي الحاج، وكذلك كانت الأخيرة، حيث عاد مهاجراً إلى الخليج العربي للعمل هناك.. ولتلك الوشيجة الروحية العميقة به كنت أسأل صديقي نزار – ابن خالة سامي – مرة بعد مرة عن أخباره، حتى أخبرني بعد سنوات أن سامي قد تزوج من روسية ماجدة - وعرفت لاحقاً أنها أذربيجانية – كسب منطقها العذب وقلبها الرقيق حب أسرته وقلب والده، ولو كانت والدة سامي حيةً لأحبتها.. ثم كانت الصدمة الهائلة عندما سمعت أن سامي محي الدين الحاج معتقل بغوانتنامو، بتهمة الإرهاب
(2)
وما نقموا من سامي إلا أنه حمل كاميرا قناة الجزيرة لينقل مأساة الشعب الأفغاني للعالم الغافل عن أمة كاملة يشهد التاريخ بأن الأرض التي تقر فوقها هي موطنها منذ القدم، حمل كاميرا الجزيرة لينبه العالم الغافل لأمةٍ تُعذّب من قِبل أمةٍ لا تاريخَ لها في العالم، ولا جذور لها في القلوب، ولا ذكر لها في التاريخ، إلاّ القوة المتكبرة والبغي الفاجر، والشعب الأفغاني ذاك الذي أسقطت عليه القوات الأمريكية من القنابل ما يكفيها لخوض حرب عالمية كبرى... وسامي لم يكن يحمل أكثر من هذه الكاميرا والكاميرا وحدها التي لا تزيف الحقائق، ولكن كاميرا سامي – التي سُجنت - كانت تلتقط الصورة والنار تشتعل في كل مكان والرصاص ينطلق في كل اتجاه والموت يتربص بالأبطال.. وسامي الذي يختزن في ذاكرته القومية مقولة الأسلاف (موت لموت أخير في الله) لا ترتجف له كف أو يتخاذل له أصبع؛ لتخرج صورة الحدث والجزيرة مهزوزة لا تكاد تبين، و تُفصِح عن الجريمة التي ترتكبها أمريكا وهي قائدة (العالم الحر)
(3)
ومما تسرب من أخبار عن أسباب بقاء سامي الحاج - الذي يشهد الأحرار من أبناء أمريكا أنه بريء – أكثر من خمس سنوات في غوانتنامو هو محاولة المخابرات الأمريكية، تجنيده جاسوساً لها، مستخدمة في ذلك الرهب والرغب، فمرة تحاول إغراءه بالمرتب الكبير وبريق الشهرة ككاتب وإعلامي، ومرة تبدو الإدارة الأمريكية بوجهها الحقيقي، وتُمارس عليه عمليات إرهاب منظمة تصل-أحياناً- إلى حقنه بالماء فقط عندما يطلب العلاج، ولكن الغرور العاتي أنسى المخابرات الأمريكية أن تتعرف جيداً على سامي، وسامي الذي ينتسب لقبيلة الجعليين التي تصل بنسبها إلي سيدنا العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-عم رسول الله صلى الله وعليه وسلم، لا يمكن أن يخون تاريخه الوطني-الذي يمتد إلى خمسمائة عام في التاريخ- وميثاقه الغليظ مع زوجته الفاضلة التي احتملت غياب الزوج سنوات طويلة من أجل حياة العزة والكرامة والشرف، وسامي فوق ذلك ليس أقل بسالة وشرفاً من سلفه القبليّ السيد الشهيد عبد الرحمن النجومي، الذي أرسل للمجاهد السوداني عبد الله التعايشي والجيوش الانكليزية تحاصره والجوع والضرر يفت في عضد جيشه، و "النجومي" هو الذي عدّ من يلتحق بمعسكر الانكليز قد كفر، عندما انكسر الجهادية السود أمام الجوع والعطش و السلاح الانكليزي .. و ما سامي إلا رجل من قومه، يشمخ بأنفه على الظالمين وإن كان في الشموخ حتفه.
(4)
باعتقال سامي وسعي المخابرات الأمريكية للتجسس لصالحها كما قال محاميه البريطاني د.كلايف، يعلن بوضوح أن الجزيرة – وهي بداية حضور إعلام عربي وإسلامي فاعل عالمياً- قد أصبحت قوة تفوق أحياناً القوة العسكرية الأمريكية، ولن يجعل اعتقال سامي الحاج وسجن تيسير علوني، هذه المسيرة أن تتراجع وهذه الصحوة الإعلامية أن تنحسر.
(5)
ويعجبني في أمريكا – على الرغم من جبروتها – إعلائها لقيمة إنسانها ومواطنها؛ فهي قد تقود حرباً من أجل جندي مستجد لو أسرته دولة من الدول أو جماعة من الجماعات، وهذا من أخلاق الإسلام؛ لأن تفريط أي مجموعة في حماية أفرادها والدفاع عنهم هو تفريط في المبدأ الذي يحملونه، ولهذا السبب كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة لمّا أُشيع أن قريشاً قتلت سيدنا عثمان -رضي الله عنه- ولهذا السبب ألغى رسول الله عهد قريش الذي أبرمته معه يوم الحديبية، بعد أن نقضت العهد وغارت بكر حليفة قريش على خزاعة حليفة المسلمين..
ويسوؤني في وطني السودان تجاهل الحاكمين والمحكومين لقضية أسرانا في غوانتنامو، وهم يتجاوزون العشرة، ولولا شريط الجزيرة الإعلاني المذكِّر بقضية سامي لما سمعنا بسوداني معتقل، والحكومة التي لم تسعفها الوطنية والواجب برفع صوت المطالبة بالإفراج عنهم أسوة ببريطانيا والسويد وغيرها من البلاد غير الإسلامية التي أفرجت عن مواطنيها من هناك، فهل بلغ بها الضعف السياسي حتى عجزت أن تستغل قضيتهم الإنسانية العادلة التي عليها إجماع عالمي، في محاصرة أمريكا سياسياً وتعريتها أخلاقياً وقانونياً وإحراجها وهي التي تحاصرنا بحقوق الإنسان الآن..
(6)
سامي...وإخوانه: إن تخلت عنكم الأرض، فالسماء لم ولن تنساكم – بحول الله - أما أعداء الإنسانية والحرية فـ: (الله من ورائهم محيط).


أ وليد الطيب
كاتب سوداني

المراجع

شبكة المشكاة الاسلامية

التصانيف

تصنيف :قصص اجتماعية