تكمن قيمة التنظير في العلوم الاجتماعية، والعلوم السياسية على وجه الخصوص في أنّ هذه العملية تأتي لتعكس ظواهر وتفاعلات سياسية ومجتمعية ومن ثمّ لا يمكن الحديث عن مفاهيم سياسية أو اجتماعية سابقة على الظواهر، فهي تأتي لتعكس هذا الواقع.
وعندما طرح جوزيف ناي عميد جامعة هارفارد، ورئيس مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي، ومساعد وزير الدفاع في عهد إدارة كلينتون، مفهوم القوّة الناعمة (Soft Power)، ليقابل مفهوم (Hard Power) كان يقصد أن القوة الصلبة التي تستند على القوة العسكرية والاقتصادية لم تعد كافية في الهيمنة والسيطرة، لذا كان يهدف من دراسته إلى لفت نظر الولايات المتحدة إلى استخدام قوة غير عسكرية في الترويج والترغيب لأفكارها وسياستها.فيرى أن القوة الناعمة تستند على القدرة على وضع برنامج سياسي يرتب الأولويات بالنسبة للآخرين.. حيث أنّ القدرة على تأسيس الأولويات تميل دائما إلى الارتباط بمصادر القوة الناعمة كأن تكون ثقافة جذابة، أيديولوجيا،أو مؤسسات..الخ فلو أن الولايات المتحدة تمثّل ما يريد الآخرون اتباعه لكانت الكلفة التي تدفعها للقيادة (قيادة العالم) أقل، فالقوة الناعمة، لا تعني الإقناع فهي أكثر من الإقناع والبرهنة بالجدل، فهي الإغراء والجذب والتى غالبا ما تؤدي إلى الرضوخ والتقليد.ويري ناي أن القوّة الصلبة والقوة الناعمة ترتبطان ببعضهما البعض. وتدعمان بعضهما فكلاهما مظهر من مظاهر القدرة على إنجاز أهدافنا عبر التأثير في طريقة تصرف الآخرين، وبإمكان بعض مصادر وعناصر القوة في بعض الأحيان أن تؤثر على مجمل تصرفات وسلوك الآخرين من الإجبار إلى الجذب والإغراء ولكن على الأرجح أنّ الدولة التي تعاني من انحطاط وانحدار اقتصادي وعسكري ستفقد قدرتها على صياغة أجندتها الدولية، كما ستفقد قدرتها على الجاذبية والإغراء.
ما طرحه جوزيف ناي يجعلنا نأخذ مفهوم القوّة وننظر من خلاله إلى الماضي سواء في شكله الناعم اأو في شكله الصلد. حيث من المعروف أنّ مفهوم القوّة بشكل عامّ من المفاهيم السياسية القديمة والتي أخذت تتطور بأبعاد مختلفة وفقا لمعيار الزمن والمجتمعات التي ظهر فيها وإن كان في الغالب مفهوم القوة في الماضي يأخذ الشكل الصلد له بالمعنى الحديث إلا أن هذا لا يعني أنّ مفهوم القوة الناعمة لم يكن موجودا، حيث إذا أسقطنا هذا المفهوم على الأرض نجد أن مضمون المفهوم قديم وإن كان اصطلاحه حديثا بمعنى أن مضمون القوة الناعمة ظهر مع ظهور الحضارات الكبرى في تطور البشرية.. حيث أن كل حضارة كانت لها قدرة إشعاعية وتأثيرية علي جيرانها، ليس من خلال أدوات القوة الصلبة فقط وإنما أيضا من خلال القوة الناعمة والمتجسدة في الثقافة والفنون والمعرفة، وبالتالي فالقوة بالمفهوم الذي عرفته حضارات مثل: اليونانية والرومانية، ثم بعد ذلك الحضارة الإسلامية، ثم الحضارة الحديثة على مدار القرون الثلاثة الماضية، لم يغب عنها هذا البعد والمضمون للقوة الناعية والقدرة على التأثير بناء على التفوق في هذا النوع من القوة..
ويمكن أن نسوق مثالا على ذلك، فالثورة الفرنسية عندما قامت في أواخر القرن الثامن عشر، جاءت بإمبراطورية عسكرية كبيرة باتت هي وبريطانيا تشكلان ثنائيا دوليا يتحكم في العالم ويتقاسم الثروات الموجودة في المستعمرات خارج نطاق أراضي إمبراطوريتيهما.إلا أننا نلاحظ أن الإمبراطورية الفرنسية مع امتلاكها مؤهلات وقدرات القوة الصلبة (العسكرية) إلا أنه لم يغب عنها أن تكون لديها القاعدة العلمية والثقافية والمعرفية وهي أساسيات القوة المرنة.. وقد اتضح تأثير تلك القوة في أماكن كثيرة من مستعمراتها.. فعلى الرغم من احتلالها لمصر لمدة ثلاث سنوات (1799 - 1801) إلا أننا نجد أن أثر القوة الناعمة بالمفهوم الحالي لها، ترك تأثيراته ليس فقط على المجتمع المصري، وإنما في باقي مجتمعات المنطقة المحيطة بمصر، على أساس أن الحملة الفرنسية شكلت لحظة وجودها أول احتكاك بين الحضارة الحديثة وحضارة تقليدية نمطية تعيش على تقاليد وثقافة لم تتغير منذ قرون طويلة..ومن ثمّ لم يكن من المستغرب أن يوجد بالإضافة إلى جيش الحملة الفرنسية العلماء في كافة فروع المعرفة العلمية والإنسانية.
وهذا الأثر الإشعاعي عند هذه القوة الناعمة ودون قصد قد ترك تأثيراته فيما بعد على المجتمع المصري، تمثل في فلسفة محمد علي باشا ونهج سياسته وهو الذي حكم مصر بعد خروج الفرنسيين بأربع سنوات واهتمامه وتركيزه، على مضمون القوة الناعمة التي تمثلت في التعليم والاحتكاك بالثقافة الغربية لتكون هي الدعامة الأساسية لبناء القوة الصلبة (الجيش المصري).ومن هنا فمفهوم القوة الناعمة هو الدعامة الأساسية للقوة الصلبة، بمعني بدون معرفة وثقافة وعلماء سوف لن تكون هناك تكنولوجيا وأسلحة… إلخ.
لكن التطور الذي حدث للمفهوم جاء عندما تم استخدامه بشكل أصبح فيه تابعا للقوة الصلبة، وقد اكتسب هذه التبعية نتيجة الهيمنة والقوة التي كانت تتمتع بها القوتان العظميان أثناء الحرب الباردة.. حيث أنه إلى جانب الصراع العسكري الذي كان قائما بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، كان هناك صراع هو بالأساس صراع على القوة الناعمة والذي أخذ شكل الصراع علي الإيديولوجيتين (الليبرالية والرأسمالية، والشيوعية)، حتى وإن اتخذ شكل الصراع بينهما تسابق وتصارع على تراكم وتزايد وتقدم عملية التسليح( القوة الصلدة) فيما بينهما.
ومن هنا نلحظ أن كل معسكر خلال الحرب الباردة كان يحاول أن يستخدم أدوات القوة الناعمة، كل حسب قدراته. وهو ما شكل وجها آخر من وجهات الصراع، لذلك عندما انهار الاتحاد السوفيتي، فهو لم ينهرعسكريا (القوة الصلبة)، وإنما انهار من ناحية القوة الناعمة.
فأيديولوجيته (الشيوعية) كقوة ناعمة قد أفلست وافتقدت لتأثيراتها وفاعليتها داخل المجتمع الروسي، وهو الأمر الذي يؤكد أنّ القوة الناعمة قد تكون هي أساس ومعيار قوة أي دولة وترجمة ذلك في سياساتها الخارجية ويمكن الاستدلال علي ذلك بالنسبة للحالة المصرية.. فنجد أن مصر في محيطها العربي دائما كانت تتمتع على مدار القرن العشرين بسمة جمعها بين المفهومين للقوة بل في أحيان كثيرة كانت هيمنتها وسيطرتها في سياستها الخارجية نابعة بالأساس من امتلاكها أسس وآليات القوة الناعمة.كانت لها ريادة في مجالات الفن والصحافة والأدب، الأمر الذي جعل من الثقافة المصرية قوة ناعمة في المنطقة العربية على مدار القرن العشرين وبات لمصر دور سياسي كبير نابعة أهميته بالأساس من امتلاكها لموارد هذه القوة المتمثلة في الثقافة والفنون وغيرها.
وقد تعمد الباحث الاستطراد في هذه الجزئية المتعلقة بالقوة الناعمة ليؤكد أنه إذا كان المفهوم اكتسب هذا المسمى على يد جوزيف ناي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي فإن ذلك لا يعني أن مضمون المفهوم لم يكن موجودا بل على العكس كان موجودا بشكل قد يفوق في قوته وتأثيره الشكل الذي هو عليه الآن.. فالسياسة الأمريكية في حربها الباردة مع الاتحاد السوفيتي قد استخدمت ووظفت مفهوم القوة الناعمة بشكل كبير، الأمر الذي جاء بنتائج ايجابية كبيرة .. على عكس سياستها بعد ذلك والتي اعتمدت فيها على استخدام القوة الصلبة أكثر من استخدامها القوة الناعمة في تحقيق سياساتها الخارجية .. ومن ثم لم يكن تنظير جوزيف ناي للمفهوم إلا انعكاسا لهذا الخلل الذي بات يحدث في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية..ويمكن التأكيد علي هذا الفشل في سياساتها الخارجية في حربها على الإرهاب. حيث أن هذه الحرب كانت هي الأولى باستخدام آليات القوة الناعمة .. نظرا لطبيعة الهدف الذي تشن عليه الحرب غير المحدد المكان والقوة، وكل قوته تترجم في عقائد وأيديولوجيات وعمليات انتحارية.
ويمكن في هذا الإطار تحديد أهم المحطات التي اتبعتها الصين في تطبيقاتها للقوة الناعمة.
—أن الصين إلى وقت قريب قد مارست قوة ناعمة محدودة، حيث كانت تتبع سياسة خارجية دفاعية. إلا أن عام 1997 جاء ليكون علامة بارزة لظهور القوة الناعمة عندما رفضت تقليل قوة عملتها على خلفية الأزمة المالية في آسيا. ومنذ ذلك التاريخ بدأت الصين تستخدم تطبيقات القوة الناعمة حيث دشنت ما يعرف باسم استراتيجية توزيع المكاسب Vin-Win Strategy في سياستها الخارجية.
وأعلنت أنها ترغب عبر ذلك إلي الاستماع للدول الأخرى بمنطقة جنوب شرق آسيا، واتخذت مبادرات حقيقية بالتوقيع على اتفاقية ’صداقة’ مع دول شرق آسيا، كما ألزمت نفسها بالعمل على إيجاد طريق للتعامل المرن في منطقة بحر الصين الجنوبي.
وتشمل الاستراتيجية الصينية في بعض مكوناتها على التركيز على الدول ذات العلاقة المضطربة مع الولايات المتحدة مثل الفلبين وكمبوديا .. كما يعمل الصينيون على التسويق للسياسة الصينية كجزء من دبلوماسية عامة ومركبة وهو ما يعد نوعا من القوة الناعمة المنخفضة. حيث أن المسؤولين الصينيين قاموا في عام 2004، 2005 بضعف زيارات عدد نظرائهم الأمريكيين في المنطقة.
كما أن الصين نجحت في تطبيق مفهوم ’التنمية السلمية’ من خلال تنظيم المعارض الفنية بالعديد من دول العالم. كما أسس معاهد كونفوشوسيه لتعليم اللغة الصينية داخل الجامعات الكبرى في شرق آسيا. وقد ساعدت النشرات الدولية التي تقدمها الإذاعة الصينية، في توسيع انتشار اللغة الصينية بالمنطقة.. هذا فضلا عن إعطاء منح دراسية لطلاب في دول شرق آسيا للدراسة في الصين.
هذا فضلا عن اتباع الصين لسياسة التجارة الحرة لتكون مصدرا للاستثمار الخارجي المباشر فهي تنتقل من مرحلة اتفاقيات التجارة الحرة مع دول جنوب شرق آسيا إلى مرحلة التفاوض من أجل بناء شراكة اقتصادية .. الأمر الذي جعل حجم التبادل التجاري فيما بينها وبين دول المنطقة يفوق نظيريه الأمريكي والياباني.
وتبرز قيمة ربط مفهوم القوة المرنة بالصين في هذه الحالة لتؤكد أن آليات ودعائم القوة الناعمة ليست حكرا على دولة معينة فالتاريخ يشهد بأن القوة نفسها هي تتداول بين الإمبراطوريات والحضارات، وبالتالي ليس من المستغرب أن يأتي يوم وتكون اللغة الصينية هي اللغة الأولي في العالم، وتتواري اللغة الانجليزية نتيجة هيمنة وسيطرة القوة الناعمة الصينية وتفوقها على غيرها من القوى الموجودة في منظومة التفاعل الدولي، فحدوث هذا الأمر ليس مستبعدا وفقا لسنن التطور الحضاري.
وفي النهاية ما جاء به جوزيف ناي كان بمثابة توصيف لأمر موجود من أزمنة طويلة مع الحضارات البشرية المختلفة والذي يحسب له فقط هو المصطلح اللغوي الذي دشن به مفهوم القوة الناعمة.
على أنه يبدو أنّ الأثر الفجائي لأحداث 11 سبتمبر ومتغير القيادة السياسية قد لعبا دورا سلبيا في رشادة القرار السياسي الأمريكي لسياساتها الخارجية .. الأمر الذي أصاب الإمبراطورية الأمريكية من جراء سياساتها هذه بوعكة قد تفقدها الكثير من قوتها الإمبراطورية..
خصوصا في ساحة النظام الدولي الذي باتت هناك قوى جديدة تبزغ في أفقه وتعتمد في نهجها وقوتها على تدارك الأخطاء التي دفعت فيها الولايات المتحدة فتتجنبها، والمثال الحي على ذلك دولة الصين.. التي باتت قوة عالمية بتركيزها على القوة الناعمة بمفهومها الاقتصادي والدبلوماسي حيث بدأت الأوساط الأكاديمية تتحدث عن القوة المرنة الصينية والتي بدأت تستفيد من عثرات الإدارة الأمريكية سواء ببطء رد فعلها تجاه الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997 في عهد كلينتون وصولا إلي قصر نظر إدارة الرئيس بوش في مواجهة الإرهاب.. حيث قد انعكس ذلك على قوة الصين الناعمة في اتباعها الإقناع بدلا من الإكراه وتعظيم قدرتها على جذب الآخرين عبر وسائل عديدة ثقافية ودبلوماسية واقتصادية، فضلا عن المشاركة في الكثير من المنظمات الدولية.
المراجع
موسوعة الاوان
التصانيف
سياسة