تشكل حرية الرأي والقول وحق الإعلام في التعبير عنهما احد الأدلة القاطعة في ممارسة الديمقراطية. كما يشكل ضمان هذا الثالوث في أي بلد مقياسا لدرجة التقدم والتطور فيه أو دلالة على حجم التخلف والاستعصاء عن مواكبة العصر والدخول إليه. ما يزال العالم العربي يعاني من نقصان فادح في تحقيق الديمقراطية خصوصا في مجال الحريات السياسية، ويدفع المطالبون بها أثمانا باهظة تدل عليها الوقائع اليومية في ما يتعلق بسجون لأصحاب الرأي والتعبير في أكثر من بلد عربي، تتحدى فيها السلطات الحاكمة الاعتراضات المحلية والدولية، غير آبهة بتقارير حقوق الإنسان التي لم تكف عن إدانة الاعتقالات الناجمة عن حرية الرأي والتعبير. لا يقدم العالم الغربي المتطور مشكلة مشابهة لما يعرفه عالمنا العربي، وقد تشكل هذه المسألة إحدى المفارقات بين التقدم وموجباته وبين التخلف وعواقبه. وعلى رغم أن التطور التكنولوجي، وخصوصا ثورة الاتصالات والانترنت، شكلت تجاوزا لهيمنة السلطة على وسائل التعبير وسمحت للرأي حرية الإدلاء، إلا أن الإفادة من هذا التطور ما يزال ضعيفا ومحدودا في العالم العربي، بخلاف اجتياحه للحياة اليومية في البلدان المتقدمة.

لا يقتصر التضييق على حرية الرأي على السلطات المهيمنة، بل تتدخل السلطات الدينية والعادات والتقاليد في مواكبة السلطات الرسمية للحد أو قمع الرأي المخالف أو المتمرد. في المقابل لا بد من الأخذ في الاعتبار أن هذا المثلث الديمقراطي يساء استخدامه لغير الوظيفة التي ناضلت المجتمعات طويلا للوصول إلى هذه الحقوق. يمثل سوء الاستخدام الذي تعبر الحالة اللبنانية عن العديد من مظاهره ضربة للمفهوم الديمقراطي وتشكل حجة في يد أنظمة الاستبداد للحد من هذه الحريات.

التناقض في العالم العربي بين النص الدستوري والممارسة العملية

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، شهد الوطن العربي نهوضا لحركات الاستقلال والتحرر، ففرضت التشريعات والنصوص القانونية المتصلة بحقوق الإنسان نفسها على غالبية دساتير الدول المستقلة. شكل إعلان حقوق الإنسان والمواطن احد المصادر الرسمية حيث تنص المادة الحادية عشرة منه على "أن حرية التعبير عن الأفكار والآراء هي من الحريات الأساسية للإنسان، وان لكل مواطن الحق في التعبير والكتابة والنشر بكل حرية إلا في حالات الإسراف في هذه الحرية وفقا لما يحدده القانون". إلا أن النص الرئيسي الذي يكتسب أهمية اكبر في هذا المجال فهو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948 والذي يكتسب قوة قانونية شبه ملزمة للدول التي وافقت عليه، وهو إعلان ينص صراحة في المادة 19 منه على: "إن لكل شخص الحق في حرية الفكر والتعبير"، كما تنص على حقه في عدم التعرض لضغوطات بسبب تلقيه أو نشره لمعلومات وأفكار بأي وسيلة من وسائل التعبير. أما "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية" الذي تم إقراره في إطار منظمة الأمم المتحدة عام 1966، فقد نصت الفقرة الثانية منه على أن "لكل شخص الحق في حرية التعبير، وان هذا الحق يشمل حرية البحث والتلقي ونشر المعلومات والأفكار مهما كان نوعها بدون اعتبار للحدود وعبر صيغ التداول الشفاهي أو عبر الكتابات والنشريات أو الأشكال الفنية أو غيرها من الوسائل التي يختارها".

تشير معظم دساتير بلدان العالم العربي إلى استجابة دولية في تضمين نصوص الدساتير ما أتت به التشريعات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة، بحيث لا يخلو دستور من الإقرار بحرية الرأي والتعبير والإعلام إضافة إلى التزام حقوق الإنسان. لكن المفارقة تكمن في النصوص الإدارية اللاحقة التي تحدد الممنوعات والقيود في هذا المجال. وعلى رغم أن قوة النص الدستوري تفرض أن تكون القوانين التطبيقية مستندة إليها، إلا أن الوقائع تظهر أن التشريعات الإدارية تكتسب سلطة فوق سلطة ونصوص الدساتير. تتيح التشريعات الإدارية للسلطات القائمة حق تعطيل الصحف لفترات غير محدودة أو مصادرة أعدادها، وتصل الأمور إلى حدود إلغاء الامتيازات الخاصة بالصحف. وتضع السلطات شروطا تعجيزية لإصدار وسائل إعلام وتفرض قيودا على النشر وتحدد عقوبات على العاملين في الإعلام انطلاقا من محرمات تطال المس بالرموز الحاكمة في الدولة. وفي بعض البلدان العربية ما تزال الرقابة المسبقة على المواد المنشورة قائمة، ويتعرض الصحفيون المخالفون إلى عقوبات تصل إلى حدود السجن. لا تكف السلطات العربية عن ابتكار وسائل التضييق والترهيب النفسي والجسدي بحق أصحاب الرأي، وهو أمر يفرض على العاملين في هذا المجال نوعا من الرقابة الذاتية تشكل الأسوأ بالنسبة لرجل الإعلام أو الفكر.

تؤكد الممارسات اليومية تجاه العاملين في الإعلام والنشر أن الأنظمة العربية تخالف دوما ما هو منصوص عليه في دساتيرها من حماية لحقوق الإنسان العامل في هذا المجال. لا تعير هذه الأنظمة تقارير حقوق الإنسان التي تصدر تباعا أي أهمية، بل على العكس تتعاطى مع هذه التقارير برفض محتوياتها، كما تعتبرها تدخلا في شؤونها الداخلية. إن ما تشهده معظم البلدان العربية من اعتقالات سياسية لقوى المعارضة فيها يشكل اكبر دليل على التناقض الفاضح بين التزام هذه الأنظمة نصوصا تنتهكها كل يوم . كما تشكل هذه الاعتقالات مظهرا للتخلف الحضاري الذي يقيم العالم العربي فيه بقوة.

معضلات سياسية واجتماعية معيقة لحرية التعبير والإعلام

تشكل السلطة السياسية بتشريعاتها وقراراتها الإدارية وعمل أجهزتها الأمنية المصدر الأول والأساسي في الحد من حرية الرأي والتعبير والإعلام. تتوسل السلطة السياسية وسائل الترهيب المتعددة والتي تبدأ من التهديد المعنوي والمادي وصولا إلى الاعتقال والحد من ممارسة المهنة وتتجاوز ذلك إلى التصفيات الجسدية وتدمير وسائل الإعلام. تساعد قوانين الطوارئ السائدة في غالبية الدول العربية من تقديم غطاء تشريعي لممارسات أجهزة الأمن وتجاوزها حقوق المواطن التي يكفلها الدستور أصلا.

منذ سنوات بدأت حرية الرأي والتعبير تواجه سلطة لا تقل عنفا وخطورة عن سلطة أجهزة الدولة، إنها سلطة المؤسسة الدينية بطوائفها المختلفة، ومن خلال ما تملكه من نفوذ مادي ومعنوي. دأبت المؤسسة الدينية في فرض رقابة على الإنتاج الفكري المتعدد الأشكال، وبموجب العلاقة القائمة بينها وبين السلطة السياسية ذات الخدمات المتبادلة، استطاعت المؤسسة الدينية أن تكون ذات باع طويل في توجيه قرارات سياسية تتوافق مع أهداف السلطات الدينية. هكذا بات العالم العربي من محيطه إلى خليجه مسرح فتاوى تحرم هذا الكتاب وتلعن صاحبه وتلزم السلطة على مصادرة الإنتاج الفكري والحجر على أصحابه، ناهيك بتحديد هذه المؤسسة للمسموح التفكير فيه والتعبير عنه أو غير المسموح. لكن نفوذ المؤسسة الدينية يتجاوز بكثير أجهزة القمع الرسمية عندما تصدر فتاوى رجال الدين بنبذ هذا الكاتب وتكفيره أو حرمانه مما يبيح هدر دمه من أي تنظيم متطرف يرى في إعدامه تنفيذا لإرادة الله ودفاعا عن دينه الحنيف. ازدادت سلطة رجال الدين مؤخرا بعد أن باتوا يمتلكون وسائل إعلام ديني مباشر مقروءا ومسموعا ومرئيا، كما أن العديد من المحطات الفضائية الواسعة الانتشار تقدم لهم تسهيلات كبيرة تساعدهم في إيصال الفتاوى إلى أوسع الأوساط الشعبية، وهي فتاوى تخلط بين المقدس والعادي من أمور الحياة وتخضع كل أمور الدنيا إلى مرجعيات فقهية ودينية وفق ما يراه هذا الشيخ أو الكاهن.

تشكل سيطرة المافيا المالية على وسائل الإعلام في عدد من الأقطار العربية عوامل سلبية تحد من حرية الرأي والتعبير. تمارس نفوذها على السلطة السياسية وشركات الإعلام فتحدد المسموح بثه والممنوع التعاطي به، وتتحكم في النتاج الإعلامي ومستتبعاته. لكن الأخطر في الموضوع يبقى في الإغراءات المالية التي تقدمها وسائل الإعلام لأوساط فكرية من اجل الترويج لمقولات سياسية أو فكرية محددة. تفيد المافيا الإعلامية المالية من الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يعاني منها العاملون في هذا المجال أما بسبب حالات النفي والتهجير، أو بسبب مشكلات مالية ناجمة عن تدهور مستوى المعيشة، وهي أمور تساهم في "شراء ضمائر" كثيرين وتوظيفها في الأهداف المحددة لهذه المافيا.

لا يمكن عزل المعضلات التي تعاني منها حرية الرأي والتعبير والإعلام عن المعضلات البنيوية التي تعيشها المجتمعات العربية، وهي معضلات تتخذ أشكالا متفاوتة تبدأ من انهيار مقومات بنى الدولة لصالح صعود بنى التقليد من عصبيات عشائرية واثنيه وقبلية وأخيرا طوائفية بامتياز. ساهم هذا الانهيار في تدمير ما كانت المجتمعات العربية قد حققته من وحدة نسبية سمحت بتكون مؤسسات مجتمع مدني إلى هذا الحد أو ذاك، كما سمحت بقيام حركات سياسية وقوى معارضة، أدت سياسة القمع الممنهج الذي مارسته أنظمة الاستبداد في العالم العربي إلى الحد من نفوذ الحركات السياسية المعارضة وتدمير قواها. لذا سينضم هذا الانهيار البنيوي ومعه تدمير قوى الاعتراض إلى العناصر الفاعلة التي حدت وتحد من حرية الرأي، وهو قانون يطال"بنعمه" جميع البلدان والمجتمعات العربية على السواء.

سوء استخدام لبناني لحرية الرأي والتعبير

تمثل الحالة البنانية نموذجا لأثر الانهيار البنيوي للمجتمع على حرية الرأي والإعلام. لسنوات مديدة تمتد إلى عمر النظام اللبناني ظل مطلب الحريات السياسية والفكرية مطلبا مركزيا لليبرالية اللبنانية ومعها القوى المعترضة على النظام الطائفي. وشكلت حرية الإعلام في لبنان حالة فريدة في العالم العربي دفعت الكثير من مفكريه وسياسييه إلى اللجوء إلى ربوعه والتعبير بحرية عن آرائهم. منذ سنوات، وفي أعقاب الحرب الأهلية وما تبعها من محاصصات طائفية لكل شؤون السياسة والإدارة والمجتمع، ومنها وسائل الإعلام، وفي أعقاب الأزمة السياسية المندلعة منذ سنوات، يمارس الإعلام دورا خطيرا في سلبياته وشحنه للمجتمع بكل وسائل التضليل والعنف. نجم عن الانهيار البنيوي وتراجع دور الدولة اللبنانية ومؤسساتها بما فيها مؤسسات المجتمع المدني، تحولا فاقعا لصالح الطوائف ومؤسساتها. تملك هذه الطوائف من دون استثناء مؤسسات إعلامية مرئية مسموعة ومقروءة، كما تمتلك نخبها اللازمة للتعبير عن أفكارها وآرائها. وبالنظر إلى استعصاء الأزمة السياسية، تحول الإعلام الطائفي إلى وسيلة تشهير وشحن للنفوس وتحريضا على أبناء المجتمع بعضهم لبعض، ومادة للتعبير عن "سقط المتاع" يحمله جمهور مملوء حقدا على طوائف أخرى. والأسوأ ما في الأمر أن وسائل إعلام الطوائف هذه لا تراعي أي حرمة، كما تمتلئ بالأكاذيب خصوصا عندما تعمل على تغطية أحداث أمنية، فتورد معلومات لا وظيفة لها سوى صب الزيت على نار الفتنة المندلعة أصلا. بات دور الإعلام اللبناني خطرا، كما صار الاستماع إليه ومشاهدة برامجه مصدر إقلاق للمواطن.

لا تعني الحالة اللبنانية تغييرا في اعتبار أن المطالبة بحرية الرأي والتعبير والإعلام ستظل في أولوية النضال الديمقراطي لأي مجتمع من المجتمعات. إلا أن هذه الحالة تؤشر في المقابل أن هذه الحريات تحتاج إلى مجتمعات سارت في طريق التقدم وتكونت لديها هيئات مدنية وسياسية تستطيع أن تحافظ عليها وتحميها من الانحراف عن الوظيفة الأصلية لها. من المقلق أن النموذج اللبناني يزحف حثيثا في العالم العربي الذي يعيش حروبا أهلية ساخنة أو كامنة، وهو أمر سيهدد إمكان أن تلعب وسائل الإعلام دورا ايجابيا في نهضة هذه المجتمعات وتقدمها


المراجع

موسوعة الاوان

التصانيف

سياسة   العلوم الاجتماعية