يلتهم الدين متدينين شبه محترفين، فلا شيء خارجه ولا شيء ضده، كل شيء فيه. إيمان المسلم بديهي، وراثي، مجرد اعتقاد يرتكز على المقدس والدوغما. كل الطرق تؤدي إلى المسجد. " الوطن كله ذاهب للصلاة "(ذاكرة الجسد ص12). ليس الإيمان إلا انتماء تلقائيا إلى ذاك ’الإيمان الرسمي’ المفروض. لم يبذر الرئيس الجزائري بوتفليقة المال العام في توزيع المئات من ’الحجات’ على بهلوانيين يحترفون الرداءة في الغناء والتمثيل وغيرهم من المتسلقين والمتأسلمين بل سمح لنفسه اقتراح نفس الشيء على الروائي الجزائري اليساري النزعة الطاهر وطار وأسعد صاحب ’اللاز’ ما تبقى من العقلانيين في الجزائر حينما وصف الأمر بأنه تدخل واعتداء على ضميره الشخصي.

لا مكان للشك هنا، "كلنا مسلمون"، فلا حاجة إلى عقول تتساءل. كل من تمنطق تزندق، وما الفلسفة إلا التيه في متاهات الشك، والشك مفتاح الشرك. ينبغي والحال هذه إبعاد العوامّ عن علم الكلام. لا تطرح مسألة الحقيقة بتاتا لدى المؤمن لأنه يملكها طازجة. يقدم له دينه أكمل طريقة استعمال للوجود، ينهل منها وصفة جاهزة لكل ما تطرحه عليه الحياة والموت من قضايا.

تُلطف كل روحانية عميقة مسحة من التساؤل والشك. أمّا الديانة فهي روحانية تدحرجت نحو أجوبة قاطعة في أغلب الأحيان. "لا جدوى من آلات الكومبيوتر، يقول الرسام بيكاسو، فهي لا تقدم سوى أجوبة". لا أثر للفلسفة في المدرسة العربية الإسلامية. تبقى "فريضة غائبة" في مجمل البرامج البيداغوجية. وحينما تحضر في بلدان قليلة، تكون أقرب إلى الفقه منها إلى حبّ الحكمة. وعلى عدائها التقليدي للدين لم تتمكن في بلدان الإسلام من الهروب بجلدها من هستيريا الأسلمة المهيمنة. لقد تم أسلمتها: يقولون فلسفة إسلامية، دون خوف من التناقض ولا من التفاهة. إن الفلسفة تساؤل مستمر حول الحقيقة. كيف يمكن الحديث عن فلسفة مّا حينما نعتقد أننا نملك الحقيقة المطلقة وكفى المؤمنين شر البحث والتفلسف من أين جئنا؟ من نحن؟ وإلى أين نحن سائرون؟ تلك أسئلة يجيب عنها القرآن والتفاسير ببساطة لا متناهية. فلماذا نتفلسف إذن؟ لماذا نطرح مسألة اللغة مثلا؟ ألم يعلم الله آدم الأسماء كلها؟

لقد جذب الفقه البساط من تحت الفلسفة. ولم تعد مهمتها الأخيرة هنا إلحاق "الأذى بالحماقة" كما تقول عبارة نيتشه الجميلة. لا مكان هنا للماذا؟ يدرس الطلاب في "بلدان الله غالب" و"إن شاء الله" شيئا يسميه أساتذتهم فلسفة وما هو بالفلسفة. كيف نسمح لأنفسنا أن نربط الفلسفة بدين مّا ونقول إنّها فلسفة إسلاميّة أو يهوديّة…؟ ونحن نعلم علم اليقين أنّ كلّ الديانات التوحيدية قد جعلت الفكر عموما والفلسفة بشكل أخص في خدمة الفقه. ألم يكن مشروع ابن رشد جَعل الفلسفة خادمة للدين، والعقل خادما للوحي؟ ألم يعلن عن قصور العقل في حال تصادمه مع الشرع بقوله في " تهافت التهافت" إنّ " الفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع، فإن أدركته استوى الإدراكان، وكان ذلك أتم في المعرفة، وإن لم تدركه أعلمت بقصور العقل الإنساني عنه "؟ أليست الحكمة في رأي ابن رشد "صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة…وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة "؟ هل تردد في القول بوجوب قتل الزنادقة؟ ألا يحاول " فصل المقال" عقد تصالح بين العقل والوحي؟ هل هناك رابطة ما يمكن أن تربط بين الفلسفة والشريعة؟ يهدف الدين إلى خلاص الإنسان بينما تفتح له الفلسفة طرقا شتى ليخلق لنفسه سعادة خاصة.

في مداخلته ضمن " أيام ابن رشد" سنة 1998 التي تقام كل سنة في إكس أون بروفنس، جنوب فرنسا، ذهب محمد عابد الجابري بعيدا جدا حينما اعتبر الرشدية أصل الحداثة. رغم كل ادعاءات المشتغلين بالفلسفة، عربهم وعجمهم، لا يمكن لتجربة قاضي قرطبة أن تنتج "عقلانية" بأي حال من الأحوال. لم تكن لابن رشد لا الرغبة ولا الظروف المناسبة للتحرر من وصاية السماء. ربما كان ضحية عصره، أما الذهاب إلى اعتباره مفكرا عقلانيا فهو ضرب من الكذب على النفس لدغدغتها. فلئن أعاد ابن رشد بعض سؤدد للنظر الفكري فإنه لم يفصم عراه باللاهوت. حُوصر الفكر العقلاني الحر وباتت العلاقة المزعومة بين العقل والإيمان زيجة رسمية…ونسي أصحاب الوليمة اللاعقلانية أن ممارسة الفلسفة بأمانة تتناقض تماما مع الإيمان وأن الإلحاد مهنة الفيلسوف.

في منتصف ثمانينات القرن الماضي، حاول بعض من تعتبرهم الإدارة الجزائرية أساتذة فلسفة ( والذين يُدرِّسون "الإسلام هو الحل" في واقع الحال) أن يقودوا حركة ضد تعليم مادّة الفلسفة لطلبة البكالوريا في الجزائر. وقد أمضى العشرات منهم عريضة تطالب الوزارة بحذفها من البرامج نهائيا. وكان الهدف ولا يزال حرمان التلاميذ من الحوار الحر والجدل والاختلاف الجذريّ ليسهل دمجهم في إجماع مقيت ولتنمية الأوهام والمحافظة على الأفكار المسبقة التي زرعت فيهم في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة. ولكن الأتعس هو أن نرى أساتذة فلسفة جامعيين يقدمون أحاديث دينية دعوية على شاشة التلفزيون هل من الصدفة أن يتعاقب على رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى أساتذة درّسوا الفلسفة في الجامعة الجزائرية، بل كانوا على رأس معهد الفلسفة ثم انحدروا إلى "رأس الحكمة مخافة الله"؟

إذا كانت مهمة الفلسفة هي مد الإنسان بالشجاعة الفكرية، فقد أخفقت في بلدان الإسلام إخفاقا ذريعا. لم تُعد النظر في النظام الاجتماعي ولا النظام الأخلاقي ولا النظام الروحي. وهي لا تقلق بالتالي النظام القائم ولا أصولييه الذين يتخفى وراءهم. في غياب الفلسفة والتفكير الحر، تبقى المسلَّمات في التوالد وتبقى الذات المتوهمة تتوهم ويتوالى الانحدار نحو التعصب وتزداد معاداة الصيرورة. هكذا يكون التلميذ المسلم في منجى من الشك، لكن ينشأ تحت ظلال اليقين. ولا يتوانى في فرض هذا اليقين على الآخرين حينما يصل إلى سن تسمح له بذلك وربما قبل البلوغ. فمن يجد الحقيقة الإسلامية لا يحتفظ بها لنفسه. ومما يزيد التعصب تصلبا ذلك الاعتقاد الراسخ القائل بعدم جدوى أي إيمان إن لم يقترن بأفعال. ربما من هنا تأتي الأصولية فما هي في النهاية إلا الاعتقاد بامتلاك الحقيقة وعقاب الذين لا يريدون الأخذ بها. "يستلزم كل يقين شمولية معينة. نلبس جلد مجرم في نفس اللحظة التي نعتقد فيها أننا فهمنا كل شيء". يقترب الفيلسوف سيوران في هذه الشذرة من الإحاطة الكاملة بحقيقة كل إيمان، فالتسامح وليد الشك والفلسفة، والتعصب ابن اليقين والدين.

لا يمكن أن تكون الفلسفة شيئا آخر غير انتفاضة راديكالية ضد كل من يريد ممارسة سلطة على وعينا، ضد أن نكون مُراقبين، مُفتشين، مأمورين، كما تقول عبارة برودون الخالدة.


المراجع

موسوعة الاوان

التصانيف

فلسفة  فلسفة دينية