عمل الشّعر منذ الجاهليّة، شأنه شأن القرآن، على امتصاص اللّهجات العربيّة "المتنافرة" في شبه الجزيرة العربيّة، وساعد على تنمية المخزون في الذّاكرة المعجميّة وعلى فهم المفردات ومعانيها وتنقّلها من قبيلة إلى أخرى، وأتاح إمكان التّصرّف بالمفردات، بإحلال مفردة وإغفال أخرى،ونشرها عبر المكان والزّمان دونما استبدال في الأعمّ الأغلب.

ذلك أنّ الاستبدال يمكن أن يخلّ بنظام القالب الذي وسم الشّعر مثلما وسم القرآن.ومن ثمّ يحمل السّياق على حفظها ويعمل على توضيحها حتّى وإن كان سياقا مضلّلا.

والقرآن نصّ ّكتابيّ وإن لم تكن كتابته خالصة، والشعر نصّ شفهيّ وإن لم تكن شفهيّته خالصة، أو هو نصّ قابل للكتابة والتّدوين .وفي كليهما مشادّة صريحة بين العربيّة الفصحى والعربيّة المحكية.وإذا كانت الأولى قد تقلّبت في أدوار شتّى نكاد لا نعرف عنها إلاّ القليل النّادر قبل أن تصير لغة الأدب والكتابة، فمن الصّعوبة بمكان الإقرار بأنّ " العربيّة كما نعرفها من الشّعر القديم تساوي تماما في كلّ شيء لغة البدو على الإطلاق " كما يقول الألماني يوهان فك.

فهذه العربّية التي تضمّ أشعار أهل الجاهليّة وكلام الفصحاء والحكماء من العرب وكلام الكهّان وأهل الرّجز والسّجع وغير ذلك من بلاغتهم وصنوف فصاحتهم بتعبير الباقلاني لغة فنيّة خالصة كانت قد ترفعّت عن لهجات الخطاب اليوميّة منذ زمن بعيد أي قبل ظهور الإسلام بكثير. ولكن دون أن يسوق ذلك إلى خلوّها من أيّ أثر لهذه اللّهجات والأقرب إلى الحقّ أنّ هذه اللّهجات كانت من الفصحى بمنزلة العامّية ولغة الحياة العامّة. وهذا رأي نسوقه بكثير من الاطمئنان ولا يضعّفه ما نعرفه عن أهل اللّغة والنّحو من علماء العربيّة الذين ظلّوا حتّى القرن الرّابع للهجرة يترحّلون للبادية ويلتزمون صحبة الأعراب للاستعانة بهم على كشف مكنونات اللّغة والنّفاذ إلى أسراها، أو لرفع إبهام أو إزالة لبس كلّما رابهم من أمرها ريب وعرض لهم ما يعرض من كلام ورد على غير ما ألفه العرب واستعملوه. فاللّغة التّي كانوا ينشدونها إنّما هي لغة الشّعر القديم، وليست لغة التّخاطب عند هؤلاء البدو. فلا أحد منهم حفل بهذه اللّغة أو جعلها والفصحى نسجا واحدا وكيانا بعضه من بعض. وممّا يؤكّد ذلك أنّ أكثر كتب اللّغة والنّحو كان مدارها على الشّعر القديم والاحتجاج به للتثبّت اللّفظيّ وتوثيق اللّغة وتحريرها واستنباط القاعدة ووضع الأحكام. وهي شواهد منتزعة من شعر الجاهليّين ومن بعدهم إلى نهاية عصر الاحتجاج.

يقول انطون شبيتالر:" إذا كان اللّغويون العرب في القرن الرّابع الهجري لا يزالون يذهبون إلى البدو ليدرسوا لغتهم، فإنّ هذا يعني بالطّبع أنّهم يبحثون هناك عمّا يفتقدونه في المدن، وهو العربيّة.والمقصود بها في هذه الحالة، هو لغة الشّعر العربيّ القديم على الأخصّ. فإذا كان هؤلاء العلماء قد تبدّوا(أي انتقلوا إلى البادية)، فمردّ الأمر إلى ذيوع العربيّة المولّدة في المدن، وتراخي قليل أو كثير من الحضر في التمكّن اللّغويّ الفصيح. ولا عجب أن يجدوا ضالّتهم عند البدو؛ لأنّ لغة الشّعر القديم التي مثّلت مددا سخيّا لهم في وضع القواعد ووجوه التّخريجات اللّغوية كانت متداولة في بيئة البدو "الذين ترضى عربيّتهم" بعبارة سيبويه المأثورة، لسبب لا نخاله يخفى وهو أنّ الشّعر القديم كان في مجمله شعرا بدويّا. " ولكن أن يستخلص من ذلك أنّه لا وجود للغة بلا إعراب عند البدو على الإطلاق، فذلك أمر غير مقبول وحجّة واهية " بعبارة أنطون شبيتالر.

ولعلّ حديث اللّغويين عن " السّليقيّة " ممّا يؤكّد هذا الاختلاف الذي كان يضيق أو يتّسع بين الفصحى ولغة التّخاطب عند البدو. فإذا كانت الأولى معربة تكتسب بالدّربة والمراس والرويّة فإنّ الثّانية متحرّرة من علامات الإعراب وتصاريف القواعد جريا على السّليقة.وربّما كان هذا" التحرّر" القاسم المشترك المميّز بين العربيّة المحكية أو المولّدة ولغة التّخاطب عند البدو. وفي ما عداه احتفظت كلّ منهما بقواعدها وأعرافها وطرائق أدائها.

إذن قد يكون من المفيد أن نميّز لغة الشّعر القديم والقرآن من لغة الخطاب اليوميّة دون أن نفصل بينهما الفصل كلّه، والأقرب إلى الصّواب أن نقول إن ّ كلاّ منهما أثّرت في الأخرى، إذ كانت الفصحى تجري عل ألسنة المتحدّثين بهذه اللّهجات، مثلما كانت اللّهجات تجري على ألسنة المتكلّمين بالفصحى. فلعلّ هذه الفصحى اختلفت من جهة إلى أخرى تبعا لذلك.غير أنّ الجهود المنظّمة والعاملة على طرد القاعدة، للّغويّين المتأخّرين، استطاعت طمس هذه الاختلافات طمسا تامّا" .وعلى هذا النّحو يعلّل شبيتالر رأي بريتوريوس في أنّ العربيّة الفصحى"لغة فنّية خالصة". وفضلا عن ذلك فإنّ هذا الشّعر القديم شأنه شأن القرآن أو أيّ نصّ أدبيّ، جنس من أجناس المؤسّسة اللّغويّة، يقاسمها سماتها العامّة ويتميّز عنها بخصائص وأعراف وقوانين متعارفة. والّتفريق بينهما هو أشبه بالتّفريق اللّسانيّ المعروف بين اللّغة من حيث هي نظام والكلام من حيث هو أداء فرديّ، أو بين الكفاءة اللّغويّة والأدائيّة.

ويمكن من منظور كتابيّ، أن نعدّ القرآن " مؤسّسة كتابيّة ". فقد كانت دراسة اللّغة وجمعها وتصنيفها وبيان عللها وتصاريفها ومطارح اللّسان فيها تبعا له- مثلما كانت للشعر- وفروعا عنه. ولسنا نتمحّل إذا قلنا إنّ " نحو الأدب" الذي أسّس نظام الكتابة الأدبيّ عند العرب،كان في جانب كبير منه من " نحو" الشّعر والقرآن. ولا ينبغي أن تضلّلنا بشأنه مواقف بعض القدامى من الذين نزّهوا لغة القرآن عن كلّ شبهة وحكّموها في اللّغة والشّعر جميعا، وجعلوها في مقدّمة الشّواهد، ولم يرضوا الاستشهاد بالشّعر للقرآن. فقد كان ذلك لحرج دينيّ منهم، وإن سوّغه بعضهم بما طال الشّعر من تصحيف وغلط في الرّواية وانتحال وخلط في ما يقوله الشّاعر، وسمته بالشّبهة ودفعت به إلى مواطن الرّيبة والشّك. بل إنّ بعض هؤلاء الذين ارتضوا للشّعر مكانة أدنى من القرآن، كثيرا ما اتّخذوه مرجعا " للنّص" يلتمسون فيه ما استغلق من غريبه واستحكم من معانيه.ولعلّ مقدّمة القرشي لكتابه "جمهرة أشعار العرب "ـ وفيها غنى عن جلب الشّاذّة والفاذّة من قديم المصادر ـ أن تبرز ما نحن بصدده من مكانة الشّعر وما اشترك فيه والقرآن. والقرشيّ ينصّ على أنّ الشّعر جمع استشهادا" للنصّ" واحتجاجا. يقول : "هذا كتاب جمهرة أشعار العرب في الجاهليّة والإسلام الذين نزل القرآن بألسنتهم واشتقّت العربيّة من ألفاظهم، واتّخذت الشّواهد في معاني القرآن وغريب الحديث من أشعارهم وأسندت الحكمة والآداب إليهم".ذلك أنّ في القرآن مثل ما في الشّعر من اللّفظ المختلف ومجاز المعاني والزّيادة والالتفات والكناية والأضداد وما إليها من الظّواهر الفنّية والأسلوبيّة.

ومهما يكن من أمر فإنّ القرآن والشّعر تلازما في شتّى دراسات اللّغة والنّحو والبيان، وهما اللّذان نشآ واستحكما في بيئة واحدة، ثمّ هاجرا إلى بيئات أخرى غريبة شاع فيها ما شاع من ظواهر اللّحن والعجمة واختلاط الفصيح بالعاميّ. وفي سياق كهذا يمكن أن نفهم مبدأ" تهذيب اللغة " عند القدماء حقّ الفهم ـ وهو أشبه ما يكون بـ" عمود اللّغة " قياسا بعمود الشّعر ـ وندرك ما يضمره من مشادّة بين أداء شفهيّ وآخر كتابيّ، كما يمكن أن نفهم هذه القداسة المثيرة التي يضفيها المسلم على عربيّة القرآن، دون أن يتفطّن إلى أنّه يجعل إلهه الذي "لم يلد ولم يولد" يتكلّم على نحو ما نتكلّم. يقول ابن خلدون:" فلمّا جاء الإسلام، وفارقوا [العرب] الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدّول، وخالطوا العجم، تغيّرت تلك الملكة بما ألقى إليها السّمع من المخالفات التي للمستعربين، والسّمع أبو الملكات اللّسانيّة، ففسدت بما ألقى إليها ممّا يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السّمع، وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا ويطول بها العهد فينغلق القرآن والحديث على المفهوم، فاستنبطوا مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة".

ويؤكّد في موضع آخر من مقدّمته أنّه " لمّا فسدت ملكة اللّسان العربيّ في الحركات المسمّاة عند أهل النّحو بالإعراب واستنبطت القوانين لحفظها، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضعه عندهم ميلا من هجنة المتعرّبين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربيّة، فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللّغويّة بالكتاب والتّدوين خشية الدّروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث، فشمّر كثير من أئمّة اللغة واللّسان لذلك وأملوا فيه".

وعليه فانّ وضع قواعد اللّغة واستنباط قوانينها وما صنّف خلال القرون الثّلاثة الأولى للهجرة على طريقة الجمع من شعر الشّواهد وكلام العرب وأخبارهم استقصاء وتبسّطا في الوجوه الإعرابيّة والعلل النّحويّة والصّرفية لغايات الحفظ والتّعليم كان رهنا بأوضاع لغويّة طارئة واستعاضة عن حاضر لغويّ قلق مجهود، كما نستخلص من كلام ابن خلدون. وقد لا نجانب الصّواب إذا تأوّلنا ذلك على أنّه كان محاولة للتحكّم بما يسمّيه المعاصرون "ألعاب اللّغة" أو " اللّعب اللّغويّ" التي تؤلّف الخطاب الشّعريّ بما في ذلك الخطاب القرآني، كما استتبّ لدى أسلافنا من علماء النّحو واللّغة والبيان خلال هذه الحقبة، ونزوعا إلى بسط نظام لغويّ واحد هو نظام الفصحى على"أنظمة" لغويّة مختلفة كان فيها السّمع" أبا الملكات اللّسانيّة" بعبارة ابن خلدون. ولعلّ علم النّحو كما وضعه أسلافنا أن يزكّي هذا التّأويل ويرجّحه. فهو نحو معياريّ يتّخذ من الفصحى باعتبارها لغة مثالا أو لغة معياريّة موضوعا له، على حساب الاستعمالات اللّغويّة الأخرى، ويعزّز وشائج القربى بين مفهوم النّحويّة ومفهوم الصّواب النّحويّ. ولم يكن غرضه وصف قدرة المتكلّم اللّغوية وإنّما إكسابه هذه القدرة وتمكينه من الاستعمالات الفصيحة. وهو ما تؤكّده مدوّنة النّحو المعروفة وتلك المؤلّفة في "لحن العامّة "، فلم يكن غرضها وصف لهجات البدو أو العربيّة المولّدة وإنّما إثبات الصّواب اللّغويّ والتّنصيص على أخطاء العامّة في اللّغة ونطقهم بأسلوب مخالف للمألوف. يقول فك: "وأغلب الظنّ انّه (اللّحن) استعمل لأوّل مرّة بهذا المعنى عندما تنبّه العرب، بعد اختلاطهم بالأعاجم إلى فرق ما بين التّعبير الصّحيح والتّعبير الملحون…".

من البديهيّ إذن أن نعدّ لغة القرآن ثمرة أوضاع لغويّة وتاريخيّة مخصوصة وأن نقف فيها على مشادّة بين أداء شفهيّ وآخر كتابيّ، تؤكّدها الأوضاع التي بنيت عليها مصنّفات اللّغة والنّحو. فهي تخرّج قارئها تصفّحا وقراءة على نحو ما تخرّجه البادية سماعا وتلقينا، وهي التي أخذ أصحابها في تدوين اللّغة وجمعها بأنواع وطرائق من التحمّل كالسّماع والعرض والإجازة والقراءة… تدين كلّّها للأداء الشّفهيّ ويربطها به نسب لا يخفى. على أنّ هذه اللغة القرآنيّة تظلّ قرين لغة مكتوبة تتميّز عن الّلغة المنطوقة بعدد من الخصائص مثل استخدام قواعد النّحو ومفردات اللّغة استخداما محكما حتّى لا يعتورها اللّبس والغموض.

ويعزو انطوان ماييه ذلك إلى الكتابة "التي لا تملك ما يملكه المتكلّمون من مناسبة وحركات ونغمة في الصّوت توضّح الكلام الملفوظ، فإنّه لا بدّ لها من أن تستخدم في دقّة قواعد النّحو ومفردات اللّغة استخداما محكما وإلاّ جاءت غامضة غير مفهومة.ومن ثمّ فاللغة المكتوبة توضّح الصّيغ النّحويّة كما توضح قيم المفردات." فلا غرابة أن تكون المحافظة على الاستعمالات القديمة والتخلّف عن مجاراة اللّغة المنطوقة من أظهر خصائص اللّغة المكتوبة التي كثيرا ما تكون لغة خاصّة لا علاقة لها باللّغة المنطوقة كأن تكون لغة دينيّة أو لغة شعريّة كما هو الشّأن في العربيّة الفصحى التي تأدّى بها القرآن والشّعر، حتّى أنّ بريتوريوس يعدّها "لغة فنيّة خالصة" كما أسلفنا، تعلو بما لها من طبيعة مميّزة على كلّ اللّهجات. وقد تكون صورتها اختلفت من جهة إلى أخرى تبعا لاختلاف لهجات متكلّميها، ولكن جهود علماء اللّغة والنّحو الذين عملوا على طرد القاعدة واطّرادها، استطاعت أن تطمس تلك الاختلافات طمسا تامّا. وقد يُعزى طمس الاختلافات إلى الكتابة فهي تهمل الخصائص المحليّة والإقليمية إمّا لعدم دقّتها أو قصدا إلى ذلك الإهمال.

يقول فك: " إنّ أكثر ما كان يطابق المثل الأعلى في نظر النّحاة العرب إبّان القرن الثّالث هي لغة الشّعر الرّفيع الذي يحاول أن يقترب من المثل العليا للكمال اللّغويّ." ويقول هنري فليش : " إنّ لغة الشّعر العربيّ بما توفّر لها من ثروة في صيغها النّحويّة، ودقّة في تعبيرها عن العلاقات التّركيبيّة، إنّما تعدّ أعلى قمّة بلغها نموّ اللّغات السّامية".

إنّ المحافظة على الاستعمالات القديمة- وهي سمة من سمات اللّغة المكتوبة - ترجع في ما يتعلّق بالعربيّة الفصحى إلى أسباب معقّدة، لعلّ من أهمّها:

السّمات المميّزة لنظام العربّية العامّ وبعضها شديد المحافظة. ومن الصّعوبة بمكان أن نلمّ بها كلّها في هذا الحيّز فهذا يمكن أن يكون موضوع دراسة قائمة بذاتها.

من هذه السّمات ظاهرة التصرّف الإعرابيّ والنّزوع إلى الأصوات الصّامتة والحفاظ الشّديد على الوزن. فقد احتفظت ا لعربية بالتصرّف الإعرابيّ، فيما فقدته جميع اللّغات السّامية. وهي ظاهرة أفاض فيها نحاة العربيّة القدامى وتبسّطوا، وكثيرا ما استرسلوا إلى استطرادات وتخريجات شتّى تتعلّق بتقدير الإعراب على سمت تفسير المعنى أو تصحيح طريق تقدير الإعراب كلّما كان مخالفا لتفسير المعنى، وما إلى ذلك من تقديرات وبيان أوجه في الكلام جائزة ترجع إلى لغة الضّرائر والاتّساع والحمل والتّضمين والإجراء والجوار والاستغناء…فقد كانت هذه وغيرها، على تعقّدها، ممّا يستوفي الغاية التّعليميّة ويثبّت العربية قراءة وكتابة. ولم يكن القصد منها استواء الصّنعة النّحويّة فحسب.

ومن الثّابت تاريخيّا أنّ الإعراب لازم الفصحى منطوقة كانت أو مكتوبة على نحو ما لازم التحرّر من الإعراب العربيّة المولّدة، ولكن دون أن يكون هذا ولا ذاك الميسم الوحيد المميّز لهذه أو لتلك.

فلا الفصحى منحصرة في الإعراب ولا المحكيّة أو المولّدة منحصرة في التحرّر منه. ولم يكن من النّادر أن يجري الكلام معربا دون أن يكون من جوهر القالب اللّغويّ الفصيح المتعارف. وقد أورد النّحاة أمثلة منه ولم يقولوا إنّها من كلام العرب بل أنّ سيبويه كثيرا ما يقول إن هي إلاّ تقريب أو تمثيل ولم تتكلّم به العرب. ولا ينبغي بأيّ حال أن تلتبس بشواهد لغويّة ونحويّة أخرى مثل الاتّساع في وقوع المعاني على الأعيان والحمل على المعنى والحمل على اللّفظ ووضع المفرد موضع التّثنية أو موضع الجمع وإيقاع الماضي موقع المستقبل وإيقاع المستقبل موقع الماضي وما إلى ذلك من أساليب التّقديم والتأخير والحذف والزّيادة وتبادل الصّيغ وهيئات الأبنية وأحوال التّراكيب.

فهذه وغيرها أساليب تعهّدتها الكتابة وهي أمسّ بها وأعلق، وأكثرها منتزع من القرآن والشّعر. وربّما كانت الحركة الإعرابيّة في بعضها حاسمة في تحديد المعاني واختلافها دون سند من قرائن أخرى. وربّما استعصى بعضها وكان تقدير الإعراب فيه مخالفا لتفسير المعنى. وقد دأب القدامى على ردّ هذا الصّنف من لطائف العربيّة إلى البدو وصرفه إلى لهجة من لهجاتهم.

لا مراء إذن في أنّ العربية لغة متصرّفة بالمعنى الدّقيق للكلمة محافظة على نهايات الإعراب والتصرّفات المختلفة، ولكن لا ينبغي أن يسوق ذلك إلى القول بحريّة مطلقة في حركة المفردات داخل الجملة، أو أن تعدّ هذه الحرية دليلا على الإعراب. إنما الدّليل، كلّما تعلّق الأمر بالقرآن أو بالشّعر وهما معربان إعرابا كاملا، يكمن في أنّ هذين النّصّين صيغا بالعربيّة الفصحى أو ما يسمّيه هارتمان "لغة الشّعر المقدسة"وليس بلهجات الخطاب العامّية.


المراجع

alawan.org

التصانيف

ثقافة   العلوم الاجتماعية   مقالات